استلهـام وعصرنة التراث فنيا

في ثلاث طرائق درامية*

نظرة عامة في تاريخ المسرح العراقي:

    بدأت بوادر المسرحية العراقية بالظهور،أول مرة،بحدود عام 1880 حين كتب الشماس حنا حبش مسرحياته الثلاث(آدم وحواء،يوسف الحسن،طوبيا)،مقتبسا ومعربا إياها عن التمثيليات الدينية الفرنسية والإنكليزية.فالمسرحيات وقت ذاك ارتبطت بالنشاطات الكنسية كوسيلة تعليمية وعظية ناجحة من وسائل الآباء المسيحيين في إيصال معتقداتهم،وتمكين الناس من التفريق بين الحق وبين الباطل،بين الخير وبين الشر،بين الظلمة وبين النور.ولا غرابة في هذا المنحى الديني إذا ما عرفنا أن جذور المسرح تاريخيا تمتد الى الرقصات الساتيرية الطقوسية والتراجيديات القدرية التي خلفها لنا الإغريق قبل أكثر من مائتين وخمسين عاما قبل الميلاد على أيدي أعمدة المسرح الكلاسيكي ثسبس وأسخيلوس وسوفوكلس ويوربيدس.وسنجد أن موجهات المسرح الدينية والطقوسية قد أخذت طريقها،فيما بعد،الى أغلب مسارح العالم وأنها دخلت الكنيسة كشعار من شعائر تمجيدها لمآثر المسيح وحياته وحمله لخطايا بني البشر.ولكنها انفصلت بعد ذلك لتنحو منحى اجتماعيا مغايرا لذلك الطقس ونافذا في صميم الحياة البشرية بكل ما تنطوي عليه من تناقضات ومعاناة وإرهاصات إنسانية.فعندما كانت الأديان،يقول الأستاذ سامي عبد الحميد،تأخذ قسطا وثيرا في حياة البشر كان الفن دينيا.وعندما تحركت الشعوب مطالبة بحقها في الحياة وفي الحكم أصبح الفن شعبيا(1).ومن هذا يبدو لي أن المسرح عندنا مدين للنشاط الكنسي الذي كانت تقوم به،وقت ذاك،كنائس عراقية في بغداد والموصل.ونظرا لوجود وشائج قوية بين هذه الكنائس والمدارس المسيحية العراقية من جهة وبين كنائس لبنان وروما وباريس وإنكلترا من جهة أخرى فان الطريقة صارت ممهدة أمام أتباع الكنائس العراقية ليكملوا دراساتهم في أوروبا فتوفرت لهم،بعد الإطلاع على النشاطات المسرحية، هناك، إمكانية النقل والاقتباس والتأليف على غرار ما شاهدوه.ويذكر لنا باحثوا المسرح العراقي أن المدرسة الاكليركية التي أسسها الآباء الدومينيكان في الموصل عام 1750 كانت تعنى بالفن المسرحي التمثيلي وكانت المسرحيات التي تقدمها مؤلفة على أيدي كتاب لبنانيين وعراقيين.ولكنهم لم يضعوا أيديهم على أي نص عراقي مكتوب،في تلك الفترة، غير تلك النصوص التي كتبها الشماس حنا حبش والممهورة بمهره الرسمي الخاص عام 1880 وهي:

 1- كوميدية آدم وحواء

 2- كوميدية يوسف الحسن

 3- كوميدية طوبيا

  وهذا يعني أن العراق لم يتأخر عن مواكبة البدايات الأولى للمسرح العربي،كما اعتقد المؤرخون العرب،خاصة إذا عرفنا انه بدأ في لبنان بحدود عام 1747 على يد مارون النقاش وفي سوريا عام 1865 على يد احمد أبو خليل القباني وفي مصر عام 1870 على يد يعقوب صنوع.

 لقد وصف المؤرخون والباحثون في الشأن المسرحي العراقي مسرحيات حبش الثلاث بأنها مقتبسة عن المسرح الأوربي،ولم يحددوا طبيعة ذلك الاقتباس وما إذا كان قد وقع على الشكل أم على المضمون أم على كليهما.ولمّا كانت مفردة الاقتباس،لغة،تعنى أخذ وتعلم  واستفاد،عليه يمكن القول إن مسرحيات حبش الثلاث لم تنسخ عن مسرحيات سبقتها بل اكتفت بالإفادة من شكلها الدرامي حسب. ذلك لان مضامينها شائعة ومعروفة في الأوساط الدينية وغير الدينية المختلفة ولم تتم مغايرتها إلا بحدود ضيقة جدا ومع هذا خرج الشماس حبش قليلا عن سياقاتها كما سنرى ذلك لاحقا.

      لقد تبنت الكنيسة في مدينة الموصل،شمالي العراق،مهمة عرض هذه المسرحيات وان بشكل بدائي مبسط إلا أنها حققت جانبا تعليميا وعظيا مهما انتقل تأثيره إلى اغلب المدارس المسيحية في المدينة وبهذا شكلت مسرحيات حبش الثلاث الحجر الأساس واللبنة الأولى لتشييد صرح مسرحي عراقي جديد،ومما يؤسف له أن أحدا،من أولئك الباحثين والمؤرخين،لم يتناول نصوص هذه المسرحيات بالدراسة والنقد.واكتفوا بالإشارة إلى ريادتها،والى عدم تأخرها عن النهضة المسرحية التي بدأت بوادرها بالظهور في لبنان وسورية ومصر مطلع القرن التاسع عشر الميلادي.صحيح أن نصوص حبش الثلاث ليست ذات قيمة عالية من الناحية الأدبية والفنية إلا أنها اكتسبت أهميتها من ريادتها،وقدرتها على تنمية جذورها ومدها عميقا في التربة العراقية البكر.فكوميدية آدم وحواء،تحديدا، مسرحية وعظية استلهم الشماس حنا حبش أحداثها من حكاية قابيل وهابيل واشتغل فيها على موضوعة الصراع الأزلي بين الخير والشر،وتجذرهما في دخيلة الإنسان منذ بدء الخليقة.المسرحية تقوم على أربع شخصيات هي:آدم وحواء وولديهما قابيل وهابيل فضلا عن الملاك والشيطان وهما وجهان آخران أو رمزان للفضيلة والبغضاء.اقتصر دور الأول على تذكير قابيل بان جريمته ستكون عقوبتها النار في الحياة الآخرة والعيش منبوذا من الناس في الحياة الدنيا.واقتصر دور الثاني على تحفيز ما في دخيلة قابيل من شر وبغضاء وكراهية وحسد وغيره من أخيه الصغير هابيل الذي كسب ود أمه وأبيه ورضاهما عنه مما حرك هذا في دخيلة شقيقه الأكبر روحا عدائية دفعت به إلى ارتكاب أول جريمة قتل في تأريخ الخليقة.ثم وبعجالة يربط الشماس أيضا،وبلا تمهيد،أن هابيل هذا إن هو إلا رمز لابن مريم الذي سيقدم نفسه مذبوحا كالحمل البريء لتنتهي المسرحية عند هذه النقطة الإشارية بترتيل ختامي.

      المسرحية،عموما، تتكون من قسمين:الأول يركز على حالة الخصام بين الشقيقين وينتهي بوضع حواء حد لهذه الخصومة بمصالحة الطرفين ثم تنطلق حناجر الجوقة بترتيل الختام.والثاني: يركز على مكر ودهاء (قايين) واستدراجه لشقيقه إلى مزرعة،بعيدا عن أنظار والديهما ليقوم هناك بارتكاب الجريمة البكر ولينتهي القسم بترتيل ختامي يضفي على الجو العام طابعا كنسيا يرضي في نفس الشماس حنا حبش نزوعه نحو تمجيد المسيح والكنيسة.المستوى الفني العام لهذه المسرحية متواضع جدا يفصح عن بدايات بسيطة لا تتعدى في المستوى العام إمكانية وضع الحكاية الدينية الشائعة في قالب درامي يضم أهم عنصرين من عناصر الدراما وهما الصراع والحوار،وسنجد أن الشماس يطور قابلياته،هذه، في كتابة النص المسرحي من خلال اعتماده على المشاهد المسرحية كوحدات داعمة للشكل ومعززة للنص.وسنرى في مسرحية (يوسف الحسن) تطورا واضحا في محددات النص التقليدية إذ لم يكتف الشماس حنا حبش بتقسيم المسرحية على قسمين،كما فعل في المسرحية الأولى،بل اعتمد التوزيع المشهدي المتسلسل. والمشهد عند الشماس حنا حبش شبيه بالمشهد الفرنسي إذ يبدأ بدخول الشخصية وينتهي بخروجها.محددا سلفا أسماء من يقومون بلعب الأدوار فيها تماما كما كان يفعل موليير في مسرحياته.ثم أن الشماس بدأ في هذا النص بوضع بعض الملاحظات الخاصة به ككاتب مسرحي من قبيل:] يخرجان/يذهب به اثنان الى البئر يلقيانه فيها/يدخل أولا البعض منهم ثم بعد هنيهة يدخل الباقون[ الخ.. ومن هنا يبدو تأثر الشماس بموليير واضحا خاصة إذا ما عرفنا أن الأمر قد التبس،في النهاية،على الشماس فالصق بمسرحياته الثلاث تشبها بكوميديات موليير اسم الكوميديا على الرغم من أن موضوعاته لا تمت الى الكوميديا بأي صلة لا من قريب ولا من بعيد،فمسرحية يوسف الحسن على سبيل المثال لا الحصر،مسرحية وعظية قصيرة موزعة على ثلاثة أقسام يفصل بينها ترتيل عمومي ومتضمنة ثلاثة عشر مشهدا غطت مساحتها حكاية يوسف وإخوته وانطلقت من منطلق المسرحية الأولى نفسه إذ ركز الشماس فيها على  موضوعة البغض والكراهية والحقد والحسد الذي يدفع بأخوة يوسف الى التخلص منه عن طريق الشكوى لأبيهم أولا ومن ثم الانفراد به وإنزال قصاصهم الجائر عليه ثانيا. اقتصر المشهد الأول على الشكوى التي قدمها إخوة يوسف ضده استنادا على رؤياه (أحد عشر كوكبا والشمس والقمر لي ساجدين) واقتصر المشهد الثاني على يوسف وقينان الذي يقوم بإرشاده الى موقع إخوته والمشهد الثالث تعلق بالتخلص من يوسف ورميه في غيابة الجب ومن ثم استبدال هذه الفكرة بفكرة بيعه لقافلة التجار المتوجهة الى ارض مصر لينتهي القسم الأول بترتيلة وعظية عمومية هي جزء من الهدف التعليمي لمسرحيات حنا حبش خاصة بعد اطلاعه على موليير الذي أراد من مسرحياته أن تكون مدارس يتعلم فيها الناس حتى انه أطلق على إحدى مسرحياته فعلا اسم (مدرسة الأزواج) لأنها،في رأيه،تعلم الأزواج ما ينقصهم من العبر والدروس.

   إن ما يميز حنا حبش وهو يتناول موضوعات دينية مألوفة خروجه المحدود عن مألوفيتها فالقصص التي تناولها واضحة ومعروفة للجميع بحسب مصادرها التوراتية أو القرآنية.ولو أخذها بمألوفيتها لما قدم شيئا يذكر على صعيد الفن فضلا عن جعله النهايات مفتوحة على مزيد من التأويل.ففي هذه المسرحية تحديدا، ينهي أحداثها في لحظة معانقة يوسف لشقيقه بنيامين بعد فراق طويل هو زمن غياب يوسف عن اخوته منذ حادثة الجب،وليخبر القارئ أو المشاهد بما سوف يحصل لأبيهما بعد أن يعرف أن يوسف لم يمت وان فرعون استوزره على ارض مصر كلها.

      ولا تختلف (كوميدية طوبيا) كثيرا عن المسرحيتين السابقتين سوى أنها رسخت الاعتماد على المشهد المسرحي كوحدة بنائية في النص على الرغم من عدم التمييز الدقيق للشماس بين مفردة (المشهد) وما تعنيه  ومفردة منظر وما تعنيه..وهو بهذا لا يعدو كونه مقلدا لموليير الذي استخدم المفردتين ولكن باستقلالية بعضيهما عن بعضه الآخر.وتلتقي هذه المسرحية مع المسرحيتين السابقتين أيضا في أكثر من نقطة فهي مسرحية وعظية تعتمد الحكاية الدينية وتنطلق منها لخلق أجواء كنسية تعليمية.ولعل في استخدام الشماس للحكايات التراثية الدينية في نصوصه هو الذي جعل نصوصه تتصف بالدرامية لقيام تلك الحكايات أصلا على الصراع الواضح بين الخير والشر واعتماد وحدة وصراع الأضداد التي هي أكثر الوحدات الدرامية أهمية.وقد تجسدت في الحكايات الثلاث بهيئة أفعال تراوح أثرها بين القتل الفعلي والقتل الافتراضي ففي مسرحية"آدم وحواء" هناك قتل فعلي محقق يقوم به (قايين)،كفاعل،ويقع أثره على هابيل كمفعول به.وفي مسرحية (يوسف الحسن) يتفق الإخوة على قتل أخيهم (يوسف) ولكنهم ينفذونه بشكل افتراضي. وفي مسرحية (طوبيا) هناك قتل مؤجل يتجسد في إصدار قرار الحكم بالقتل على طوبيا وأسرته.وبهذا نرى القتل في المسرحيات الثلاث يشكل الأداة الفاعلة في قضاء إحدى القوتين على الأخرى،ولا شك أن وقوعه الفعلي سيخلق أثرا على القارئ أو المشاهد يفوق أثره في حالة كونه افتراضيا أو مؤجلا.وان تباين درجات القتل (فعلي/افتراضي/مؤجل)ستؤدي إلى تباين درجات التشويق عند القراءة،وستفعل الشيء نفسه عند المشاهدة المباشرة للعرض.

      مما تقدم نخلص إلى أن المسرحيات الثلاث يرتبط بعضها مع بعض بالعوامل المشتركة الآتية:

  1.  لصق صفة "كوميدية" بعنواناتها المركزية على الرغم من خلو متنها من الكوميديا

  2.  الاعتماد على الموروث القصصي الديني.

  3. وضع مقدمات تمهيدية على لسان إحدى شخصياتها (آدم) بشكل خطاب افتتاحي وعظي في المسرحية الأولى،وعلى لسان المؤلف،لغرض توضيحي ثبت  في نهايته عدد أقسام المسرحية وعدد مشاهدها في المسرحيتين الثانية والثالثة. اعتماد المشهد كوحدة بنائية صغيرة والقسم كوحدة بنائية كبيرة.

  4.  اعتماد الترتيل الكنسي كخاتمة لكل قسم من أقسامها.

  5.  الهدف التعليمي الوعظي المشترك.

  6.  اعتماد فعل القتل كبنية أساسية في موضوعات المسرحيات الثلاث.

  7.   اعتماد الصراع الخارجي/الحركي كشكل مبسط أولي من أشكال الصراع الدرامي.

