مسرح الصوامت

عبد الفتاح رواس قلعه جي - كاتب مسرحي وباحث أكاديمي وناقد سوري

 

سنوات عديدة والكاتب والناقد والمخرج المسرحي صباح الأنباري يعمل في التجريب على المسرح الصامت كموازٍ لمسرح الكلام أو كما يسميه بـ (الصائت) وليس بديلاً عنه، وقد كتب في هذا المجال مقالات نظرية ومسرحيات صامتة قاربت أو تجاوزت ست عشرة مسرحية منها: متوالية الدم الصماء، محاولة لاختراق الصمت، الهديل الذي بدد صمت اليمامة، سلاميات في نار صماء، حجر من سجيل، هرم الصمت السداسي، المروضة، وقطار الموت.

ليس المسرح الصامت بدعة وإنما هو مؤسس على سابق له هو البانتونايم ولكن هذا يشكل على الأغلب حالة مسرحية فردية بمعنى أنه بمثابة المونودراما في مسرح الكلام ، أما المسرح الصامت الذي يقدمه الأنباري من خلال نصوصه التطبيقية أو توصيفه النظري فهو مسرح جماعي، شأن المسرح الجماعي في مسرح الكلام، يشترك فيه ما يقتضيه العرض من الممثلين، ويُسند فيه التعبير ليس إلى المسرد الكلامي الملفوظ وإنما إلى المسرد الحركي وما يتبعه من تشكيلات وتكوينات جسدية فردية أو جماعية، أو حركة مجموعات، فهو مسرح بصري يضج بالكلام ولكن من غير كلام، وميزة هذه العروض الصامتة أنها تستطيع أن تتجاوز مشكلة اللغة، فقد بقيت حواجز اللغة أمراً مشكلاً في المسرح بين الأمم والشعوب، ولهذا جاء المسرح الصامت ليستبدلها بلغة الجسد والإشارة وهي لغة  إنسانية مشتركة أكثر سهولة وجمالاً وإدهاشاً وتحفيزاً للخيال عند المتفرج وذلك من خلال السرد الحركي والبصري والاهتمام الفائق بمكونات العرض البصرية والسمعية في إطار سينوغرافيا متقنة ودالة. مثل هذا التقاطع والافتراق بين النوعين : الصامت والبانتومايم، نجده أيضاً بين المسرح الصامت وبين المسرح الحركي والراقص، فهو يستفيد منهما ويفترق عنهما، وبالرغم من أن استخدام الجسد الإنساني كلغة موازية أو بديلة، والتشكيل به، والتعبير بوساطته، يجمع بين الأنواع الثلاثة إلا أن كلاً منهم يتعامل مع الجسد بشكل يختلف عن الآخر، فالأولوية في المسرح الصامت ليس لاستعراض جماليات الجسد واستنطاقه وإنما الأولوية للموضوع الذي تقدمه قصة المسرحية أو فكرتها أو لوحاتها والتي يكون حاملها على الخشبة هو مجموعة الممثلين بأجسادهم وخطواتهم وحركاتهم المرسومة بعناية فائقة بشكل معادل لمجريات الأحداث، ومن خلال ميزانسين عام ، بالإضافة إلى دعم المجهود التعبيري والسردي بعناصر العرض الأخرى من ملابس وديكور وإضاءة وموسيقى ومؤثرات صوتية، وبذلك يكون المسرح الصامت في المحصلة فناً بصرياً بامتياز يزخر بالدالاّت والمدلولات ، وبالعناصر الإشارية

ورغبة من الأنباري في ألا تكون هذه النصوص الصامتة مقتصرة في حياتها على الخشبة فقد عمل على فكرة تأليف مسرحيات صامتة قابلة للقراءة، يمكن أن تجنس أدبياً مستشهداً بمسرحية "فصل بلا كلمات" لبيكيت، بحيث يجد قارئها أنه أمام قصة قصيرة تستوجب منه المتابعة والتخيل البصري، ولكنه يرى أن أياً  من الكتاب المسرحيين لم يكمل بشكل واضح وجلي ما بدأه بيكيت ولا حتى بيكيت نفسه. وظلت المسرحية الصامتة رهينة الخشبة.

يحتاج المسرح الصامت من كاتبه إلى مخيال واسع وناصع، وقدرة على تحويل المدلولات من حواملها الكلامية –اللفظية- إلى حواملها الحركية والجسدية والتشكيلية، كما يحتاج إلى وضع معالم طريق للفكرة أو اللوحة أو القصة مؤسسة على تلك الحوامل لئلا يسقط النص أو العرض في الإبهام، ويكون في الوقت نفسه محافظاً على جماليات الغموض الفني.

