خطوات في الاتجاه المعاكس مع صالح الرزوق وصباح الأنباري

"قراءة انطباعية في كتاب "الاتجاه المعاكس في كتابات صباح الأنباري" للدكتور صالح الرزوق"

صالح الطائي

 

   لا أدري إن كان للمهنة التي يمارسها الشخص انعكاسا على شخصيته وطريقة تفكيره ولاسيما، وأنها تأتي متأخرة عن مراحل النمو والنشأة والتطور، بما فيه التطور الفكري والسلوكي، بمعنى أنها تأتي إلى بيئة معدة سلفا ومناسبة لاحتضانها والمفروض بها أن تتأثر لا أن تؤثر في ذلك، ولكن الظاهر أن بعض سلوكيات المهنة تطبع الإنسان بسلوكها وتسحبه من خصوصيته إلى خصوصيتها لتعطيه أشياء من أشيائها ونفحات من روحها وقبس من جوهرها؛ فيحدث الامتزاج الدلالي. كما لا أدري إن كان المكان يُطبِّع المرء بطباعه ويبوءه صفات بيئته وأجوائه ولكن الظاهر من خلال التجربة والمعايشة أن للمكان أثرا على سلوك الإنسان، وكلما تحضر المكان وتمدن، تطور معه سلوك أهله نحو الأحسن لأن المثقف والمتحضر يشعر بمكنون الجمال أكثر من الآخرين. معرفتي البسيطة بالدكتور صالح الرزوق كادت أن تقودني عنوة إلى الإيمان بهذه الحقيقة، حقيقة أن المهنة والمكان تؤثران على المرء وتتفاعلان مع وجوده، بعدما وجدت دكتور الكيمياء الذي يعطي دروسه في كلية للزراعة قد تعلم من الكيمياء أن يقوم بالتحليلات والتفاعلات ليصل إلى حقيقة المكونات، وتعلم من المواد الكيماوية أن تفاعلها مع بعضها ينتج مواد ومركبات تختلف كثيرا عن الأصل، وتعلم من مراقبة الزرع كيف أن حبة يحيطها الموات تتحول بوجود العوامل المساعدة والبيئة الصالحة إلى عود رفيع يتشظى ويتفرع ليتحول بصبر إلى شجرة وارفة تغدق خيرا وعطاء، وتسهم في دوام الحياة وبث المحبة والجمال. وإذا ما كانت المساحات الشاسعة من صحراء العرب الخالية من كل محسوس، والمتلفعة بثوب لونه رملي أصفرا مغبرا، والتي يحيطها الخطر، ويتلبسها الموت قد ولدت أكثر الأنبياء شهرة ومشاكسة في التاريخ، فإن بيئة الرزوق التي تحيطها الرهبة والخوف والخطر، وحالة الوحدة القسرية التي فرضت عليه عنوة يبدو أنهما تعاونتا سوية لتخلقا من رجل الكيمياء حكيما تأخذه الرهبة واحترام الماضي أن يتحول إلى نبي في زمن اللانبوة، فيكتفي بهضم حكمته علها تثمر كما يثمر الزرع. وحينما يتحول الخوف إلى هاجس يومي ترتسم صوره الجميلة والبشعة على وجه الحياة بكل مفاصلها، تتساوى النظرة إلى الأشياء ويموت الحلم بالمستقبل، ويقل الالتفات إلى المصير، ويصبح الإنسان ابن لحظته التي يعيشها، يختزل حياته وتجاربه وما تعلمه طوال عمرة في كل دقيقة من دقائقها، حيث التركيز على الجوهر والأصل والمعدن والمكون، دون النظر إلى البراقع الزائفة التي تفقد أهميتها، بل وتتلاشى وكأن قوة النظر تخترقها لترى ما تحتها، حتى لو كانت قد قدت من صخر.

وحينما يتصيد المرء أيام حياته التي يعيشها من بين فكي الموت ليجلس في آخر النهار ينظر إلى دخان سيكارته يخترق جو المكان، يشعر أنه لا زال على قيد الحياة، وانه نجح فعلا في سل يوم آخر من بين أسنان المستحيل ليضاف إلى رصيد الوجع التاريخي الذي تركه خلفه، تتحول الدقيقة إلى ثروة غير قابلة للتبذير إلا في المكان الصحيح الذي ينتج دقائق إضافية.