    الباحثون العراقيون عموما،يرجعون تاريخ المسرح في العراق الى أبعد من هذا فيذكرون لنا ضروبا من التمثيل المتواضع دراميا مثل (السماجة) في العصر العباسي:وهو نوع من التمثيل يقوم به أشخاص يجيدون الألعاب التمثيلية.و(خيال الظل) أو ما يسمى بـ(طيف الخيال) وهو ضرب آخر من التمثيل ابتكره محمد بن فضل الخزاعي الموصلي.(القره قوز) ومعناه ذو العيون السود وهو ضرب من التمثيل بالدمى عرفه البغداديون القدامى عندما كان العراق رازحا تحت نير الاحتلال العثماني،ومن ضروب التمثيل الأخرى التي زاولها البغداديون ما عرف باسم (الإخباري) وهو عبارة عن مشاهد تتضمن نكاتا وأوصافا مضحكة تدور بين متحاورين أو أكثر. ومسرح التعزية وهو ضرب من التمثيل أو (التشبيه) يقوم به عدد من الممثلين ليعرضوا للناس الأحداث الدامية في واقعة (الطف).إلا أن كل هذه الضروب لم تترك لنا نصوصا موثقة معتمدة وظلت في أحسن أحوالها مجرد محاولات شبه درامية بدأت وانتهت دون أن تتحول،تدريجيا أو بقفزة نوعية،الى الدراما بشكلها التقليدي المألوف.ويخطئ من يظن أو يصر على إرجاع أصولها الى تلك المحاولات البدائية لان المسرح العراقي والعربي قد أخذا أصولهما من المسرح الغربي ثم اشتغل بعض المسرحيين على تأصيله برجوعهم الى تلك المحاولات وإعادة تركيبها وتأهيلها وجعلها أكثر صلاحية وتقبلا لمقتضيات العمل المسرحي المعاصر.فالظروف التي تزامنت مع ظهور تلك المحاولات لم تكن مهيأة للانتقال،بها، الى المسرح الجديد لأسباب كثيرة اتفق عليها أغلب الكتاب ولخصها الأستاذ سامي عبد الحميد في(2):

1ـ إن الشعر العربي ولد وظل شعرا غنائيا لا موضوعيا

2- إن المسلمين لم يشجعوا التمثيل خوفا من العودة الى عبادة الأصنام

3- وان الأساطير العربية لم تحتو على عناصر الدراما كما هي في الأساطير الإغريقية

4- وان حياة البداوة التي عاشها العرب في تاريخهم القديم حالت دون استقرارهم والمسرح أحوج ما يكون الى الاستقرار.

ويذكر الباحثون أيضا أن الظاهرة المسرحية في العراق استكملت أهم شروطها في بداية القرن العشرين بتأثير من التحولات الاجتماعية التي تزامنت أو تلت صدور الدستور عام 1908 فتمكن المسرحيون من تقديم أعمالهم الدرامية على خشبات مسارحهم الخاصة أمام جمهور غير قليل من النظارة. وحدثت الانعطافة التاريخية الكبرى في المسرح العراقي عام 1919 عندما قام عدد من الشباب المتحمس بتقديم بعض التمثيليات التي كتبت وقدمت بأسلوب وعظي.وقد كانت على الرغم من سذاجتها،إذا قسناها بمقاساتنا الراهنة،قد قدمت للمسرح نخبة من الأسماء التي حملت مهمة النهوض بالمسرحية العراقية آنذاك أمثال:نوري ثابت،وجميل رمزي،ونجيب الراوي،وشفيق سلمان،وإبراهيم شوكت،وعلي حيدر وغيرهم.
أما أولى الفرق التي تأسست في العراق فهي
(الفرقة العربية للتمثيل)والتي تأسست مطلع العقد الثالث من القرن الماضي.وكانت إيذانا لتأسيس فرق أخرى في بغداد والموصل مثل فرقة محي محمد التي كان من أبرز أعضائها،وقتذاك،رائد المسرح العراقي الأستاذ حقي الشبلي قبل أن يؤسس فرقته التي أطلق عليها (الفرقة التمثيلية الوطنية)وكان من بين أعضائها الممثلة العراقية الأولى مديحه سعيد والمونولوجست المعروف عزيز علي.وكانت الانعطافة الأخرى للمسرح العراقي في بداية الأربعينات من القرن الماضي عندما افتتح قسم المسرح في معهد الفنون الجميلة الذي جاء فتحه تعبيرا عن حاجة أساسية وضرورية من حاجات الإنسان العراقي.ومما يذكر إبان تلك المرحلة قيام بعض الشباب الذين يمتازون بالجرأة تقديم مسرحية (بيدبا) للكاتب اللبناني رئيف خوري والتي قدمت عام 1945 تحديدا على مسرح صيفي بجانب الكرخ شيدوه خصيصا لتقدم من عليه هذه المسرحية التي داهمتها الشرطة في عرضها الأول مرغمة ممثليها على التوقف عن إكماله وبذا تكون هذه المسرحية قد سجلت سبقا في المعارضة وريادة في الجرأة وسجلت للشرطة سبقا في مداهمات العروض المسرحية وانتهاكا لحق الفرق في التعبير عن هموم الناس ومعاناتهم.أما مرحلة الخمسينات فقد شهدت تأسيس عدد آخر من الفرق المسرحية التي قدمت أعمالا عراقية مهمة مثل: فرقة المسرح الحديث،والفرقة الشعبية،وفرقة مسرح اليوم،وفرقة مسرح بغداد وغيرها. وشهدت الستينات ابرز حدث مسرحي وهو تشكيل وهيكلة أول مؤسسة عراقية للفنون هي (مصلحة السينما والمسرح) التي ألحقت بها(الفرقة القومية للتمثيل).

تأصيل المسرح العراقي وعصرنته

إذا تفحصنا النصوص المسرحية العراقية البكر وجدنا أنها تعتمد على التراث اعتمادا كبيرا حد أنها لا تقدم شيئا على صعيد الإبتكار وما فعلته، فقط،هو أنها صبت الحكايات الشعبية والدينية والوعظية في قالب مسرحي لم تراع فيه سلامة اختيار المادة التراثية ومرونتها وقدرتها على تخطي الزمن(3).أما حبكاتها فتعتمد اعتمادا كبيرا على تعددية الأحداث وغرائبيتها وخوارقها ولا واقعية الأمكنة التي حدثت فيها سعيا وراء الاستحواذ على فضول المشاهد وشده الى فكرة المسرحية التي غالبا ما تكون فكرة دينية لارتباطها بيئيا بالكنائس والمدارس المسيحية التي نشأ المسرح العراقي فيها.أما شخصياتها فكثيرة حد أنك تستطيع حذف بعضها دون أن يؤثر هذا الحذف على السياق العام للمسرحية،بمعنى أن المسرحية العراقية البكر لم تلتفت الى الجانب الفني والتقني، وان المؤلف المسرحي قد تحددت مهامه في نقل أو اقتباس مادته المسرحية وصبها في القالب الحواري الذي يتيح له فرصة تشخيصها وتقريب فكرتها الى المشاهد.وعندما تطورت أدوات الكتابة المسرحية وابتكرت لها تقنيات جديدة صار الكاتب يضيف من عندياته الشيء الكثير فهو يحدث الحكاية ويعصرنها عن طريق غربلته المادة التراثية وانتقائه ما يصلح لاتصالها بما هو معاصر وانفصالها عنه بما يكفل الحفاظ على خصائصها المرحلية والحداثوية.انه يستلهم التراث استلهاما مشرقا باعتبار حيوية مادته وحركيتها وقابليتها على تمثل الحاضر.هذا من جهة ومن جهة أخرى فانه يتخذ من التراث قناعا يستر به مجاهرته بالتحريض والتمرد ومقاومة الضغوط التي تمارسها فئة أو سلطة تستلب الحريات وتصادر الحقوق. وقد يلجأ الى التراث بهدف تأصيل مسرحه عن طريق الرجوع إلى الأشكال شبه الدرامية ليضيف لها لبنات جديدة باعتبارها أساسا وقاعدة ارتكاز للدراما العراقية والعربية.يذكر لنا الأستاذ د.عمر الطالب في دراسته الموسومة (نحو مسرح عربي جديد)(4)عددا كبيرا من المسرحيات التي اعتمدت الحكاية الشعبية والتراث مادة أساسية لها،ومنها:مسرحية عنترة ومسرحية الناس مقامات ومسرحية الكنوز ومسرحية الصياد،ومسرحية الشاطر حسن،ومسرحية أيام العز أو الحلاق والفيلسوف وكلها مأخوذة عن ألف ليلة وليلة،اشتغل الكاتب على انتقائها ومن ثم صبها في قوالب مسرحية جاهزة.إلا أن تلك المسرحيات العراقية لم تبق أسيرة تلك القوالب بل استطاعت على يد بعض الكتاب المجددين من تجاوز سكونية القولبة الثابتة الى حركية البنى الشكلية ومن ثم تفعيل القدرات الذهنية للكاتب وجعل النص أكثر انتماءا لمؤلفه منه الى المادة التراثية.مما مهد الطريق أمام كتاب الدراما المسرحية ليجسدوا قضاياهم الفكرية والفلسفية ذات التأثير الكبير على جمهور النظارة.ومن تلك المسرحيات يذكر لنا د.عمر الطالب:مسرحية أهل الكهف لتوفيق الحكيم،ومسرحية حواء الخالدة لمحمود تيمور،ومسرحية سهرة مع أبي خليل القباني ومسرحية راس المملوك جابر لسعد الله ونوس وغيرها.ولو عدنا الى المسرحية العراقية لوجدنا عددا كبيرا من المسرحيات التي اعتمدت على التراث بطريقة خلاقة مبدعة ومنها مسرحيات عادل كاظم ويوسف العاني ونور الدين فارس ومحي الدين زنكنه وآخرين.ولعل أهم ما يميز تلك المرحلة(نهاية السبعينات وبداية الثمانينات)تجريبيتها ومحاولتها تأصيل المسرح العراقي.ومع أن بعض الأعمال استطاعت بانتقائية سليمة وغربلة دقيقة للمادة التراثية أن تحقق نجاحا كبيرا على صعيدي التجريب والتأصيل سقطت أخرى ضحية النظرة الشوفينية الضيقة للتراث والتقديسية للماضي وشكلت نسبة كبيرة من مسرحيات تلك المرحلة.يذكر الأستاذ حسب الله يحيى في كتابه المسرح العراقي قضايا ومواقف(5) أن"تلك التوجهات تلتقي على نحو واضح بالمسرح المغربي والمسرح الاحتفالي الذي دعا إليه عبد الكريم برشيد والطيب الصديقي ومسرح الحكواتي للبناني روجيه عساف ومسرح السامر الذي الحّ عليه يوسف إدريس".
وعلى صعيد العرض المسرحي العراقي كانت اغلب العروض تعتمد على مؤلف النص الذي يجمع الممثلين ويوزع الأدوار ويحدد أماكن الوقوف على المنصة ثم يوعز للمثلين بالحركة على وفق معرفته البسيطة جدا بحرفية المسرح.ولم يكن دور المخرج واضحا بعد في الأعمال الأول التي شهدها المسرح العراقي.لقد كان رواد المسرح الأوائل في العراق،كما هو ش
أنهم في دول عربية أخرى،يكتبون ويخرجون ويمثلون ويصنعون قطع الديكور اعتمادا على قدراتهم الذاتية حسب. وكان الممثلون يؤدون أدوارهم بأسلوب تطغى عليه الخطابية والتضخيم،ولم يخطر على بالهم أن الشخصية بناء درامي،وان التلازم بين الكلمة والفعل تلازما ضروريا،وان عليهم أن يعيشوا حياة الشخصيات الممثلة لا أن يقلدوها تقليدا ميكانيكا.وقد تطورت الإمكانيات الأدائية بعد أن زارت القطر عدد من الفرق العربية وبعد أن عاد رواد المسرح من أوربا الى العراق مثل الفنان الرائد حقي الشبلي الذي درس المسرح في فرنسا وأفاد من تجربة المسرح المصري متتلمذا على يد أستاذه عزيز عيد ومكتسبا خبرة استطاع أن يوظفها عن طريق إخراجه لبعض النصوص المسرحية الجديدة أو تدريسه لها في معهد الفنون الجميلة وبذا ساهم الشبلي بنشر الوعي المسرحي والتأكيد على المبادئ العامة في فن الإلقاء والصوت والحركة والتعبير.فبدأت بوادر الإخراج الفني بالظهور شيئا فشيئا وبرز مخرجون أكفاء من أولئك العائدين من أوربا، بعد أن أكملوا دراستهم في المسرح هناك، أمثال:جعفر السعدي،وبدري حسون فريد،وسامي عبد الحميد،وإبراهيم جلال،وحميد محمد جواد،وسعدون العبيدي،وسعدي يونس،وعوني كرومي، و
محسن العزاوي،وقاسم محمد، وسليم الجزائري،وفخري العقيدي،وفتحي زين العابدين،ومرسل الزيدي،وصلاح القصب،وعقيل مهدي.ومما يؤخذ على بعضهم نقله الخبرة التي اكتسبها نقلا مسطريا في أكثر الأحيان واستطاع فعلا إبهارنا بما استخدمه من تقنيات لم نكن نعرفها من قبل،فالشبلي الرائد استطاع أن يدهش المشاهدين عندما جعل الموكب الذي يسبق اغتيال(يوليوس قيصر)يمر من بين المشاهدين،وكان الشبلي قد اخذ الفكرة عن أستاذه عزيز عيد الذي ثبت في مذكرات زوجته مديحه رشدي انه ولأول مرة جعل المنصة تمتد الى خارج حدودها الجغرافية.يقول الأستاذ د.ضياء خضير في معرض دراسته الإخراج في العراق:

"كان المشاهدون يرون مندهشين موكب القيصر في المشهد الذي يسبق اغتياله يدخل الباب الرئيسية للصالة ويسلك طريقه في الممر الوسطي بين المتفرجين وصولا الى الخشبة".(6)

 ولا يقلل ما ذكرناه من أهمية عمل الشبلي لأنه في ابسط أحواله قد فتح أمام المخرجين العراقيين باب الابتكار.

وسنجد أن تلميذا للشبلي هو الأستاذ جعفر السعدي قد فعل الشيء نفسه في المسرحية نفسها ولكن بإضافة جديدة هي انه جعل ذلك الممر يربط بين خشبتي المسرح المتقابلتين فبدا موكب تشييع القيصر أكثر مأساوية وحزنا وهو يمر من بين المتفرجين واستخدم الفنان محسن العزاوي في إخراجه لمسرحية (الكورة) ديكورا يدور على عجلة لأول مرة في المسرح العراقي فأثار دهشتنا ونال إعجابنا ولكننا وجدنا انه نقل هذا الديكور نقلا مسطريا عن مسرحية بولونية قديمة(7). واستخدم مخرجون آخرون تقنيات أخرى مثل الفنان حميد محمد جواد في إخراجه لمسرحية هاملت والفنان إبراهيم جلال في إخراجه لمسرحية انطونيو وكليوباترا والفنان جعفر علي في إخراجه لمسرحية فيت روك والفنان صلاح القصب في إخراجه لمسرحية طائر البحر.الخ…لقد تخلص المخرجون الجدد من سطوة المؤلف المهيمن على مفاصل العمل المسرحي كلها، ولم يعد مهما أن يقوم المؤلف بإخراج نصه.لقد تراجعت السطوة أمام التقنيات، والهيمنة أمام الابتكار والمعرفة الأولية الساذجة لحرفية المسرح أمام الكم المعرفي المتحقق جراء الإطلاع والدراسة، والشمولية أمام التخصص فاكتفى المؤلف بقيادة شخوصه على الورق تاركا للمخرج مهمة قيادة أولئك الشخوص على خشبة المسرح. ولما كان عمل المخرج يتميز بجماعيته لذا احتاج دوما الى فريق عمل يحسن استخدام أدواته الفنية. ولم يكن الممثل وقتذاك عارفا بتقنيات التمثيل الى أن عاد من أمريكا الأستاذ جاسم العبودي ليفتح بعودته الآفاق أمام الممثلين وليطلعهم،من خلال الدرس،على طريقة ستانسفلافسكي في إعداد الممثل.ومما يميز هذه المرحلة المتقدمة هو انحسار النص ذي الطابع الأدبي/الإنشائي ليحل محلة النص ذو الطابع الفني/الدرامي.ولعل مسرحيات عادل كاظم خير مثال على ذلك إلا أن هذه الإنشائية لم تختف تماما من النص العراقي خاصة تلك التي كتبها مؤلفون انتقلوا من كتابة القصة والرواية الى كتابة الدراما المسرحية فانتقلت معهم الصفات السردية لتحل محل الصفات الدرامية.كما حلت الاستطرادات الوصفية محل الأفعال الدراماتيكية.وسنجد باحثا مثل د.جميل التكريتي يقول عام 1989 عن مجموعة (وداعا أيها الشعراء) إنها:

 "قدمت لنا الحادثة وهذا ما يختص به الأدب القصصي أما (الفعل) الذي اختص به الأدب الدرامي وأصبح عنوانا عليه وشهادة ميلاد له بين الأنواع الأدبية الأخرى،فقد غاب تماما، تقريبا في هذه المسرحيات"(8).