        لم يكن الأنباري منظِّراً فحسب للمسرح الصامت وتوصيفِه وشروطه وتبيان قواعده وإنما كان مجرباً أيضاً في نصوصه المسرحية بحيث تأتي متوافقة مع بحثه النظري، ومن يعد إلى مسرحياته في الكتاب يجد أنه تتوفر فيها الشروط التالية:

1 -  اشتغاله على التشكيل الصوري واعتماده كأداة من أدوات النص الأساسية، وبتقارب الصور، وتعاقبها، وتساوقها، وتداخلها يتشكل المعنى العام في هيئة نص مدون على الورق أو عرض قائم على الخشبة.  

2- بناؤه النص على قصة أو حكاية تراثية أو قضية معاصرة مثلما فعل في نص "عندما يرقص الأطفال" وفيها يقدم المؤلف للأطفال أحداثاً من ملحمة جلجامش أضاف فيها إلى بعض شخصياتها الأسطورية شخصيات أخرى وأطفالاً يشاركون في صنع الحدث لتصبح كوميديا خفيفة يجد فيها الطفل نفسه مشاركاً ومستمتعاً.  أو كما فعل في نص "حدث منذ الأزل" وهو نص زاخر بالحركة والأحداث المتعاقبة منذ بدء الوجود البشري مع آدم وحواء وقصة التفاحة، وهبوطهما الغضبي العنيف المنذر إلى الأرض "وقلنا اهبطوا منها بعضكم لبعض عدو" ، والصراع الدموي المستمر إلى اليوم على السلطة والتملك، ودَوْر المرأة في هذا الوجود الدموي، إنه صراع بين الخير والشر، بين القبح والجمال. هذا الوجود الإنساني على الأرض الذي ابتدأ بجماليات الحب وموسيقاه واللقاء العاطفي بين أول كائنين على الأرض، وانتهى اليوم ولا يزال مستمراً بمشاهد سمل الأعين والموت والدمار والمشانق على ضجيج المارشات العسكرية. وهذه الفكرة تعود من جديد في صياغة أخرى تطال في هذه المرة تعرية الحاكم الطاغية، وذلك في نص"متوالية الدم الصماء" وبطعم عراقي يدل عليه المكان وهو المعبد /الزقورة/ والكاهن، والألبسة السومرية، في تراتب تاريخي ثم مزج حاد وفاضح مع ما هو عصري من كهنة جدد، وتقنيات علمية تتمثل في مركبة فضائية يهبط منها رجال يمثلون قوى الطغيان العالمي يُجرون عملية نقل الدم لرجل من شعب الزقورة يختارونه ليكون الحاكم المطلق باسمهم وبأيْدِهم، وهي عملية ترمز إلى إعداد الغرب الاستعماري لملوكنا وحكامنا، وحقنهم بمصل القوة الغشمية، وإذا كان الحاكم القديم قبل آلاف السنين يحكم باسم الآلهة السومرية ثم يؤله نفسه، فإن الحاكم المعاصر يحكم باسم الآلهة الجدد القادمين بتقنياتهم المدمِّرة من الغرب، ثم يؤله نفسه، ويباركه كهنة السلطان المعاصرون فيطغى ويبغى، ويغتصب، ويقتل، وينصب المشانق، فإذا انتهت مهمته، تخلّى عنه صانعوه ليُحلّوا غيره مكانه بمهمة أخرى. وهذا ما نراه اليوم من تخلي قوى الغرب المدمِّر عن عملائهم من الحكام الذين أخلصوا في خدمتهم وباعوا أنفسهم لهم، واشتروا عروشهم بدماء شعوبهم، فتخلى عنهم سادتهم آلهة الكون، وراحوا يعملون على اصطناع حكام آخرين.  

3- تضمن النص مَعالمَ طريق تقوده في جلال وجمال الغموض الفني المستحب إلى مضموناته وأفكاره وحكايته بيسر وسهوله بحيث لا يضل السبيل إلى المراد، ومن غير أن يزجه في متاهات الإبهام.