   هذا هو صالح الرزوق الإنسان والفنان بلا رتوش، رجل يحلم أن تتحول الدمعة إلى ابتسامة في زمن البكاء، من دون أن يُشعر الآخرين بجبل همومه الذي تنوء بثقله العصبة. ومتى ما عاش الإنسان هاجس التشظي يتطبع بروح المقاومة والانقلاب على المألوف، ولكنه ما إن يجد انقلابيا مثله حتى ينجذب إليه وكأن بينهما رابط سري لا تراه العيون المجردة. ولذا لا غرو أن يجد في صباح الأنباري ضالته التي يبحث عنها، فصباح هو الآخر، كما يصفه الرزوق في مقدمة الكتاب: "يمكن اختصار تجربة صباح الأنباري مع الدراما بفكرة بسيطة: هي الانقلاب عليها وإعلان موتها. فمسرحياته الصامتة وما كتبه من مونوداما وحواريات طويلة تعتبر خروجا على القوانين الثابتة وطويلة الأجل لفن المسرح"

   صباح الأنباري الذي تمرد على قيود النمطية من أجل الإبداع والتألق، هذا الأديب الذي "اختار الشعر أن يخرج من قيود الإيقاع المنضبط ليدخل في إيقاعات غامضة لا تعرف التكرار ولكنها تعاني من الرتابة". هو الآخر مسكون بحب التجديد، حب التحرر من قيود فرضها الواقع، ربما أملا في صنع واقع جديد أحلى وأكثر رتابة. ولذا خاض عوالم الشعر والمسرح والسرد الروائي والنقد الأدبي؛ ليرسم بانوراما جديدة يشعر الإنسان من خلالها بدفق الحنان الموجود في الكلمة رغم معاناتها من وجع الواقع المرير، كمحاولة للنجاة، أو للبحث عن خلاص، من خلال "تفتيت العقل الواحد وبحركة إبدال بسيطة في إلغاء دور الأب الإله وتوزيع سلطاته".

   إن من ينجح في عملية الإبدال التي تعني تفكيك الموروث والواقع واستنطاق المفردات بحثا عن الحقيقة الضائعة بين أكداس الزيف التاريخي، هو وحده الذي يقدم وثائق "تدين ما نتعرض له من تشوهات وغسيل دماغ واستنزاف وتخويف" وقد نجح صباح الانباري في مهمته هذه وتحول إلى شاهد على عصر مملوء بالزيف والنفاق، ولذا أخرج صالح الرزوق من صومعة عزلته التي فرضتها عليه تلك الحياة القاسية التي تعادي الأذكياء، وجعله وهو المهموم من فراق ثورة وعبد الرزاق؛ يرسم ملامح التجديد التي يصبو إليها من دون أن تظهر عليه عوامل الحزن المعتلج في صدره.!