ومع تطور العملية الإخراجية وتقديم العروض المتميزة إلا أن اغلب تلك العروض لم تستند إلى نظرية محددة أو مدرسة أو مذهب فني.فلكل مخرج طريقته الخاصة ومدرسته الخاصة ومذهبه الخاص الذي سنجد انه يتغير،حتى عند المخرج الواحد،تبعا لطبيعة العرض الذي يتناوله المخرج.وهذا يعني عدم وجود فرق مسرحية تشتغل على تخصص واحد ما دام مخرجوها يغامرون في كل عمل من أعمالها بمذاهب شتى لا تتيح مجالا لتطوير العملية المسرحية عندنا إذا استثنينا بعض المخرجين الكبار أمثال إبراهيم جلال الذي تخصصت عروضه بالمسرح الملحمي،وجاسم العبودي الذي تخصص بـ"طريقة" ستانسلافسكي وحتى هذا لم يكن تخصص فرق مسرحية قدر ما هو تخصص أفراد.والتخصص هنا لا يعني الانغلاق والارتكان الى حالة مذهبية دونها حالات الإبداع الأخرى بل يعني الانفتاح على كل الحالات بما يوفر معرفة شاملة عنها وتسخيرها لخدمة الحالة التخصصية للمبدع وفرقته المسرحية.المسرحيون العراقيون إذن اشتغلوا وما زالوا يشتغلون على تأصيل المسرح وعصرنته ومن  التجارب المهمة في هذا المجال ما قام به عادل كاظم وقاسم محمد ويوسف العاني ومحي الدين زنكنه وآخرون،وسنتناول فيما يأتي ثلاث طرائق مهمة.

 الطريقة الأولى:  التعارضيــة

       الاعتراض هو أن تأتي بما يخالف ويناقض المطروح من الكلام والأفعال والسلوك.وعارضه معارضة،بحسب المنجد في العلوم واللغة،ناقض كلامه وقاومه.والتعارض هنا مأخوذ بجوهره الذي يتأسس على التناقض والتضاد.

       أما التعارضية التي نحن بصدد متابعة مجرى تأثيراتها،نصوصيا،فهي ما تتأسس عليه النصوص الدرامية وما يتفجر عنها من صراعات مختلفة ضمن هيكلية النص وبنائه الفكري والدرامي.وبعدد النصوص تعددت أشكال  تأثيراتها وتنوعت مساراتها وابتكاراتها وتجلت معانيها التخصصية في نماذج اعتمدتها قاعدة للابتكار والتجريب.

       التعارضية فنيا إذن هي التناقض المتفاقم المحفز لصراع تدور رحاه بين قوتين أو أكثر  تقاوم إحداها الأخرى بهدف إثبات حقيقتها،أو هي دفاع إحدى القوتين ضد الأخرى التي ألحقت بها إساءة أو أعطت عنها صورة مخالفة لأقوالها وأفعالها وسلوكها على حد سواء.وفي حالات أخر تنجم عن تعارض مجموعة،ممثلين على الخشبة،تفضح حقيقة لم يستطع الناس تبينها أو التعرف على كل جوانبها،من قبل،محرضة مجموعة،من المتفرجين في صالة العرض،على الولوج الى اللعبة الدرامية بهدف إلغاء المطروح،وإيصال ما يخالفه على خشبة المسرح وهذا هو ما  تبناه  في نصوصه المسرحية الكاتب المعروف (لويجي براندللو)وما حدث  في مسرحيات أخر،اعتمدت طريقة بيراندللو،أساسا في بلورة الفحوى وإنضاج المعنى ودفع الأحداث نحو ذراها الفنية.وفي مسرحنا العراقي المعاصر،انطلاقا من مقولة استلهام التراث،تناول بعض الكتاب شخصيات تاريخية وأخرى شعبية فلكلورية في محاولة جادة تجسد هدفها الأساس في بيان تعارضيتها في الماضي وإسقاطها على ما يماثلها في الحاضر لغاية في نفس المؤلف الدرامي. ومن تلك الشخصيات(هارون الرشيد)التي تناولها الكاتب العراقي الكردي محمد موكري في عمله الدرامي الطويل(هارون الرشيد).وجعلها الكاتب العراقي المعروف محي الدين زنكنه شخصية محورية في عمله الدرامي الموسوم بـ (الخاتم).

تعارضية الرشيد في نص موكري(هارون الرشيد)   

يرى محمد موكري:

"أن هارون الرشيد هو تاريخ البشرية"

 وان على الكاتب أن ينظر إليه بعقلية أخرى وبعين بصيرة.و(الأخرى)،هنا،تعني انه تعامل مع تاريخ هذه الشخصية بعقلية الكردي وبصيرته المنطلقة من فحوى أن الكرد مستهم شرارة من نار ذلك التاريخ المصطنع فاعتبروا مواطنون من الدرجة الثانية.وإذ يثبّت موكري قناعته،هذه،على الغلاف الأخير لمسرحيته،فانه يحاول،في الوقت نفسه،الإجابة عن السؤال المفترض،الذي الزم نفسه الإجابة عنه،لماذا هارون الرشيد؟

       لقد جعل محمد موكري الدخول الى هذه المسرحية وتقصي عوالمها واستقراء أحداثها وأفعالها وصراعاتها العنيفة يمر عبر بوابــة الدم..وإذ يتكشف لنا المنظر المسرحي على صحراء قاحلة عطشى،وشخصية تجر خلفها،بمشقة وتعب وإرهاق،تابوتا محكم الإغلاق نعرف الى أي مدى تمكن منهما الجفاف والعطش والحاجة الى الماء أو هطول الأمـطار..هكذا يشتغل منطق الطبيعة وقانونها الأساس ولكن الأستاذ محمد موكري اشتغل على منطق آخر حين جعل الشخصية الرئيسة تعمل على وفق قانونها السلوكي الخاص لتكشف عن مدى تعارضيتها وتعطشها للدم.

"لو تحولت جميع البحار الى دم لما أطفأت غليلي"

 لقد أراد الكاتب بهذا التصريح ألاستباقي أن يهيأنا للدخول الى عوالم مسرحيته التي جعل الدم بنية أساسية لها وهو هنا بنية تعارضية فبدونه يصعب على الشخصية الحفاظ على بقائها المهدد بالزوال منذ حياتها الجنينية وحتى موتها المحتوم.وربما أراد أيضا أن ينبهنا الى حجم الدمار والخراب وما يترتب عليهما من نزوع الى الظلم والغدر والتنكيل والتقتيل الخ..الخ خاصة بعد أن نكتشف أن حاجة الشخصية الى الارتواء من الدم هي اكبر من حاجة  الصحراء القاحلة الجافة الى الماء. فأي شخصية هذه التي أرادها موكري أن تكون مهيمنة على أحداث  مسرحيته الموسومة(هارون الرشيد)؟ إنها هارون نفسه،ولكن أي هارون هو؟ الأول؟ أم الثاني؟ أم كلا الاثنين؟.

لقد بدأت ملامح هارون الأول تظهر تعارضيتها منذ بدأت حياته الجنينية في رحم أمه إذ التهم بأنانية ومكر توأمه الرشيد الثاني وأبقاه، محتبسا،في جوفه منذ لحظة الالتهام تلك حتى يوم وفاته،بمعنى أن موكري جعل التعارضية أساسا في  خلق شخصية هارون من خلال وجوده مع توأمه في رحم واحد استحوذ عليه هارون الأول بالتهامه هارون الثاني.لقد استغرق مكوث هارون الثاني سنوات حياة هارون الأول وإذ توفي الأول وانتهت حياته الدموية بدأت حياة الثاني بعذاب ومعاناة قائمين على أساس محاولته التخلص من جثة الأول بمواراتها الثرى،لكنه فوجئ برفض كل القبور لها.فكلما حفر قبرا تمرد القبر وردم نفسه بنفسه كي لا تحشر فيه هذه الجثة النتنة.فهل مات الأول حقا لتبدأ حياة الثاني؟ تخبرنا المسرحية أن هارون لم يمت بل تحول من حالة الى أخرى يمكنه من خلالها التمتع بمرأى صور الدم التي تشبع في نفسه غريزة القتل.يقول لنصفه الثاني:

"كان يجب أن التهمك داخل الرحم وإلا لالتهمتني أنت"

ويقول أيضا:

"كان من الضروري جمع قاتل ومقتول في بوتقة واحدة"

 وكأنه يعي،غريزيا،ضرورة قتل الآخر(معارضه) كضمانة لعيشه هو.إنهما إذن هارونان في هارون واحد.الأول بدأ حياته عمليا بسفك الدم والآخر لم يبدأ حياته بعد لكنه طالب في نهاية المشهد الأول مشاهديه قائلا:

 "انظروا، الميت يتكلم، انه ميت عطشان، يطلب أن يمطر الدم انه أربعون يوما وقد سلبني الراحة.(يقلده) كل يوم..الدم..الدم..الدم..هذا(يؤشر الى التابوت) السفاح بدأ بدمي..انظروا، كيف صار خليفة..كيف كان يمتص الدماء..وكيف؟"

وتوقف عن هذه الـ (كيف؟)فظننا أن له روحا تتقاطع  وروح الأول وان له نزوعا نحو الخير وتوقا الى حياة مغايرة لحياته وعتوه وحبه المطلق لسفك الدم.

       المشهد الأول إذن تمهيدي يشي بدموية الشخصية التي جعل موكري من اسمها ثريا لخطابه المسرحي(هارون الرشيد).لقد حاول الكاتب إعطاء معلومات أولية مهمة عن شخصية الرشيد وعن الجانب الذي يريد تسليط الأضواء عليه ولكنه مع هذا آثر أن ينتقل منه الى المشاهد الأخرى مستعرضا تاريخ الصراع الدامي الممتد من ولادة الشخصية وحتى وفاتها  ليعود في نهاية المسرحية فيكمل ما بدأ به وكأن المشاهد كلها لم تستغرق في الزمن الدرامي إلا بضع لحظات مع أنها لم تكن استرجاعية(فلاش باك) وإنما استرسالية بدا مبرر اختزالها  للزمن بهذه الطريقة ضعيفا على الرغم من ارتكاز محمد موكري على أرضية المسرح الملحمي الذي تتيح له إمكانية القفز من مشهد الى آخر بما توفره من استقلالية مشهدية وترابط عام.على العموم تمكن مخيال محمد موكري رسم صور هذا المشهد المثير للدهشة والمحفز على المتابعة بتشويق ولكنه نزع في المشاهد الأخرى،باستثناء المشهد الأخير،الى الواقعية في الطرح والتصوير والنقل وحصر مخياله في البحث عن صور جديدة  للغدر والقتل والدسيسة.لقد اعتقدنا أول الأمر انه سيأخذنا في سياحة ممتعة داخل مخياله الذي توجه منذ اللحظة الأولى الى مخالفة منطق الحياة وواقعيتها لأنه خلق لخطابه المسرحي في المشهد الأول منطقه الخاص ولكنه ما لبث أن عاد في المشاهد الثلاثة الى المشهد الأول،الى الواقع فأضاع اللحمة الدرامية أو الصلة الملحمية بين هذه المشاهد الثلاثة والمشهد الأول. واقعيا..تظهر الخيزران والدة الرشيد تعارضية شخصيتها مع شخصية(الهادي)،فتحوك مؤامرتها الماحقة في المشهد الثاني كاشفة عن أدوات القتل وأساليبه المختلفة باستخدام جواريها اللائي قتلن ضحاياهن بواسطة دس السم بالقهوة،أو مزج السم  مع الطعام أو السكر الى درجة فقدان الوعي أو خلط الزجاج المطحون مع القهوة والطعام أو إفراغ الرجل من فحولته أو باستخدام الوشاح المسموم أو عن طريق الخنق بالوسادة..الخ..الخ..وتبدأ سلسلة مؤامراتها بالهادي بعد أن علمت أن الهادي أصدر أمرا سريا بقتلها ووضعها في كيس ورميها في نهر دجلة،وفي هذا بيان كبير لتطور حالة التعارض بين الشخصيتين،ولكن التنفيذ تأخر قليلا فمنح الخيزران فرصة إزاحته بواسطة جواريها.

         لقد وضع موكري هذا المشهد ليشير من خلاله الى حالة الربط بين دموية هارون وبين جذوره وأصوله متمثلة بالخيزران المرأة الموتورة التي تعرف كيف تسفك الدم وتريقه.والهادي الرجل المتفنن بطرق القتل وأساليبه فان كان هذان هما أساس تكوين شخصية هارون وهما صلة الرحم والوصل والقربى فما بال هارون وقد تقلد سيف السلطة الجائرة؟الشخصيات الثلاث هنا سلوكيا إذن تقوم على الأفعال الدموية نفسها ولكنها على الرغم من هذا التشابه السلوكي تتعارض فيما بينها تعارضا يؤدي في أغلب الأحيان الى إراقة الدم.

  لقد خصص موكري هذا الفصل برمته لإلقاء نظرة تاريخية على الأحداث وبيان الكيفيات التي فتحت الطريق أمام هارون ليتربع على دست الحكم.

        أما البرامكة،كحالة تعارضية هامشية، فلم يكونوا بأقل قدرة على الدسيسة والتآمر واللعب بحياة هارون وإبعاده عن الأمور الجوهرية ودفعه الى الملذات وتأسيس بيت الحريم. يقول يحيى:

"الأبله هو الذي لا يخاف من أصدقائه بقدر خوفه من أعدائه"

وهي جملة تفسر حجم الخراب الاجتماعي الذي حل بالمجتمع العباسي وقت ذاك..وضياع قيمه وأخلاقه وشيوع الدسائس والمؤامرات بين حكامه،وقد تكون هذه الجملة هينة إذا ما قسناها بحجم الأفعال التي يقوم بها الأشقاء والأمهات ضد أشقائهم وأمهاتهم..الكاتب أراد أن يقول أن همَّ العوائل الحاكمة كلها لا يتعدى همَّ القتل والدسيسة. وان ما يشغلهم  فقط هو الحفاظ على سلطانهم بأي شكل من الأشكال.وان الوسائل والغايات مهما كانت دموية تبررها الأهداف الرامية الى تعزيز موقعهم في السلطة  وإبعاد الخطر عنها حتى وان كان ذلك الخطر متأت عن طريق الأب أو الأم أو الأبناء.

إن محمد موكري ترك المجال مفتوحا أمام هذه الشخصيات لتجعل من جريمة قتل الأب لإبنه جريمة مشروعة وكذلك الأبن لأبيه والأخ لأخيه والأم لأبنائها وفي هذا خطورة كبيرة قدر تعلق الأمر بالنواميس البشرية.