في مسرحيته "الهديل الذي بدد صمت اليمامة"لا يمكن أن يخطئ المرء  تلمس قصة المرأة الوحيدة التي غاب عنها حبيبها أو زوجها، ودالُّ الغياب هنا أو معلم الطريق إلى المقصود هو الكرسي الفارغ وكأس العصير الذي ينتظر صاحبه، غاب بسبب الاعتقال أو الحرب أو بسبب فتنة وحرب أهلية، ودالاّتها : أصوات انفجار القنابل المتقطعة، أما الرواية التي تقرؤها وعنوانها واضح للجمهور " ذهب مع الريح" فإنها تَردُّنا إلى جوهر مأساة هذه المرأة وهو ذهاب حبيبها مع رياح الفتنة الدموية، وتغرق المرأة في الحزن والإحساس بالوحدة والوحشة والخوف والبكاء، هذه المرأة الناعمة وهي عنصر الجمال في المسرحية مع هديل الحمام الشجي الجميل وفي مقابل هذه الجمالات الحزينة، وللحزن جماله المؤثر الذي ينخر في العظم، في مقابل ذلك يقف القبح في أقصى درجاته، أصوات قصف وانفجارات وهرولة جنود، ومَشابكُ تسقط من أعلى المسرح لتتحول الخشبة كلها إلى سجن، وتضيِّق المشابك حصارها للمرأة، ويتقدم رجال قبيحو المظهر والمخبر ليقوموا باغتصاب هذه المرأة في غياب زوجها، أليس هذا ما يحدث في هذا العصر العربي الأرعن إبان الحكم الشمولي والمعتقلات أو إبان الفتن والثورات؟

المرأة – اليمامة واقع ورمز، هذه المعادلة الرائعة للكاتب ، مع رواية الحزن "ذهب مع الريح" بها تنتهي المسرحية، تنتهي بانتصار الجمال على القبح رغم الحصار والسجن والموت والاغتصاب.

" وعندما تشرع بالبكاء تسمع هديل اليمام مره أخرى فترفع رأسها.. تنظر الى البعيد.. تتناول رواية (ذهب مع الريح) وتسترسل في القراءة.. تختفي الإضاءة تدريجيا بينما يستمر الهديل حتى النهاية".  

7- نصوص الأنباري في معظمها هي نصوص رؤيوية، جوهرها هو الوجود الإنساني الذي يجمع بين عذوبة الحب وقسوة ووحشية الواقع، فهو لا يبحث في فلسفة هذا الوجود وإنما في موقع الإنسان منه، والإنسان العاشق والمقهور والبائس، الإنسان الخيِّر بكل مقوماته الأخلاقية النبيلة وعواطفه السامية لديه هو مركز الكون وخليفة الله في أرضه.

أهمية هذا المشروع تكمن في ريادته وفي الخروج بالعرض الإيمائي الذي كان يطغى عليه الفردية إلى الدراما الصامتة بشخصياتها المتعددة وتشكيلاتها وتكويناتها، وقصتها المحكمة المستفادة من الواقع وقضايا العصر أو التراث المستلهم في صياغات شكلية وفكرية معاصرة، أو مجالات الفكر عموما، وفي الدراسة الدالة المتقنة للحركة والتعبير ولغة الجسد، والاهتمام الفائق بعناصر الفضاء المسرحي من موسيقى وإضاءه وتزيينات وديكور وملابس وأقنعة..وغيرها في رؤية سينوغرافية آسرة إنه تجريب أصيل يستحق الرصد والمتابعة ولاشيء ينهض بالمسرح سوى التجريب.

أخيراً

هذه بعض اتجاهات مابعد التجريب، ويسوقنا هذا أخيراً إلى أن نسأل أنفسنا: هل هنالك حقاً ما بعد المسرح؟

في أواسط القرن الماضي كان الناس يمارسون المسرح ولم يكونوا يتساءلون عنه، وكان المرء يختار من بين عروضه ما يرغب به من مسرح شعبي أو كلاسيكي أو مسرح عبث أو غير ذلك ليقضي سهرة ويجد موضوعاً لأحاديث العشاء، ثم أصبح المسرح نفسه موضوع نفسه وراح المسرحيون يحلمون باكتشاف أشكال غير لفظية للتعبير الدرامي، والسفر في حقول إبداعية مجهولة، فالتجؤوا إلى استلهام أشكال طقسية ومسرحية في آسيا وأفريقيا والبرازيل وغيرها ، وهكذا ظهر المسرح الحي وتساءل بعضهم إن كان المسرح الحي living theater  كما ساد الاعتقاد فترة بأنه يمثل نهاية المسرح، ثم بهر الأنظار مسرح الحدث  happening بممثلاته الشابات السويديات أو الأمريكيات اللواتي كن يخلعن ثيابهن وسط الشارع، وتساءل الناس من جديد هل هذا هو نهاية المسرح؟

ومع استشراف تجارب مستقبلية منفلتة تماماً، بدعاوى الحرية المطلقة في الإبداع، بل إن الإبداع صار قيمة مطلقة، أقول.. منفلتة تماماً من كل المسلمات والقيود والمفاهيم الفكرية والشكلية نجد أن المسرح قد التزم طريقاً مجهولة ربما تؤدي في النهاية إلى نمط تعبيري يحل محل الكتابة، وتدعونا إلى أن نتساءل في النهاية: هل هذا مسرح؟ وهل ما زلنا بحاجة إلى المسرح؟