صحيح أن الدكتور الرزوق استغل مناسبة التعمق في دراسة نتاج صباح الأنباري ليضخ كما كبيرا من المعلومات الشيقة والعلامات الدالة والأمثلة المركزة التي تمرس على التعامل معها إلا أنه لم ينسى مربط فرسه، وأقصد الحديث عن الأنباري، فهو يوظف كل معلومة من تلك التي يطرحها في البحث ليختزل تجربة الأنباري في أحد جوانب هذا الحديث، وبذا يتحول عمله النقدي إلى درس تربوي تعليمي، يحتاجه الجميع سواء كانوا نقادا أم أدباء. ولأن أسلوب الرزوق التفكيكي الذي يبحث من خلاله عن أصغر جزئيات العمل ليعاملها كجزء من الكل، ولا يكتفي بالعناوين البارزة التي تخدع أحيانا؛ لدرجة أنه يبدو وكأنه يعري الموضوع المستهدف بالدرس من كل خصوصياته، تراه يلجأ عادة إلى الاستثناء والتوضيح لكي لا تلتبس الأمور على المتلقي، فهو بعد أن عرى الأسلوب المسرحي للأديب والناقد الأنباري من خصوصياته حتى بدا كحسناء تلبس (البكيني) على شواطيء هاواي، عاد ليقول: "ولكن أرجو أن لا يفهم أحد أن مسرحيات الأنباري قد تخلت عن ورقة التوت، وكانت فنا من غير ثياب ولا ذاكرة. إنه لم يكشف عن عورات فن المسرح ولكنه كان جريئا في الكشف عن عورات بعض المسرحيات المبتذلة، فقد التزم بعدة عناصر أساسية لا يستقيم فن المسرح من دونها، مع تعديلات من الوزن الثقيل". ووفق مفهوم الجزئية هذا تراه مثلا يبحث عن المؤشر الأهم في شخصيات أعمال الأنباري، ولا ينخدع ببهرجة الأسماء اللامعة، فيقول: "أما المؤشر الأهم فهو في الشخصيات. وهي على نوعين: إما نهارية وذات سلوك (تواصلي) له دور في تراكم الخبرات والأداء والمعرفة. أو أنها عامة وشاملة، وترادف بمعناها الغرائز الأساسية كالجوع والموت والحياة والرغبة الجنسية وسوى ذلك. بمعنى أنها حامل أو رمز، وقيمتها تنويرية". ولا يقف عند هذا الحد وإنما يتابع جانبا آخر من جوانب الشخصيات في العمل، مثلا يتابع تعداد الحضور الذكوري والحضور النسوي فيه، فيقول: "ولا يفوتني هنا أن ألاحظ القسمة غير العادلة بين الذكور والإناث. لقد كانت المسرحيات ذكورية بامتياز. وبلغ عدد الذكور بالمقارنة مع الإناث عدة أضعاف". وهذا ما لم ألحظ أحدا من النقاد قد اهتم به من قبل، في الأقل على حد علمي المتواضع.! بل ويتابع المضمون النفسي للشخصيات، بنفس أهمية متابعة النسبة الجندرية، ليخلص من وراء ذلك إلى معرفة التوجه الفكري الذي يتحكم برؤى الأديب الأنباري فيجعله يختار أنماط شخوص أعماله، ولذا يقول: "لم تحمل شخصيات صباح الأنباري جينات شكسبير المضطرب والمحموم، ولكنها كانت ذات نفوس معقدة. ولذلك لا يمكن أن نربطها بنمط الإنتاج الإقطاعي الذي خرجت من معطفه دراما شكسبير بألوانها القاتمة، وكأنها درس يلقيه في الظل عن التطورات المكبوتة لمجتمع القرون الوسطى، حيث أن الأمير هو البطل الشعبي الذي يبشر بالخلاص، والذي يتركب من دائرة نصفها واقع ونصفها الآخر خيال لا يتحقق". واعتقد أن الأنباري الذي يعتقد أن الإنسان يعقل بصريا أكثر مما يعقل سمعيا هو الذي وضعه في هذا الموقف التفكيكي. فالأسلوب المتفرد للأديب الأنباري استفز روح المعرفة عن الدكتور الرزوق؛ الذي أراد بدوره تلخيص شخصية الناقد والأديب الأنباري بكلمة (ثائر) بكل ما تنضوي عليه هذه الكلمة من معانٍ ومفردات توضيحية، ودلالات بعضها يمس شغاف قلوبنا التي تتحسس من الثورات بفعل ما أصابنا من جرائها على مر التاريخ، ولذا تراه يقول: "بما أن صباح الأنباري رفع راية العصيان والثورة ضد العقل الذي أنتج أصول الدراما، فقد وصل بعد سلسلة من التجارب إلى فضاء أو بيداء ألسنية. صامتة وبلا صوت وتمتلئ بالإشارات والدلالات والفراغ، أو ناطقة لكن بلسان أعجم، بلغة مرتبكة بالكاد تعرف معانيها"

   إن كتاب "الاتجاه المعاكس في كتابات صباح الأنباري"، عمل نقدي ثقافي تعليمي في منتهى الروعة والإجادة، وفيه من الإفادة ما يسعى إليه كل أديب يحترم موهبته، وفي الوقت الذي يقول فيه الرزوق عن أعمال الأديب الأنباري: "ومع ذلك كانت نصوص الأستاذ صباح الأنباري بالنسبة لي أشبه باكتشاف معين لا ينضب من المشاعر الأصيلة واللغة الرشيقة. وقلما اجتمع كل هذا التماسك في البنية مع مصادر الرعب والعنف والدمار التي توفرت في مراحل حياته بمستوياتها" أقول: إن هذا العمل الكبير للدكتور صالح الرزوق لم يأت لتخليد وتفكيك أعمال الأديب الأنباري فحسب وإنما جاء لينشئ مدرسة جديدة في فن النقد الأدبي.

   أشد على يد الدكتور صالح الرزوق وأهنئه على هذا الانجاز الرائع الكبير، وأبارك للناقد والأديب صباح الأنباري هذا النشاط الكبير، فتعاونهما المثمر رفد المكتبة العربية بمعلومات ثقافية أدبية لا غنى عنها للجميع.