     لقد التزم محمد موكري بالخط العام لحكاية هارون الرشيد كما وردت على لسان رواة التاريخ معتمدا في هذا على تسعة وأربعين مصدرا تاريخيا ولكنه خرج عن ذلك الخط قليلا  فأضاف من عندياته أحداثا  وشخصيات لم تستطع،على الرغم من مساهماتها في التأثير على سير الخط العام،أن تحرف المسار الدرامي عن المسار التاريخي للحكاية فحافظت،من حيث شاء الكاتب أم أبى،على واقعيتها وتسجيليتها التي كنا نرغب أن يخرج عنها كما خرج عنها في المشهد الأول والمشهد الأخير مادام قد تخلى،وهذا حقه المشروع، عن إعادة كتابة التاريخ لتغليب خياله الذاتي كما جاء ذلك على الغلاف الأخير للمسرحية،والتحليق بعيدا عن الواقع ومجرياته التاريخية.

    أراد موكري أن يقدم لنا حجم الدمار الذي يصيب الناس من السلطة والسلطان والمتسلطين.وان يربط بين الماضي والحاضر،الذي لم يتغير كثيرا،بخيط رفيع.وان يحذرنا من مغبة استمرار الماضي البغيض،بكل ما يملك من دموية وعنف وترهيب وقتل جماعي،في حاضرنا الذي شاعت فيه أساليب جديدة ومهولة (للجينوسايد).

 

تعارضية الرشيد في نص زنكنه (الخاتم)

     أما الكاتب المسرحي محي الدين زنكنه  فقد حفر على صخرة التراث العربي  بأزميل المعرفة نافذا إلى أعماقه السحيقة ومسلطا كشافاته على مطبات عوالمه الخفية وأسراره القصية وطلاسم لياليه الألف، ثم عاد وفي جعبته(السؤال)الدرامي المحير:(9) لماذا يحدث لنا كل هذا؟ في مسرحية حاولت الوثوب إلى ما وراء المقاربات الوصفية وتخطي الحواجز الزمانية لتجعل من ظلم الظالمين،وقسوة المستبدين،على مر العصور،فعلا تدميريا يتصاعد خطه الدرامي من الماضي البعيد ليبلغ ذروته القصوى في حاضرنا المستمر،مسرحية استلهم أحداثها وشخوصها، بطريقة مشرقة(10) من تراث (الليالي) فسلط الأضواء من داخلها على أوكار الطغاة والبغاة وعلى تحكمهم الجائر بأمور العباد والبلاد على وفق ما يشتهون،وبالكيفية التي يريدون،وبالطريقة التي يرتأون.مسرحية تخطت حدودها الإقليمية و قدمت نفسها بنفسها من على خشبات المسارح العربية(11) بعد أن ملأتنا غيظا  وغضبا حتى أطلقنا صراخنا المكتوم وصمتنا المدوي:

 أوقفوا كل هذا(12)وبين ذلك السؤال وهذه المطالبة ظل الطاغية متخف وراء ازلامه،متمترسا بهم وظلت أصابعه البغيضة تحركهم من وراء الكواليس ليعيثوا في البلاد فسادا و دمارا ولم يكن أمام زنكنه، وقد انتهى من مسرحية (السؤال)،إلا أن ينقب،ثانية،في حفرياته،عن لقى أدبية وتعاويذ فنية يحصن بها إنسانه المعاصر فوجد ضالته في(الخاتم).

ولأننا تناولنا(السؤال) في دراسة ضمها كتابنا السابق (البناء الدرامي) لذا سنكتفي  بمتابعة آثار تعارضية شخصية الرشيد في نص مسرحية محي الدين زنكنه(الخاتم).

 

هكذا كانت البداية

    قلما تحتاج مشاهد المسرحية المحدثة الى عنوانات تحدد ماهيتها..فان فعلت فان ذلك يقدم خدمة أدبية على صعيد قراءتها كنص أدبي؛وزنكنه من الكتاب المحدثين الذين يولون اهتماما،كبيرا،للشأن الأدبي.فالمسرحية،عنده، عمل درامي يزاوج فيه بين الفن والأدب بطريقة مدروسة تتيح إمكانيات أدائية متفوقة على صعيدي قراءتها كنص أدبي،ومشاهدتها كعرض مسرحي.ولعل أهم ما يمتاز به زنكنه في هذا الجانب هو قدرته على تسخير الأدب ليخدم أغراضه الفنية وهذا ما لا يتاح لكتاب الدراما الذين يتحولون من كتابة القصة والرواية الى المسرحية إذ يظل،عندهم،جانب السرد الروائي طاغيا على أعمالهم ومتقدما على طبيعة الفعل والصراع الدراميين باعتباريهما ميزتا العمل المسرحي وعنصرا بنائه الأساسيين. 

   تبدأ مسرحية(الخاتم) بإلقاء الأضواء على شخصياتها الرئيسة كاشفة طبيعة تلك الشخصيات من خلال سلوكها (تعارضيتها) ومواقفها المشوبة بالغرابة،فهارون الرشيد بطل (الخاتم) وشخصيتها المحورية شخصية غير محددة بسمات تشخيصية.أي هارون هو؟..أهو هارون التأريخ؟هارون الليالي؟أم انه ليس هذا ولا ذاك؟.أسئلة يطرحها زنكنه في المقدمة التي وضعها للمسرحية ليبرر بوساطتها قبول الشخصية الجديدة على أنها شخصية مبتكرة لا ترتبط بهذه الشخصية أو تلك ،على الرغم من وجود آصرة جوهرية بين الشخصيات الثلاث تجعلها تصب، جميعا، بعضها في مصب بعض إذ توحدها شرورها وتمنحها الحق في التلاعب بمصائر العباد.وإذ تصل حد مصادرة الحريات و إلغاء الحقوق وفرض الإتاوات والتنكيل والغدر بالأبرياء من الناس وتضليلهم بالأساليب التمويهية (ديماغوغيا) يقوم نفر من الذين يعارضون تلك الحقائق و يدركونها بأداء دور الخليفة وزبانيته القساة البغاة الضالعين في شرورهم ليجعلوا الناس يرون ويسمعون ويدركون حقيقة ما يفعله هارون وسيّافه ووزيره ومريدوهم فتأخذ المسرحية،من هنا،منحى آخر تبدو فيه أكثر موائمة من  الناحيتين الفنية والفكرية.ولعل زنكنه فعل هذا ليقول لجلاد بلاده إنني،ككاتب وشاهد على أحداث بلادي،أعي ما تفعل وسأقوم بفضحك،سأظهر صورتك الحقيقية،وسأجعل الناس يرون أنيابك الذئبية و هي تقضمهم واحدا واحدا،ومخالبك الكلبية وهي تنغرس في أجسادهم واحدا واحدا وسأجعلهم يرون الدم وهو يقطر من فيك الذي لا ترويه بحار من الدماء الطاهرة النقية.ولم يجد زنكنه،في هذا،أفضل من لعبة المسرح داخل المسرح طريقة تعارضية للوصول الى أهدافه النهائية.وعلى الرغم من أن هذه الطريقة ليست من ابتكارات زنكنه الفنية إلا أنه،كعهدنا به،يأخذ من المسرح العالمي نظرياته و تقنياته بطريقة حيوية تبدو معها تلك النظريات والتقنيات كما لو أنها وجدت لتخدم خطابه المسرحي.إنها للمتبصر والمتأمل،في فنه،كما لو أنها ابنة للظروف التي يخلقها في نصه ووليدة شرعية لها.وبالطريقة نفسها يأخذ زنكنه من التراث العربي والكردي ما يدعم أفكاره وتأسيساته الفنية،وفي هذا يكمن سر إبداعه مسرحيا وروائيا على حد سواء.

 

لماذا المسرحية داخل المسرحية ؟

      لأن زنكنه أراد أن يقدم شخصيتها الرئيسة على مستويين:يعرضها في المستوى الأول كما يراها في الواقع،ويعرضها في المستوى الثاني على وفق رؤيته الاستبصارية لها.بمعنى آخر انه يعمل على إبراز تمظهرهما شكليا واختلافهما جوهريا وكلما أمعن في هذا الاختلاف كلما وضحت لنا درجة تعارضيته،فهارون المسرحية الثانية (الداخلية) يعي حقيقة الأفعال التي يقوم بها هارون المسرحية الأولى،فضلا عن تعارضه معه دراميا و جوهريا.وبهذا يحقق زنكنه اكبر شرط من شروط اللعبة المسرحية،لعبة المسرح داخل المسرح أو التعارضية،وأهم أسسها التي اشتغل عليها ( لويجي برانديللو )(13) كمبتكر من قبل،وسخره زنكنه لخدمة مسرحيته بالمستوى الإبداعي نفسه الذي اشتغل فيه على مصادمة الشخصيتين ومواجهتهما مع بعض.وما ينطبق على هاتين الشخصيتين ينطبق على الشخصيات الأخر مثل شخصية جعفر وشخصية مسرور وشخصية زبيده.

      إن هارون كما حفظته الذاكرة الجمعية عبر التأريخ،وقدمته المسرحية الأولى رجل مؤمن،بل أمير للمؤمنين، تقي،ورع،لا يظلم ولا يجور،ازدهرت بغداد في زمانه وعلا شأنها وصارت تضاهي بلدان المشرق والمغرب.وكان بيت مال المسلمين،في الزمن الهاروني،مليئا  بالمال من اجل المسلمين،إلا أن هذا المؤمن يفتتن بخاتم ليس له مثيل بين الخواتم كلها فيرسل في طلب مالكه التاجر الأموي ليشتريه منه بأي ثمن حتى ولو كان ثقل التاجر ذهبا أو ضعف ثقله ذهبا.مصرحا عن رغبته الاستحواذية التي تكشف عن وجهه المتخفي وراء أقنعة العدل والأمانة والحفاظ على أموال المسلمين.لقد قام زنكنه فضلا عن فضحه هذه الرغبة الشاذة بفضح رغبته الأكثر شذوذا وهي الاستحواذ على (نعم) المرأة الحسناء التي هام بها حبا فقتل زوجها غدرا.وأراد نسيان هواها عن طريق الحج الى بيت الله  ولكنه وجد نفسه غير قادر على الابتعاد عنها. يقول وزيره مذكرا إياه:

 "الوزير:ولكنك وطنت نفسك على نسيانها وإيغالا في الابتعاد عنها توكلت على الله وسرت نحو الحج و إمعانا في إطالة زمن الفراق اخترت المشي على الأقدام.      

         الخليفة:لم ابتعد خطوة واحدة..ولم أفارقها لحظة واحدة..كنت مثل بغل الطاحونة الدائر حول الرحى أدور فتدور نعم معي..أتنفس هواء اسمه نعم..استنشق أريجا اسمه نعم..بيد أني كنت أكابر..اخدع نفسي لكي أخادع غيري..أتظاهر بنسيانها وأنا في لج الانشغال بها، أبعدها عن ذهني وهي تسري في عروقي قسما بقبر جدي الشريف الذي ما زال ترابه عالقا بجبيني. لم تشغلني مسألة من مسائل الدنيا ولا الآخرة مثلما شغلتني نعم………"

و هكذا يترك أمير المؤمنين الحج و طقوسه و يقفل راجعا من اجل نعم فيتنكر بزي الشحاذين و يتوجه للقائها مع سيّافه مسرور ووزيره جعفر.

      إن ما خفي من شخصية هارون المسرحية الأولى يفضحه هارون المسرحية الثانية كاشفا حجم التعارض ومبينا  لفقراء الناس أي تعاسة يعيشون وأي بذخ وترف وثراء ينعم به هارون،وليكشفوا حجم الخديعة والضلالة التي وضعهم فيها وليكفوا عن القبول بالذل من اجل عزة الخليفة،وبالجوع من اجل  تخمته وبالخوف من اجل رهبته وبالدونية من اجل علوه.ويدرك شخوص المسرحية الثانية أن لا سبيل للخلاص من هذا إلا من خلال جعل الناس يرون بأمهات عيونهم ما يفعله بهم الطاغية وما يرتكبه بحقهم من عسف وجور وظلم واستبداد فيقومون باحتلال قصر كبير التجار مدعين ومتظاهرين أنهم اتخذوا هذا القصر وكرا لإشباع رغبات هارون وملذاته.وإذ يأخذ الفضول هارون  ومسرور وجعفر الى ذلك القصر،بعد أن سمعوا عنه ما سمعوا يلقي القبض عليهم شخوص المسرحية الثانية من دون أن يتعرفوا على شخصياتهم(هوياتهم) الحقيقية التي أخفوها وراء أقنعة الشحاذين. وهنا يرى هارون شبيهه أو من يقوم بدور هارون وكذلك جعفر ومسرور.في هذه اللحظة،تحديدا،تبدأ الصدمة الدرامية فعلها المؤجل فيأمر هارون (المسرحية الثانية) أن يربط هارون(المسرحية الأولى)ومن معه الى صخرة ثم تدحرج هذه الصخرة نحو النهر لتستقر في أعماق دجلة.ولكنه يعود  ليخبرهم بين القبول بالموت أو القبول بمسخ أحدهم قردا كما هو حال قرد السيدة زبيدة.وسنكتشف أن هذا القرد إنما هو كبير التجار ممسوخا،وأن هذه المرأة التي تمثل دور زبيدة المستهترة هي (نعم) ليحصل التعارض الكبير بين ما يريده هارون وما تريده نعم.فبقدر الحب والاشتهاء الذي يكنه لها هارون تكن له البغض والحقد والرغبة في الثأر لزوجها الذي قتله ليخلو له جو الوصول اليها والانفراد بها وهذا هو الوجه الأول للتعارض بين هارون ونعم

      إن شخوص المسرحية الثانية إنما يفعلون هذا بالشحاذين أو من ظنوا أنهم شحاذون كمحاولة لجعلهم يرون ما خفي عنهم من شخصية هارون وأزلامه العتاة. وهكذا يبدأ الشحاذون الثلاثة هارون وجعفر ومسرور بالمنافسة الشديدة ليحصل كل منهم على هبة السيدة بجعله قردا لها  فيتنازل هارون عن جبروته وعظمته وسلطته ليؤدي رقصة مخزية مذلة لا لشئ إلا لتحفظ حياته بفوزه على منافسيه وإرضائه رغبات السيدة وتنفيذ طلباتها المهينة.تشتد المنافسة بينهم ويتعمق الخلاف فينكشف المستور وتفضح أفعالهم الإجرامية ونواياهم الخبيثة ويظهر كل منهم بوجهه الحقيقي بلا قناع وبلا سحنات.وتظل الأسئلة،هنا،قائمة حول هذه الشخصية بعد أن ترى سلوكها وفعلها منعكسين من خلال من يقوم بأداء دورها التسلطي.. هل ترعوي؟ هل تذعن لصوت الحق والعدل؟هل تكف عن القتل والذبح ؟ هل تتخلى عن نزواتها ورغباتها وشذوذها؟ هل تغير سياستها القمعية؟...ويأتي الجواب من الشخصية نفسها.ففي أول فرصة انتهزتها للنجاة  ولاسترجاع سلطانها عادت الى ممارسة أبشع ألوان التعذيب والترهيب وشراء الذمم والتمثيل في القتلى.

      لقد قتل هارون المسرحية الأولى هارون المسرحية الثانية.وكأني بزنكنه يقول إن هارون انقض على ما تبقى في نفسه من خير وإنسانية منتزعا منها ما تبقى لها من جوانبها المشرقة أن  كان فيها جوانب مشرقة أصلا.

      قدمت المسرحية إذن قوتين متناقضتين متعارضتين جوهريا ومتشابهتين مظهريا اشتد الصراع بينهما  فأدى الى انزياح إحداها وبقاء الأخرى وهي الأكثر سطوة وعسفا وعنفا وإيغالا في الظلم والمظالم والإرهاب الحقيقي.نقول الحقيقي لأن القوة الثانية لم تستخدم العنف والقسوة إلا بعد أن سدت في وجهها كل سبل تثوير الفقراء ضد الطاغية وسلطته الجائرة.وعلى هذا تظل القوة الثالثة غائبة عن ممارسة دورها وفاعليتها في حياة المسرحية ولكن زنكنه لا يعدم جذور الوعي فيها،هذا الوعي الذي تبلور في شخصية زينب فأثارت همم الفقراء وأيقظت في نفوسهم الرغبة  في مقارعة قوى الظلام فها هي ذي تقول لصاحب الزورق (البلام) محرضة:

       "ليملأ الغضب عيوننا وقلوبنا وعقولنا..وليشتعل الغضب في كل مكان ويحرق قتلتهم الأوغاد.إن النار التي ألهبها هؤلاء الأبطال..بدمائهم الزكية..لن تنطفئ..ستحرق كل أوكار الفساد والظلم وتحرقهم معها.."

وسنرى في خاتمة المسرحية كيف جندت نفسها و من معها ليكون لهم حضورهم وتأثيرهم الفاعل على النهاية.

 

ليست النهاية

    مرة أخرى يستعين زنكنه بالأدب ليضع عنوانا لخاتمة المسرحية (ليست النهاية) إذ لا تأثير على النص من الناحية الفنية ولا على خاتمته إذا حذفنا هذا العنوان،وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن النص كتب ليمثل على خشبة المسرح وأن العرض لن يستخدم (اليافطات) المكتوبة أو الممثل  الذي يعلن عن بداية المسرحية أو خاتمتها.

      أرادت عنونة المشهد الأخير التأكيد على وصول المسرحية الى نهاية مفتوحة كما هو حال  اغلب نهايات زنكنه المسرحية،بعد انتصار قوى الشر ممثلة بشخصية هارون وأزلامه،على قوى الخير،ممثلة بمن أدى دور الأشرار بقصد واضح،انتصارا أدى الى هيمنة المسرحية الأولى على المسرحية الثانية.

      لقد صلب هارون شخوص المسرحية الثانية(التعارضية) ومثل بأجسادهم وطلب من الناس،بطريقته المعهودة في شراء الذمم،رجم جثثهم بالحجارة ليكونوا عبرة لكل من يحاول مقارعة هارون/السلطة.هذه النهاية إذن أرادتها المسرحية واختارتها قوى الشر ولكن زنكنه لم يعتبرها كذلك.فالقوة الثالثة التي وضعها بين رحى القوتين السالفتين ستعلن عن نفسها وقدرتها على صناعة النهاية المطلوبة ولهذا يقوم سلمان وزينب وفرات وآخرون،بعد صلب نعم و مساعديها،بأكبر عملية خداع لهارون كي لا يرجم جهلاء القوم جثث أشرافهم المعلقة.لقد تسلل سلمان إلى الجامع ورفع الأذان بصوته المؤثر الجميل فصار لزاما على أمير المؤمنين أن يأم الناس وأن يتجاهل إصرار التاجر الأموي على القيام بالرجم قبل الصلاة. وإذ يتوجه هارون وزبانيته الى المسجد تقوم زينب وابنها وفرات ومساعدوهم بإنزال الجثث ورفعها على الأكتاف والسير بها "في موكب مهيب يرين عليه الصمت،بلا دموع ولا نحيب بصرامة في الوجوه،وعزم في القلوب وغضب في العيون. يخرجون ويبقى فرات وحده، يرمق مجلس الخليفة ورهطه بغضب، يقذفه بحفنة حصى..و..ببصقه..ثم  يسرع خارجا…… يلتحق بالركب." (14).وهنا لا بد من الإشارة الى حرص زنكنه على أن يكون الفعل الأخير الذي تقوم به شخصية،منفتحة على المستقبل،دالة على هزالة المستبد وضعفه.فكل جبروت الظالم وطغيانه يتلاشيان أمام بصقة غاضبة يوجهها فرات الى جبين الطاغية وأزلامه البغاة.ولا تختلف هذه البصقة من حيث فعلها التحريضي والتعارضي عن البصقة التي وجهها قائد الجند (روستميرو) الى جبين مليكه (ستافروب) الظالم في خاتمة مسرحية محي الدين زنكنه (رؤيا الملك) وهي المسرحية التي استلهم زنكنه أحداثها من التراث الكردي القديم(15).

 

 الطريقة الثانية .. الملحمية

 تقديـــم: 

    شهدت مرحلة السبعينات انفتاحا كبيرا على الثقافة العالمية وسعى المترجمون للنهوض بمهمة إيصال تلك الثقافة الوافدة ونشرها وتعريفنا بأبرز المدارس والمذاهب الفنية والأدبية.ومن بين أهم تلك التراجم التي اختصت بالدراما الحديثة كتاب" نظرية المسرح الملحمي"الذي قام بترجمته د.جميل نصيف التكريتي والذي وفر لنا فرصة تناول بريخت كاملا بعد إن قرأناه مجزءًا وموزعا على صحف ومجلات كثيرة.

    ولقد رأى بعض كتاب المسرح العراقي وبعض مخرجيه أن من الضرورة بمكان توطين هذه النظرية والاستفادة منها واستلهام مادتها والاشتغال على ضوئها لإنتاج مسرح ملحمي عراقي خالص.فعلى صعيد الإخراج برز اسم المخرج الكبير إبراهيم جلال الذي تبنى الملحمية وأخضعها لعملياته المختبرية/التأهيلية فقدم عروضا تركت بصماتها الواضحة على صفحات المسرح العراقي.وعلى صعيد الكتابة المسرحية قام الأستاذ عادل كاظم بهذه المهمة في سائر أعماله الدرامية ومنها مسرحية الحصار.في هذه المسرحية عمد عادل كاظم كسر الجدار الرابع بعد إن جعل المنادي والطبال يسلكان طريقهما بين جمهور النظارة،من خارج القاعة إلى داخلها،ليربط الطرفين بعلاقة حميمة تتطلب تدخلا منهم في الأحداث التي تجري على خشبة المسرح ليحقق بهذا حالة تحريض عقلية مهمة،فالجمهور الذي في الصالة من البغداديين وغيرهم معني بما يحدث على خشبة المسرح بشكل مباشر.إنه يقوم إذن على تحريك عقل المشاهد باتجاه الاتصال والربط بين الحكاية المعروضة وبين الموقف العام.ووراء هذا الاتصال تكمن رغبة الكاتب في الثورة والتمرد على جور الوالي العثماني وظلمه.وكمحصلة حاصل يدعو الكاتب إلى محاربة الاحتلال الذي تسبب ببلاء الناس في بغداد من داخل الناس لا من خارجهم.إن دخول الطبال والمغني لم يكن بدعة أو ترفا أو محاولة للإبهار أو تقليدا لبريخت حسب،بل هو ضرورة اقتضتها قضية البغداديين أنفسهم والتي يتعذر الاتصال والربط بينها وبين المعنيين بها من دون وسيلة ناجعة قادرة على المقاربة والمقارنة والعقلنة.ولا تتوقف القضية عند هذه الحدود بل تتعدى ذلك إلى خروجها من دائرة الزمان الذي تدور فيه الأحداث إلى زمان المشاهدة.لهذا حرص عادل كاظم على أن لا تظل مادته التراثية مراوحة في زمانها دون الإشارة إلى الحاضر ومجرياته التي لا تختلف كثيرا عن الماضي ومجرياته من حيث حجم الظلم ورعونة الاستبداد والتلاعب بالمصائر على وفق ما تمليه رغبات المحتل التدميرية.والمحتل هنا ليس بالضرورة أن يكون أجنبيا فالعصر الحديث شهد تجارب دامية للاحتلال الوطني وقد عانت بغداد من مرارة الاحتلالين وإلا ما نفع ما تقدمه (الحصار)آنيا إن لم يكن التحريض المعقلن على إنهاء هذه الحالة بما توفره (التعليمية)من بلورة  للوعي الجمعي لجمهور النظارة.وتجدر الإشارة،هنا،إلى ضرورة عصرنة المغني والطبال وعصرنة دورهم الأدائي كمعاصرين يرويان أحداث الحكاية والتعريف بشخوصها وان اتسع لأكثر من هذا فالمشاركة بتمثيل أحداثها لان الأمر في النهاية لا يعدو كونه تمثيلا كما يؤكد على هذا بريخت في نظريته الملحمية.وإذ ينتهي (البرولوج)تبدأ اللوحة الأولى تحت عنوان مثير(البغداديون يعيشون محنة الموت)وقد أراد الكاتب من هذا العنوان غير المحدد بزمان أن يشير إلى حصار آخر يحسه الناس،وجوع آخر يعانون منه وموت آخر يتعرضون له كل يوم.قد لا يحتاج العرض إلى إظهار يافطة يكتب عليها هذا العنوان أو ممثل يقوله مباشرة أو بمكبر صوت ولكن نحتاجه نحن إذا تناولنا المسرحية كخطاب أدبي قرائي لنقرر حالة البغداديين قبل التعرف على أحوالهم من خلال أحداث النص،وهذه مهمة ملحمية أيضا.

 

  التراث وموضوعة الحصار

  تعد مرحلة الاحتلال العثماني لبغداد من المراحل التاريخية التي كثر تناولها في الخطاب المسرحي العراقي لأسباب نذكر منها:

أولا- النـزوع إلى تأصيل المسرح العراقي عن طريق استلهام التاريخ أو المادة التراثية.لغناهما المعرفي ولاحتوائهما على طاقة درامية هائلة.

ثانيا- مراوغة الرقيب ومؤسسته بما تمتلكه المادة المستلهمة من مرونة في التأويل وقدرة على تغليف المعنى الباطني المكتوم بالمعنى الظاهري المعلوم.

ثالثا- قدرتها على إرضاء الجانب النفسي والاجتماعي لجمهور النظارة لانطوائها على شحن ترغيبية وتشويقية وانحيازية.

ومثلما نجح بعض الكتاب المسرحيين في تناول المادة التراثية تناولا سليما اخفق بعضهم الآخر بسبب جنوحه إلى الأفكار(القومانية)ونزوعه نحو المواقف المتعصبة.ويعتبر الكاتب المسرحي عادل كاظم من ابرز الكتاب الذين استلهموا التراث استلهاما مشرقا وكتبوا عددا من الأعمال التي شهد لها النقاد بالنجاح مثل مسرحية تموز يقرع الناقوس،الطوفان،الحصار،الموت والقضية،وعلى الرغم من كل الملاحظات التي وردت في تقييم بعض أساتذة المسرح لهذا الكاتب تشكل أعماله نقطة الانطلاق السليم نحو استثمار المسرح العراقي للتراث العربي والعالمي دون أن يتجاهل هذا الاستثمار مشاعر ومعاناة وإرهاصات إنساننا المعاصر.

في مسرحية "الحصار" يلجأ عادل كاظم الى الماضي ليبث من خلاله شفرات الحاضر ومعاناته ومكابداته وهو في هذه المسرحية لا يبدأ من الحكام والمتسلطين وإنما من أبناء الشعب البسطاء الذين يعانون الأمرين الظلم والجوع إذ يستهل المشهد الأول أيوب الأحدب قائلا:

"بغداد تعيش المحنة.والوالي يلعب شطرنج،والأغوات يهربون ذهبهم بين سيقان زوجاتهم وأنا اسرق الشعير من معلف الجندرمة والموت يسير هادئا في جسد بغداد"

      إن هذه الجمل الاستهلالية تنطوي على أعمق نقاط التعارض والتناقض والتضاد والمقارنة بين الشيء ونقيضه: فالجملة الأولى:بغداد تعيش المحنة والجملة الثانية: والوالي يلعب شطرنج تعكسان طبيعة الطرفين المتنافرة.فلو كان الوالي مهتما بأمر بغداد لما واجه واقع المحنة بهذه اللامبالاة والبرود.وفي الجملتين الثالثة والرابعة هناك مقارنة سلبية بين سرقتين(فالاغوات يهربون الذهب بين سيقان زوجاتهم)بينما يسرق أيوب الأحدب الشعير من معلف الجندرمة  ليكتم  به صرخات جوعه الصائتة..فالذهب عند الأغا تتساوى قيمته مع الشعير المخصص لحيوانات الجندرمة عند أيوب الأحدب الجائع،وتأتي الجملة الأخيرة لتكون حاصل جمع الجمل التي سبقتها من الطرفين.بمعنى أوضح يكون حاصل جمع الجملة الأولى مساويا لحاصل جمع الجملة الثانية والرابعة وكما يأتي:

 بغداد تعيش المحنة + أنا اسرق الشعير من معلف الجندرمة = 

                                                                        الموت يسير في جسد  بغداد

الوالي يلعب الشطرنج    +   الأغوات يهربون الذهب  ..  =

    في المشهد الأول تدخل أولى الشخصيات المتسلطة (كمال بيك) ياور الوالي الذي يطلب من الأحدب والفحام والسائس أن يكونوا على استعداد لمقابلة الوالي الذي من جانبه يصف الأحداث كلها على أنها لعبة شطرنج،الحصار،والطاعون،والفيضان،والجوع،والموت،وهذه كلها لا تجعله ينثني عن عزمه أو يتنازل عن عرشه أو يغادر بغداد.ويدخل المغني وجوقة البغداديين كاسرين سيل الإيهام الجارف ومحولين الحكاية عن طريق التقطيع المشهدي الى ملحمية  برختية منسجمة مع طبيعة الخطاب الذي قدمه عادل كاظم بطريقة ألغت الفواصل بينه وبين ملحمية بريخت وهذا يشير الى قدرة ودربة عادل كاظم على تطويع المنهج الملحمي لخدمة النص المسرحي العراقي،بوقت مبكر،فمنحه هذا ريادية لا سابقة لها في المسرح العراقي،ولعل هذا كله يشير أيضا الى أن المسرح العراقي لم يتخلف عن مواكبة التطورات والنظريات الناجزة في المسرح العالمي لا إخراجا ولا تأليفا.فالحصار نص مكتوب على وفق المحددات الملحمية. وعادل كاظم يكاد يكون أول من تبنى الكتابة على وفق هذا النهج الجديد ولهذا نجد مخرجا كبيرا مثل إبراهيم جلال  يميل إلى إخراج مسرحيات هذا الكاتب لتوافق ميوله المنهجية،وأهدافه التي ترمي الى بلورة وعي المشاهد وإسقاط النقاب عن  وجوه الظلم المتسترة وراء شتى الأقنعة. وكما جعل بريخت التعليمية جزءا من منهجه كذلك فعل عادل كاظم فجاءت لغته في(الحصار)سهلة طيعة مرنة على الرغم من احتفاظها بإيقاع الشعر وعروضيته واسترسالها بكلمات تستفز مشاعر الغضب وتحرك في دخائل البغداديين الرفض والتمرد وتدفعهم الى الثورة على المحتلين والخلاص من هيمنة الطغاة.يقول في نهاية الجزء الأول محرضا:

"عندما لا يجد الآباء في أتعاب يوم كله كسرة خبز فيموت الطفل في أحضان أمه..لوعة في صمت محنة..عندما ترسم كف الحرب شارات النهاية..وهي تعني موت أجيال،على مذبح أطماع السلاطين عندما يحدث هذا سيداتي سادتي.. تطفح ثورة."

   إن هذا التحريض المدروس هو جوهر العملية التعليمية وغايتها القصوى الهادفة إلى إنجاز التغييرات المطلوبة للمرحلة التاريخية.وإذا انتقلنا من هذه المسرحية إلى مسرحيات أخر مثل(المتنبي)و(أحزان الدولفين الأحدب)و(الموت والقضية) فإننا نجد أنها لا تقل ملحمية عن (الحصار) فمسرحية (الموت والقضية)،على سبيل المثال لا الحصر، مسرحية ملحمية من ألفها إلى يائها.

 

الموت والقضية 

    إذا بدأنا من ثريا هذه المسرحية فإننا سوف نقرر أن بين الموت والقضية جسران:

الأول يفضي إليها،والآخر يتراجع عنها.معادلة تتحرك الشخصيات على طرفيها في محاولة لانتشال نفسها من الضياع وإدراك الحقيقة..حقيقتها التي غيبتها الظروف في خضم ردة تاريخية انعكست على صفحاتها كل أشكال التنصل عن الحاضر وتطوره،والتشبث بالماضي وقيمه البالية بدءًا بـ(شهريار) الماضي وانتهاء بـ(دراويش) الحاضر.لقد أدرك عادل كاظم،بحس الثوري وصدق الكاتب ونبله،حقيقة وطبيعة القوى السياسية المهيمنة على مفاصل الحياة الاجتماعية واستراتيجيتها الهادفة إلى التغييب والتضليل والتمويه،والرجوع القسري إلى الماضي تحت أغطية  (قومانية) مسحت معالم الحاضر وأشاعت نوعا جديدا من العلاقات القبلية المتخلفة التي ظل الفرد جرائها يعاني من الضياع.لقد وضع عادل كاظم يده على موضع الجرح،وأراد،بخبرته الدرامية،أن يضمده فكانت مسرحية(الموت والقضية) التي تضمنت،كما هو حال مسرحياته الأخر،على افتتاحية سبقت قسمها الأول(برولوج) معلقة على لسان الشاعر المغنى  أن شهرزاد ستقص حكاية جديدة من حكاياها الألفية.وإنها ستمهد لنا  الدخول إلى أحداث المسرحية التي توزعت على قسمين تضمنا على واحد وعشرين مشهدا،وأربع شخصيات درامية هي الثوري رمز الحاضر والدرويشان رمزا الماضي وشهرزاد همزة الوصل بينهما.وظلت شخصية شهريار الغائبة حاضرة من خلال شهرزاد التي ترى فيه ضياع حريتها على مر العصور، ومن خلال دميتها (فزاعة الطيور) التي لا تملك لنفسها ضرا ولا نفعا.شهريار إذن قيمة تاريخية بالية فقدت إرادتها وسطوتها،وتوقفت مراوحة في زمانها ولم تعد تمارس فعلها في مصادرة الحريات والحقوق.إنها(خرّاعة الخضرة) كما يسميها العراقيون.وهذا يعني أنها نكرة لا حدود لجمودها بعد أن كانت معرفة بالقتل اليومي.لقد حاولت شهرزاد إضفاء القيمة عليها من خلال الارتقاء بها إلى مستوى القضية ولكنها ستكتشف بمرور الوقت خواءها فتدرك إذ ذاك أنها ليست سوى(فزّاعة طيور) حسب.ولم يستطع الدرويشان،على الرغم من تشابه جانب من جوانب حياتيهما مع هاملت وعطيل باعتباريهما رمزين للرجعية البرجوازية المتذبذبة بين الإقدام والتراجع،بين الرياء والنقاء،بين النكوص والثورة،التعبير عن جوهر تلك القوة وتذبذبها بالمستوى المطلوب ذلك لان عادلا اكتفى بالإشارة إلى ذلك التشابه من خلال تأكيده على فعلي القتل: قتل الأم (في حالة هاملت) وقتل الزوجة (في حالة عطيل) ظنا منه أن هذه الإشارة تضفي عليهما ما يجعل بناءهما وتناميهما الدراميين بالمستوى الذي قرره ذهنيا ولم يصل إليه،على الورق،فعليا..لقد ترك الشخصيتين تتحركان على سجيتهما و(روتينيتيهما) دون تدخل كبير منه كمؤلف للنص.وكان الأجدر به،وقد اعترف بتشابهيهما،إلغاء إحداها والاكتفاء بالأخرى ما دام الحذف لا يؤثر،بشكل واضح،على مجريات عمله المسرحي.ويتشابه الدرويشان،أيضا،في انشطار شخصية كل منهما وازدواجيتيها ووضوح ذلك الانشطار عند الأول من خلال نقله لبيادق القوة البيضاء المهاجمة على رقعة الشطرنج ومن ثم انتقاله إلى طرف الرقعة الآخر ليلعب دور الرسيل في تحريك بيادق القوة السوداء بطريقة تحول دون انتصار هذه القوة أو تلك ليستمر الدست على ما هو عليه حتى حضور الغائب المنتظر.وعند الثاني من خلال انغماره بلذة استنشاق الدخان من نارجيلتين وضعت كل واحدة منها على طرف من طرفي المسرح ليستمر في تزجية الوقت حتى يحضر الغائب المنتظر أيضا.وإذ يحضر ذلك الغائب بهيئة (الثوري) يتمسكان به وينشدان الخلاص على يديه ويتظاهران بالسير على خطاه ولكنهما في الخفاء يشيان به كما وشي يهوذا بالسيد المسيح. لقد حاول (الثوري) مساعدتهما على التحرر من الوهم والعجز الذي سيطر عليهما وإبعادهما عن قضيتيهما إلا أنهما لم يستطيعا مساعدة نفسيهما أو عتقها من ربقة الانتظار الذي لا طائل من وراءه.المسرحية عموما تقدم أفكارا واضحة وتطرح شخصيات متواضعة وان لبست، أحيانا، أقنعة شخصيات نعرفها مثل هاملت وعطيل وجيفارا، ولكنها في الوقت نفسه قدمت لنا أسلوبا جديدا لم يألفه المسرح العراقي بشكل واضح قبل عادل كاظم هو أسلوب المسرح الملحمي الذي يتضح في النص من خلال:

 

 أولا - تقسيم المسرحية على ثمان لوحات وضع عادل كاظم عنوانا مستقلا لكل لوحة منها يدل على جوهر اللوحة وظاهرتها الاجتماعية.فجاءت الأولى تحت عنوان(شهرزاد تروي لياليها لشهريار)والثانية(الدرويشان يبحثان عن النقاء) والثالثة(شهرزاد تبحث عن الوجه بين الوجوه(..الخ..وبهذا الخصوص يقول بريخت:"إن أحسن ما يمكن أن نفعل من اجل ذلك هو أن نلجأ إلى العناوين"وإشارته هنا إلى انسجام هذه الأجزاء أو اللوحات المختلفة ضمن حبكة المسرحية.والعنونة سواء وردت على لسان أحد الممثلين أو جاءت مكتوبة على يافطة فأنها تؤدي غرضين:الأول الإخبار المسبق عن فحوى اللوحة لكي يعرف المشاهد أو القارئ في حالة النص أن ما يقدم له مجرد تمثيل للحالة وليس الحالة الواقعية نفسها،والثاني كسر الإيهام الذي تحدثه عملية التمثيل والاندماج لكي يتمكن القارئ أو المشاهد من استرجاع قدراته العقلية التي استلبها اندماجه مع الممثل والحكم على الحدث حكما عقلانيا.

ثانيا - خلق شخصية المغني أو الشاعر أو المغني الشاعر أو الراوي أو المقدم أو المعلق عن الأحداث كجزء من حالة الإخبار المسبق أن ما سيقومون به على خشبة المسرح إن هو إلا تمثيل حسب كما هو الحال في مسرحية (الموت والقضية) الذي يقوم المغني الشاعر بتقديمها ضمن افتتاحية يطلق عليها اصطلاحا (البرولوج).يقول بريخت ناصحا "على الممثلين إلا..ينتقلوا بصورة غير ملحوظة إلى الغناء،بل عليهم أن يبرزوا هذا الغناء بشكل ملحوظ ويميزوه عن بقية الحدث" فالغناء لا تنحصر مهمته في تقديم المسرحية بل تتعدى ذلك إلى تقدم اللوحات حسب مقتضيات حالة النص أو العرض.

  ثالثا - استلهام التراث استلهاما مشرقا عن طريق اختبار الحوادث والشخصيات ذات الطاقات الكامنة والمنفتحة على تجارب البشرية وعصرنتها بما يكفل رواجها مرحليا ومد الجسور المعرفية بينها (كماضي) وبين الحاضر.ذلك لان المتعة التي نحصل عليها من تلك الأحداث التاريخية الموروثة اكبر بكثير من مثيلاتها في الحاضر.ولهذا،يقول بريخت،من الضروري أن نثير عند الآخرين شهية التاريخ التي تعتبر ضرورية حتى بالنسبة للمسرحيات الحديثة – مطورين هذه الشهية للحد الذي يجعل منها شهوة حقيقية. لقد اشتغل عادل كاظم ليس في هذه المسرحية حسب بل في اغلب مسرحياته إن لم نقل كلها على المادة التاريخية..على موروثنا التاريخي الذي انتقى منه مواده المسرحية بذكاء ودراية باحتياجات المشاهد ومتطلبات مرحلته الزمنية.

رابعا – قيام مسرح عادل كاظم على المهمة التعليمية التي تحقق هدف المسرح الملحمي عن طريق المتعة لا عن طريق الإرشادات الأخلاقية أو الخطب الوعظية وسوف لن يتحقق هذا الهدف إلا على أيدي قلة من المبدعين نزعم أن عادلا واحد منهم. يقول بريخت:

 "يمكن أن تستحيل التعليمية الى متعة،والمتعة الى تعليمية فقط في حالة فسح المجال الكافي بصورة كاملة لكل من يملك قابليات على الخلق والإبداع".

خامسا- سأفترض أن غاية عادل كاظم في هذه المسرحية (الموت والقضية) هي الوصول الى فهم سليم لمفهوم القضية وفرز ملابساتها لدى الجيل الذي عايشه عادل والذي كان يعاني أشد المعاناة من ضياعه وفقدان هويته…الخ..وهذا يتفق تماما مع غاية المسرح الملحمي الكبرى التي على أساسها حدد بريخت طريقته الملحمية. يقول في الارغانون الصغير:

"إننا بحاجة إلى مسرح قادر ليس فقط على إثارة أحاسيس وأفكار مسموح بها مثل هذه العلاقات البشرية،وفي مثل هذه الظروف التاريخية،والذي يستخدم ويولد أفكارا وأحاسيس تعتبر ضرورية لتغيير الظروف التاريخية."

      من هذا نخلص الى القول أن عادل كاظم إن لم يكن أول من ادخل طريقة بريخت الملحمية الى مسرحنا العراقي حسب،بل هو أول من قدم الطريقة الملحمية بفهم كبير لحيثياتها ومعرفة دقيقة لمبادئها واستيعاب كامل أو شبه كامل إن أردنا التواضع،لنظريتها،وانه استلهم روح النظرية ووطنها في جسد المسرح العراقي المعاصر بريادية حسبت على تاريخه الإبداعي باستحقاق كبير.

 

الطريقة الثالثة..الحكواتية 

من هو الحكواتي؟

     الحكواتي لغة يعني الشخص الذي يقوم بنقل الكلام ووصف الخبر والإتيان بالشيء المشابه والمماثل.ويعرفه د.حازم كمال الدين على أن"الكلمة الحكواتي باللغة العربية الراوي.اصل الفعل (حكى) يعود الى عملية دمج بين الفعلين (حكى وحاكى) بمعنى قلد أو تشبه.أي أن تسمية الحكواتي تشير الى شخص يريد أن يوصل شيئا الى الآخر عبر الحكي والمحاكاة".

    وفي رأينا أن الحكواتي يتجاوز هذه المعاني اللغوية الى معان أخر تفرزها طبيعة الأداء الحكائي الذي يمارسه بحرفية عالية تؤهله للاستحواذ على اهتمام المتلقي وإثارة عواطفه سلبا أو إيجابا وزجه في لعبة الحكاية.وينطبق هذا بشكل كبير على(القارئ)و(العدادة)لأنهما يتقنان أدواتهما الحكائية من إلقاء وغناء وترتيل ومحاكاة وحركات إشارية وتعابير جسدية يستطيعون من خلالها بمعونة مواهبهم الطبيعية من أن يقلبوا الأفراح أتراحا والأتراح أفراحا.عليه أنهم وكما يذكر ذلك حازم يتمتعون بذكاء يؤهلهم لدراسة الموقف ارتجالا فيحددون نوعية المتلقي ويتعرفون على رغباته وميوله فيعدّلون الحكاية على وفق اكتشافاتهم لتلك الرغبات والميول.ناهيك عن سيطرتهم التامة على الجو العام ومقدرتهم على جر انتباه الشخص،الذي تسرب إليه الملل من الحكاية أو نفر من أحداثها،وإعادته ثانية للدخول في سير الأحداث المحكية.

     لقد ألف الناس في مرحلة لم يكن فيها لأجهزة الإعلام  المرئية والمسموعة من وجود ولم تشبع في نفوسهم الحاجة الى ما يحرك خيالهم ويحلق بهم بعيدا عن واقعهم المعيش،ألفوا الحكواتي وعرفوه في مقاهيهم ومجالس سمرهم مثلما عرفوا (القارئ) في مجالس العزاء و(العدادة) في مجالس النساء.ومع تمتع كل من هؤلاء الثلاثة بمميزات خاصة إلا أنهم يلتقون في أهدافهم المشتركة العامة.قصصهم متشابهة لأنها تنهل من منهل واحد هو التراث القصصي الشفاهي،في أغلب الأحيان،وأبطالهم متشابهون أو مختلفون على وفق اكتشافهم لرغبات المتلقي وميوله النفسية والاجتماعية يفرضون نوعا من التماهي بين القصة المروية وبين قصة المتفرج الذي سيرى نفسه مندمجا كليا مع الحكايا وكأن ما يحدث فيها قد حدث له.

       لقد عرفت مدينتا النجف وكربلاء العراقيتين،أكثر من مدن العراق الأخر،هذه النشاطات الحكائية بسبب بيئتها الدينية والفجائعية.ولم تختف هذه النشاطات عن بيئتها الكربلائية إلا فترة من الزمن كان الناس فيها مجبرين لا مخيرين،ومأمورين لا آمرين،وبسبب هذا وذاك لم تتطور هذه النشاطات الى أشكال متقدمة فنيا وأدائيا مثلما لم تتطور أشكال تراثية أخرى مثل المقامة والقرقوز والإخباري..الخ،وقد سقط بعض الكتاب المتعصبين والقومانيين في خطأ كبير حين زعموا أن هذه النشاطات ما هي إلا  شكل أولي من أشكال المسرحية المعاصرة مع أن هذه الأشكال لا تعدو كونها نشاطات شبه مسرحية لم تتوفر لها الأرضية الخصبة لنموها وتحولها بشكل طبيعي.

        لقد ولد المسرح عندنا ولادة عسيرة جدا في ظروف صعبة غير ناضجة موضوعيا لاستقبال ومباركة واحتضان الوليد الجديد الذي وفدت نطفته من الخارج لتنمو وتكبر داخل رحم الأدب العربي المعروف بطغيان الشكل الملحمي وسطوة الشعر الوجداني (الغنائي)لقد قطع د.جميل نصيف التكريتي،في كتابه الموسوم بـ(المسرح العربي ريادة وتأسيس) الصادر عن دار الشؤون الثقافية العامة في بغداد، الطريق أمام سيل الأفكار غير الموضوعية لأولئك الكتاب ولآرائهم الانحيازية المتعصبة ومغالاتهم ومباهاتهم في أننا كنا ومازلنا الأوائل في كل شئ. إن أحد اكبر عيوب هؤلاء أنهم اكتفوا بالتصريح دون الاشتغال على تطوير تلك الأشكال وجعلها مهيأة فعلا لاستيعاب شبكة همومنا وإرهاصاتنا وانكساراتنا كما فعل بعض المبدعين العرب أمثال عبد الكريم برشيد وقاسم محمد وعادل كاظم وغيرهم.ولا غرابة أن نجد،الآن،فنانا مثل د.حازم كمال الدين يشتغل على تطوير بعض هذه الأشكال(الحكواتي..القارئ..العدادة) وتسخيرها كجنس فني قادر على أن يجد له موضعا بين الأشكال التقليدية والحداثوية.نقول لا غرابة لأن حازم كمال الدين ابن البيئة التي شهدت أكثر من غيرها تلك النشاطات الحكائية المهمة على مدى فترة تاريخية طويلة.ونظرا لأهمية إنجازه وجديته وقطعه شوطا مهما على طريق استكمال شروطه وقوانينه وترسخ دعائمه سنتناول عناصره الحكواتية واصطلاحاته الفنية مساهمة منا في تعزيز مسعاه الجدي والحثيث في تثبيت دعائم هذا الفن وعصرنته وتأصيله.

 

عناصر الحكواتية

   لا تعتمد عناصر الحكواتية عند حازم كمال الدين على عناصر الدراما المسرحية المعروفة بل تتجاوزها الى ابعد من ذلك.فهو ينظر الى عمله الجديد على أنه خروج (من الدراما الأرسطية واللا أرسطية الى اللا دراما) بمعنى أنه يهدم ويفكك النظام القديم ويؤسس عليه نظاما جديدا له شروطه وأسسه وعناصره الحكواتية الجديدة.ومع هذا نجده في تنظيراته لهذا الجنس الفني يتكئ كثيرا على المصطلحات القديمة أو يشير اليها بعبارة "إن صح  التعبير"ولكي نضمن الدقة،منذ البدء،فإننا نعتبر الحكواتية مصطلحا يدل على جنس فني جديد متجاوز للدرامية وللفنون الشفاهية التقليدية في آن واحد.وبناءا عليه نقول انه خرج من الدراما الأرسطية واللاأرسطية الى الحكواتية حتى لا ننفي تماما وجود بعض العناصر القديمة المورثة في أجنة المولود الجديد أولاً و لكي نضمن استقلاليته التامة ثانيا.

 

 ماذا نسمي شغل الحكواتي المطروح للتلقي؟

   سؤال يفرض نفسه علينا ونجد إجابته في جوهر عمل الحكواتي نفسه. فالعمل الجديد يعتمد أساسا على صهر وتماهي كل الأنواع الإبداعية السائدة في بوتقته ومن ثم إلغاء أعرافها(من لغة،نص،ممثل،موسيقى، تقنية،إخراج،إضاءة،ديكور..الخ)،وبما انه يستبدل الحركة باللا حركة،والصراع والبناء باللاتطور الدرامي،وبما انه يتنكر لموضوعة الوحدات الثلاث (بداية ووسط ونهاية) فلا بد من أن تكون له تسمية جديدة تدل على نوعه الجديد.وقد رأينا من باب الاقتراح أن نطلق عليه تسمية جلسة بدلا من عرض وعلى هذا نقول جلسة الأسفار بدلا من مسرحية الأسفار وجلسة العدادة بدلا من مسرحية العدادة وجلسة سيدة الوركاء بدلا من مسرحية سيدة الوركاء.لنقرأ الآن ما كتبه د.حازم كمال الدين واصفا إحدى جلساته:

"في هذا العرض بقيت وظائف طقوس ما قبل وما بعد العرض حية،وهي الطقوس التي اشتغلت عليها في ساعات الصفر(الأسفار)الاستقبال،القهوة،تهيئة الفضاءات الجماعية لقاء ما بعد العرض،الحكي عن العرض أو عن شئ آخر والسمر طوال الليل مع الجمهور."

        في هذه (الجلسة) يقوم الحكواتي بمعالجة القصة المطروحة معالجة ارتجالية بالاعتماد على قدراته البيومكانيكية وإمكانياته في المزج بين ارتجاله وبين الحركة المرتجلة وهذا يعني  أن الحكواتي لا يقتصر في جلساته المختلفة والمنوعة على معالجة واحدة حسب.بل يبتكر المعالجات الجديدة على وفق تعامله مع الفضاء الجديد بطريقة "لا ديكورية،لا تصورية،لا تشخيصية" ويعمل أيضا على تحويل المشاهد التقليدي الى شاهد على الأحداث ومساهم فيها بطريقة حكواتية خالصة. ولكي لا نسقط في إشكالية تسمية المشاهد في جلسات الحكواتية نقترح اسم  المحاكي أو المجالس أو الجليس  ذلك لاختلاف وسائل تلقيه عن وسائل تلقي المشاهد التقليدي.فالمشاهد التقليدي فنيا يرى عرضا للصور الدرامية مدعوما بالحوار ومبنيا على أساس وحدة وتناقض الأضداد.وهذا الأمر يتطلب،في العادة، عملا ابصاريا بالدرجة الأولى.وان الصور تتشكل عنده ذهنيا لا بصريا مع أننا لا نلغي ما للحكواتي من دور في رسم الصور الحكواتية عن طريق الإشارة والإيماءة والتعبير بالوجه وحركة الجسد.

        الحكواتية إذن تفرض تغييرات جوهرية على طريقة تقديم الحكواتي بحيث تكون هناك مجابهات مستمرة بين الأصالة والمعاصرة،بين القديم والجديد، بين التقنية والتأويل، وتفترض أيضا النقاط المهمة الآتية:

1-  الفضاء غير الثابت.بمعنى مغاير للحالة السائدة مسرحيا.إن الجمهور لا يأتي على سبيل المثال ليدفع ثمن البطاقة ثم يجلس في الصالة منتظرا العرض المسرحي الذي تدور أحداثه في العادة على خشبة محددة. الخشبة في جلسات الحكواتية تتحول الى مقهى أو مشرب أو مرسم أو متحف أو إسطبل أو عربة قطار أو خيمة أو بيت قصب..الخ.

2-  اختيار الفضاء لجلسة ما يتحدد من قبل مضيف يقوم بواجب الضيافة والبرمجة للجلسة فهو يقترح الفضاء المناسب ويبحث عن الواقعة التاريخية القرينة.أي المقاربة بين فحوى الجلسة والواقع ثم يدعو عددا من المحاكين أو الجلساء على أن لا يقل عددهم عن خمس وعشرين محاكيا.

 3-    يلعب المضيف دور المخرج والسينوغراف والديكور ويضع خطة للميزانسين.

4-    يقوم الحكواتي بالتدريب على الفضاء الجديد مدة ساعتين قبل بدء الجلسة.

5-  يعتمد الحكواتي على الارتجال بحيث يتعامل مع الظروف الجديدة بطريقة لا ديكورية ولا تشخيصية ولا تصويرية. ويعمل أيضا على تحويل المحاكي أو الجليس في اغلب الأحيان الى مشارك في العملية الحكواتية.ويقوم بإسقاط شخصيات الحكاية المروية على جلسائه ويجعل خط الحكاية دائم التوتر عن طريق علاقته بالجلساء وبالظروف المحيطة بهما سياسيا واجتماعيا.

6-  الحكواتي ممثل جسدي يشتغل في حكايته على إطلاق طاقته الداخلية، الباطنية، الجنسانية،لأنه لا يتعامل مع جسده كأداة للتعبير عن شئ ما ولا كوسيط بين (كودة)وأخرى.وهذه"الطاقة التعبيرية لما هو باطني، لما هو شهواني،هي القطب الموضوعي للتوازن مع الكلمة".

 لقد قدم حازم كمال الدين فكرته عن الحكواتية تطبيقيا على ثلاثة مراحل ,سنكتفي في هذه الدراسة بتناول المرحلة الأولى حسب:  وتتجسد هذه المرحلة في(جلسة الأسفار)التي دامت زهاء السنتين 1998 ـ 2000  في هذه المرحلة ثبت حازم كمال الدين فضلا عن الشروط والافتراضات السابقة، فكرته عن تأويل تقنيات التكرار في الأدب الشفاهي:

"تكرار يحمل المعنى،التكرار باعتباره توكيدا،باعتباره جوانية المعنى،حاملا نقيض المعنى،مولدا للصورة،تغريبيا للصورة،آلية التكرار ورتابته،باختصار الطاقة التنويعية للتكرار كعملية حيوية متنوعة متجددة وليست رتيبة"

 لقد اهتم حازم كمال الدين اهتماما كبيرا بالجانب العملي التطبيقي فهو يعتبر تاريخ المسرح الحقيقي تاريخ العروض لا النصوص.وان النصوص في أحسن أحوالها كتبت لتمثل من على خشبة المسرح لا أن تقرا قراءة أدبية.إن هذا الاهتمام جعل أمر نشر نصوص الجلسات لا يخلو من إشكالات كثيرة خاصة لمن لم يسعفهم الحظ في مشاهدة عروضه الحكواتية.إن تناول النصوص وقراءتها قراءة أدبية وتحليلها وتأويلها أمور لا تخدم المتلقي كثيرا في التعرف على شروط وقواعد وعناصر هذا الجنس الفني لأنها شروط للتطبيق حسب.ومع ذلك لم يكن أمام حازم وهو يحاول إيصال أفكاره الجديدة وأعماله ومنهجه إلا أن يقدم نصوصه منشورة ليكون في ميسور المتلقي البعيد تلقيها قرائيا وان كان في هذا ما يتناقض وفكرته السالفة.

    على هذا الأساس تناولنا نصوص جلساته الثلاث لنعطي انطباعا و تحليلا وتأويلا،نظريا،عن طبيعة هذه النصوص لا العروض،وقد اخترنا(جلسة الأسفار) أنموذجا لهذه المرحلة.

 

 الأسفار..أسطرة  الحاضر و واقعية الماضي

        السِفر، لغة،الكتاب الكبير(1)،وهو جزء من أجزاء التوراة وجمعه أسفار،ارتأى الكاتب أن يكون الجمع عنوانا لنصه بعد أن أضاف إليه أداة التعريف (أل) ليحدد أي الأسفار يريد،وما كان ينبغي له أن يفعل ذلك لان العنوان معرفا أحالنا الى أسفار الكتاب المقدس مع أننا نعرف غايته سلفا،ونعرف انه أراد ذلك كي يضعنا،منذ البدء،أمام أحداث تراثية ذات طابع طقسي وأجواء أسطورية أشار الى عصرنته إياها عندما وصف شخصية(سفيان)في فقرة(شخصيات مسرحية) بأنه"بطل من العصور الغابرة والمعاصرة"أو عندما حدد الزمان مؤكدا على أن أحداث النص"تتحرك بين العصور الغابرة والمعاصرة"وأضاف إليها أنها(أي الأحداث)"دون تراتب منطقي" ولم يشر الى أن النص يخلق بنفسه لنفسه تراتبا منطقيا خاصا،إذ لا وجود لنص درامي،مهما استغرق في لا معقوليته وتجاوزه لحدود الواقع والممكن،بلا منطق يحكمه أو يحتكم إليه حتى ما يأتي به الجنون يأتي على وفق منطق خاص يبرره ويضع له شروطا نجد محدداتها في مناطق الاستجابات التي لم يخصصها الدماغ لتلك الاستجابات.

      إن حازم كمال الدين،وأنا اعرفه جيدا، كاتب مسرحي مسكون بهاجس التجديد وجانح نحو تغيير الأطر التقليدية،ولا تهمه وهو يفعل هذا لومة لائم أو نقدة ناقد.وتراه في نصه،موضع البحث،يستبدل المشاهد بالأسفار صانعا من المشهد(السفر)مرحلة زمكانية محددة بدخول الشخصية الى المشهد ومختتمة بانتهائها منه.ففي السفر الأول على سبيل المثال وبعد اللازمة الإعلانية للراعي يبدأ(سفيان)برواية ما حدث له في هذه المرحلة المبكرة مبتدئا بلازمة ستظل ملازمة لحواره في الأسفار كلها (إي !).يقول واصفا بداية المرحلة:

"إي! لقد كان الوقت عصرا،حين اتخذت الاستعدادات للرحيل معي في خرج البعير التعاليم السرية:سبع حصى،مؤونة لسبعة أيام،وسيفي النحاسي!ودعت  صديقي الراعي،وأخذت أغذ السير الى أعماق الصحراء."

ويروي لنا انه اصطحب امرأة الى واحة السمسم فسحبته المرأة الى ما تحت الرمال وصولا الى نهاية الحدث الأول حين يقرر انه الآن في أعماق الصحراء مدفونا تحت الرمال.

      من سياق المشهد(السفر الأول)لم نجد ما يغاير الأطر الفنية المعروفة للمشهد المسرحي التي غالبا ما تبدأ بدخول الشخصية وتنتهي بخروجها،كما هو الحال في المشهد الفرنسي التقليدي أو بدء الحدث وانتهائه مرحليا،كما في المشهد الملحمي المستقل ذاتيا والمرتبط ببقية المشاهد موضوعيا أو..أو..الخ.وحتى وجود اللازمة الإعلانية للراعي وتكرار(إي!) كلما ابتدأ (سفيان) مشهدا من مشاهد الجلسة لم يشفعا في تبرير هذا التغيير خاصة وقد سبقت هذا النص نصوص تم الإعلان عنها بوساطة معلق أو راو أو مذيع أو عريف حفل أو ممثل..الخ.وهذا لا يعني بالضرورة إلغاء دور الراعي ولازمته الإعلانية لان وجوده بهذه الطريقة أضفى على النص خصوصية قصد منها التهيئة التمهيدية للدخول الى أحداث السفر وما يليه على الرغم من صغر الدور الذي لعبته شخصيته ومحدودية فعلها ومساحتها النصية.وما يحسب لهذا التغيير،قدرته على زجنا في طقوسية أجواء النص وتراثيته وقد عززت هذه الطقوسية لغة حازم كمال الدين الطيعة المنيعة واعتمادها على أسلوب التكرار الذي ألفناه فيما خلفه لنا العراقيون القدامى من رقم طينية دونوا عليها أناشيدهم وأساطيرهم وأخبار ملوكهم الغابرين.

    إن ما يميز استخدام الكاتب للميثولوجيا،هنا،انه لم يعتمد، كما هو الحال مع بعض جلساته،على نص أسطوري محدد أو شخصية أسطورية محددة بل انفتح على الميثولوجيا انفتاحا شاملا آخذا منها ما يخدم نصه ويفعّل فكرته ويربطهما بتراتبية زمنية تفضي الى فكرة أساسية تتمثل في عدم توقف دورة الشر الزمنية عن أداء فعلها القاسي وأثرها التاريخي.ولهذا حرص الكاتب على تحديد مهام (سفيان) في كل سفر من الأسفار التسعة داخل النص فجاءت المهام على وفق الترتيب الآتي:

السفر الأول:إيصال رسالة استخباراتية.

السفر الثاني:الشروع بإكمال المهمة التي كلف بها في السفر الأول.

السفر الثالث:استنبات الصبار في الصحراء بأمر من مديرية الأمن العامة.

السفر الرابع:تهريب النفط في باخرة تمخر الفرات.

السفر الخامس:استطلاع أماكن مجهولة في الصحراء.

السفر السادس:بناء صحارى جديدة على حافة الصحراء.

السفر السابع:الهجوم على مخابئ سرية في الصحراء.

السفر الثامن:قتل الراعي المسؤول عن نقل الأوامر من المديريات الى سفيان.

السفر الأخير:انتهاء المهام السابقة وإعرابه عن استعداده للقيام بأي مهمة أخرى إذا نودي عليه عند حلول المساء.

إن نظرة سريعة الى هذه المهام تكشف عن طبيعتها العصرية وعن نوايا بيّتها مستبدون معاصرون لتفعل فعلها في أناس لم يشر إليهم حين اكتفى بوضعها ضمن الأطر التراثية والحكايا الشعبية.ففي السفر الأول يحمل(سفيان)التعاليم السرية ويغذ السير الى أعماق الصحراء ويكتشف أن المرأة التي رافقته ليست إلا جنية تعيش تحت الرمال وتحتكم بأمر والدها شيخ الجان وكما في أغلب الحكايا الشعبية فأنها تحتجزه سبع سنين يكون خلالها طائعا لها ومنفذا لرغباتها إن لم يبسمل قبل أن يقوم بأي عمل مهما كان ذلك العمل بسيطا وتافها.على هذا الأساس الشرطي واقعته واحتفظت به داخل جرة من جرارها حتى نجح في جعلها تطلق سراحه وتطلب من والدها أن يزوجها له.وعلى الرغم من رفض شيخ الجان لطلبها احتفظت به في جرتها حتى ماتت وتحول جسدها الناري الى رماد.وهنا يكشف سفيان عن هويته الاستخباراتية حين يقول في ادعائه اختطاف الجنية من قبل أناس يعيشون فوق الرمال:

ني قادر – بحكم مهنتي – على تعقب الخاطفين واسترجاعها."

ويدعم هذا بتصريحه في الأسفار الأخرى عن تكليفه بمهامه من قبل المديرية التي ينتسب اليها وهي كما جاء في السفر الثالث مديرية الأمن العامة.

      نستنتج من هذا أن(سفيان)شخص تابع مهنيا لنظام أمني لا يعمل ضمن دائرة سيادته حسب بل ويتعدى ذلك الى مساحات تقع خارج هذه الدائرة.وهو أداة ناشطة وفاعلة من أدوات ذلك النظام ومدرب،بشكل جيد،ليقوم بمهام مختلفة:استخباراتية وتهريبية وتغييرية،وان صديقه الراعي ما هو إلا أداة الوصل الرابطة بينه وبين من يصنعون القرار ويوجهون الأوامر فهو من ناحية يؤدي مهامه المهنية المرتبطة بزبانية تلك المديرية،ومن ناحية أخرى يؤدي دوره البرولوجي في مفتتح الأسفار.ولقد آثر الكاتب أن يمنحه اسم (الراعي) داخل النص لأسباب لا تتعلق بطبيعة المهمة التي صارت معروفة لنا عبر عدد من النصوص الدرامية والأسطورية التقليدية والمحدثة.

      وفي السفر الثاني يعطي هاتين الشخصيتين ملامح جديدة من خلال دال مهم هو نبتة الخلود التي تجعل من(سفيان) صورة أخرى من صور كلكامش الأسطوري المستبد والمغامر العراقي الذي يقطع الأفياء والبراري سعيا وراء عشبة الخلود.وتجعل من الراعي صورة مقاربة لصورة الأفعى التي تنعمت بعشبة الخلود تلك فاستبدلت جلدها واستعادت شبابها وهو عين ما فعلته بالراعي. وفي هذا إشارة الى تجدد مخططات مديرية الأمن العامة واستمرارها على النهج نفسه الذي سارت عليه منذ أربعين عاما.وفي هذا السفر أيضا يعود الكاتب لموضوعة الجنية التي يظهرها،هنا،على شكل صنم ناري أو وثن نسائي تكمن فيه مهمة (سفيان) الجديدة التي جسدها بشكل طقوسي حين رسم بسيفه،على الرمال، نجمة سباعية الرؤوس واضعا حصاة على رأس كل زاوية منها،وإذ يقرأ تعويذته الخاصة تدب الحياة في الوثن وتتحرك الجنية زاعمة أن لها سبع أرواح.ولعل من الجدير بالذكر هنا أن نشير الى تأكيد الكاتب على الرقم سبعة وعلى تكراره في مواضع مختلفة من الحوار والأحداث.لقد حجزت الجنية(سفيان)في الجرة سبع سنين وبعد أن ماتت أعادها للحياة برسم نجمة ذات سبع رؤوس واضعا في رؤوسها سبع حصى ثم نعرف أن للجنية سبع أرواح.وان الصبار لم ينبت طوال سبعة مواسم،في صحراء الربع الخالي.

     في السفر الثالث يكشف (سفيان) عن وجه أسياده القبيح بعد أن فشل في استنبات الصبار  

بعة مواسم مضت ولم تنقلع الأرض وما انبثقت حياة

سيقتلونني كالكلب إذا لم افلح هذه السنة باستنباته."

ويلجأ ثانية الى الأسطورة فيأخذ  بذورا ميتة جاء بها من العالم السفلي ينثرها بجانب الحصى فتنشق الأرض ويندلع الصبار.وإمعانا في الأسطرة يقوم (سفيان) بالتهام الصبار فينط أحد أضلاعه مخضبا بالدماء وقد نبتت عليه زهرة صبار أخذها ولفها بالجريد ثم دفنها في جذور النخيل.بعد أسبوع واحد فقط حدثت المعجزة وخرجت من بين جذور النخيل ابنته(زهرة الصبار).

       إن حازم كمال الدين لا يكتفي بما تمنحه الأساطير والتراث من طاقات فكرية ودرامية لأنه غالبا ما يصنع أسطورته الخاصة اعتمادا على الأجواء الطقوسية التقليدية وانطلاقا منها الى محددات أسطورية مبتكرة.بمعنى أن حازم يؤسطر أحداث نصه عندما تتوقف الأسطورة عن منحه ما يريد.وان أسطرته هذه يقصرها على الأحداث المعاصرة تاركا أحداث الماضي على ما هي عليه حد انك لا تستطيع الفصل بين الواقعي والمؤسطر أو بين الحاضر والماضي فكلاهما عنده يقعان ضمن دائرة الشر الزمنية.

ولم تختلف(زهرة الصبار)في سلوكها عن سلوك عشتار ورغبتها في مواقعة من تشتهيه نفسها.وعندما طلبت من الإنسان مواقعتها ذكرها بشبقها العشتروتي القاتل كما فعل كلكامش،من قبل، مع عشتار.يقول صارخا في وجهها:

نت تلتهمين كل من تقترنين به! ألم تفعلي هذا بغزال البراري؟ ألم تبتلعي فحل النخيل؟هل نسيت الذي فعلته بصخرة الجبل؟"

وفي السفر الرابع يرحل(سفيان)على متن باخرة لتهريب النفط.تتبعه حمامة تحت جناحها ندبة كان كلما سمع زقزقتها(والأصح هديلها) يرمي لها الخبز.وكانت عينا شيخ الجان تمنعانه بشواظهما من إفراغ حمولته حتى تمكن من شق إحدى العينين والتهمها.بعد أسبوع ظهر الراوي وقد تحول الى راع للحمام.ويستمر الصراع بين قوى الشر نفسها بين(سفيان) وعيني شيخ الجان والجنية المتخفية بهيئة حمامة. ينهزم(سفيان) ويروي لنا هذه المرة عما حدث له مع السعلاة وهي من الحكايا الشعبية المألوفة المتداولة بين العساكر على وجه الخصوص.ويكمل أنه التقى بابنته(زهرة الصبار)ووقع في حبها وقرر الزواج منها.وإذ رفضت صار يسوقها عنوة الى مخدعه.إن حازم كمال الدين وهو يسمح لسفيان بمواقعة ابنته إنما يروم من وراء هذا الى تأكيد نغولية(سفيان) ونغولية ذريته.ويبدو لي أن التنغيل هنا يمتلك مبررات وقوعه إذا أخذنا سلوك (سفيان) العام وسلوك ابنته الشاذ بنظر الاعتبار.وعلى المنوال نفسه يقوم سفيان بأداء المهام الأخرى فيما تبقى من الأسفار وفيها يكتشف أن صديقه الراعي لم يكن إلا وجها من وجوه جنيته الجميلة ونكتشف أن (سفيان) لم يكن إلا وجها من وجوه (شيخ الجان). يقول في خاتمة المسرحية:

فتا شيخ الجان تتحرك،والصوت ينطلق من حنجرتي.هذا الذي كنت شاهدا على حدوثه.أنا شيخ الجان."

هكذا يثبت حازم شهادته على ما رآه من زاوية واحدة دون أن يترك لقارئه فرصة الإطلاع على ما حدث للآخر أو لقوة الصراع الأخرى التي غيبها النص مكتفيا بإلقاء الأضواء على حقيقة الشر وقواه العابثة خلافا للسائد من الأعمال الدرامية. وقد كلفه هذا تنحية عنصر أو أكثر من عناصر الدراما الأساسية واستبداله بعنصر أو أكثر من عناصر السرديات الأدبية.فلو عدنا وتفحصنا النص بكامله لوجدنا أن اغلب شخصياته لم تتحاور مع بعضها حوارا مباشرا،في أكثر الأحيان،ولم يدخل بعضها في صراع مع بعضه الآخر.واكتفت أغلب إن لم نقل كل الشخصيات برواية ما حدث لها أو لغيرها بأسلوب(إلقاء) درامي،يقترب في مفصل أو أكثر من مفاصل العمل المسرحي بشكل عام ومن المونودراما بشكل خاص.فمن الرواية يستعير حازم كمال الدين أسلوبها في رواية الأحداث محولا شخصيات نصه من شخصيات تفعل الى شخصيات تروي.صحيح أن روايتها للأحداث مؤسسة على بنية الفعل بشكله الدرامي المعروف،وعلى وحدة وتناقض الأضداد مما يقربها من المونودراما إلا أنها تظل بشكل عام محتفظة بجنوحها نحو الأدب أكثر من ثباتها كجنس درامي تقليدي.ففي السفر الأول والأسفار التي تبعته نجد الراعي مجرد معلن عن بدء الأسفار،ولا يتحاور مع (سفيان) إلا في السفر الرابع حين يقول:

"الراعي: سفيان! عليك حماية الحمامة.منذ أسبوع والحمامة تتعرض لمحاولة اغتيال"

 وكان سفيان قد أعلن عن ظهوره سلفا حين قال:

 "بعد أسبوع ظهر الراعي وكان هذه المرة راعيا للحمام"

  ثم يعود في السفر نفسه ليقول:

 "الراعي: اهرب،ثمة مؤامرة تحاك ضدك.حياتك في خطر ولا أحد يستطيع مساعدتك."

وفي السفر الخامس والسابع يحظى ببضع جمل مقتضبة جدا تهمّش شخصيته وتنهي دوره في النص تماما.أما الشخصيات الأخرى فعلى الرغم من دخولها في حوار انفرادي مع(سفيان)إلا أنها في اغلب الأحيان كانت تروي أو تكمل ما رواه (سفيان).لنقرأ هذه الفقرة لشيخ الجان على سبيل المثال:

      "شيخ الجان: بعد فوات الأوان..بنشوة هائلة ارتعد كل شئ.الحوت استيقظت تحت الرمال.اصطفقت أشجار النخيل ببعض(والأصح بعضها ببعض) وتناطحت الصخور.ضربت الحوت الهائجة بذيلها يمينا ويسارا،فتقطعت رؤوس النخيل وتدحرجت في عرض الصحراء...الى آخر الفقرة." ولنقرأ أيضا الفقرة الآتية:"شيخ الجان: بدأت الجنية ترسم أشكالا غريبة في الهواء عندها وبمثل لمح البصر خلقت معجزة:تشتت انتباه خمبابا.فاستلت الجنية سيف سفيان النحاسي من غمده وانقضت على الربة (والأصح  على الرب لان خمبابا ذكر وليس أنثى حسب ملحمة كلكامش)كشرت الربة عن أسنانها واندلعت المعركة..نظر سفيان وإذا به يرى  الندبة تحت صدر خمبابا فعرف من هي خمبابا" (يصح التأنيث هنا لان  الشخصية منتحلة).

ولو استعرضنا الفقرات الأخرى لوجدنا أنها جميعا تعتمد على رواية الأحداث حسب.ولم يكن حوار الجنية،على قلته أيضا،قادرا على تحريك محفّزات الصراع الدرامي في الوقت الذي ظل(سفيان) يروي الوقائع والأحداث بما أوتي من قدرة على شحن تلك الوقائع والأحداث بالطاقة الدرامية الفاعلة.ولنا في أقواله أمثلة امتلأ النص بها فأن دققنا فيها وجدنا انه ابتدأها في الغالب بفعل يشير الى وقوع الأحداث وانتهائها في الماضي وان المتحدث ينقل لنا تفاصيل تلك الأحداث حسب.ومن تلك الأفعال نذكر ما يأتي:

     "كان الوقت عصرا..ودعت صديقي..فكرت..هكذا عشت..حدث ذات يوم (وصحيحه ذا يوم)..ماتت الجنية..لقد حدث ذلك..قلت لنفسي..تناولت فطوري..حدقت بها..خرجت..وجدت انيسا واقترنت به..ظهرت السعلاة..هربت الى عالم آخر..بدأت الجنية..كان ذلك لسنوات طويلة..نظرت في عباءته..الخ..الخ."

 وهي كلها تدل على إن الشخصية لم تكن تفعل(على وفق المفهوم الدرامي ) بل تقول (على وفق المفهوم السردي). وان هذا التغيير الوظيفي أدى الى تغيير جنسي لم تؤازره دراسة مستفيضة له ولم تسبقه تنظيرات ممهدة فان كان حازم كمال الدين قد فعله بدافع التجديد أو التجريب فعليه أن يضع نصب عينيه إيجاد المبررات العلمية والفنية المقنعة لهذا التغيير الفني الخطير.

 

 

إشارات و إحالات

(1) مسرحية السؤال ـ محي الدين زنكنه ـ منشورات وزارة الإعلام ـ بغداد ـ 1976
(2) ياسين النصيرـ مسرحية السؤال استلهام مشرق للتراث ـ طريق الشعب ـ العدد 571ـ عام 1975
(3) صباح الانباري ـ البناء الدرامي في مسرح محي الدين زنكنه ص56 دار الشؤون الثقافية العامة ـ بغداد ـ2002
(4) صباح الانباري ـ البناء الدرامي في مسرح محي الدين زنكنه ص ـ دار الشؤون الثقافية
العامةـ بغداد ـ 2002
(5) صحيفة الزمان
(6) لويجي براندللو ـ مسرحية ست شخصيات تبحث عن مؤلف و مسرحية هنري الرابع
(7) مسرحية الخاتم ـ صحيفة الزمان ـ الحلقة الأخيرة
(8) مسرحية رؤيا الملك ـ دار الشؤون الثقافية العامة ـ بغداد ـ 1999
9.الأصالة والتجديد في المسرح العراقي / سامي عبد الحميد/ مجلة المثقف العربي /العدد1 / السنة 1971
10.الأصالة والتجديد في المسرح العراقي / سامي عبد الحميد/ مجلة المثقف العربي /العدد1 / السنة 1971
11. البناء الدرامي في مسرح محي الدين زنكنه / صباح الانباري / دار الشؤون الثقافية العامة بغداد /2002
12. نحو مسرح عربي جديد/ د.عمر الطالب/ مجلة الأقلام / العدد 3 ، 4 / السنة 1987
13. المسرح العراقي آراء ومواقف // حسب الله يحيى/الموسوعة الصغيرة /دار الشؤون الثقافية العامة بغداد / 2002
14. الإخراج في المسرح العراقي / د. ضياء خضير / مجلة الأقلام/العدد 2/السنة 1990
15.الأقلام / العدد 3 / السنة 1989
16. وداعا أيها الشعراء / د جميل التكريتي

 

 * نالت هذه الدراسة المرتبة الأولى للدراسات النقدية في العراق 2009.