عبد الكريم العامري

ان كنتم تبحثون عن الخبز فابدأوا بالبحث عن مسرحكم الضائع

وسط اهتزازات كبيرة تجتاح منطقة الشرق الأوسط في الانظمة والايديولوجيات، وسقوط عروش واسماء يأتي يوم المسرح حاملاً قناديله المضاءه باسماء مهما اهتز الكون فلن تسقط ابداً..

السابع والعشرون من مارس/آذار مثابة الألق الانساني ومبتغاه، ليس يوماً عادياً ولن يكون، وليس عيداً بما يحمله العيد من معان ولن يكون، انما هو الحياة باكملها بكل ما تحتويه من ايام واعياد، افراح ومآس، وجوه وأقنعة، عوالم متداخلة وسموات متشابكة الالوان..

السابع والعشرون من مارس/آذار لحظة سائحة من قعر التأريخ، خيط من الضوء يتغلغل بالارواح ليجعلها اكثر جمالاً وكمالاً.. نحتفي به، مدججين بهواجسنا وأحلامنا وليالينا وأيامنا المالحة.. نحتفي هذا العام، وهو عام لا يشبه كل الاعوام، بقلقه وانكساراته، نوقد في حضرته افكارنا، نأتيه ومعنا كل الشخوص الذين عاشوا لحظات ولادات نصوصنا، نستحضرهم من بئر الذاكرة ليحتفوا معنا..

هذا العام يحتفل المسرحيون في كل بقاع الدنيا بالسابع والعشرين من مارس/آذار، فالمسرح وان تنوعت تجاربه يبقى رافداً مهماً للثقافة، ومناراً لرقي الشعوب.. وفي العراق، كانت تجارب المسرحيين على مدى عقود من الزمن مثمرة، ناضجة، أخذت بناصية مجتمعنا نحو التألق برغم محاولة احتواء السلطات الغاشمة لبعضها..فيما تصدت كثير من النصوص والعروض المسرحية لعملية تتدجين الشارع والمثقف على حد سواء وصار الناس يتداولون تلك النصوص مثل منشورات سرية، يومها لم يغب المسرح عن حياة الناس، شاطرهم همومهم وعاش آمالهم وحمل تطلعاتهم نحو الحرية التي دفع من أجلها الكثير.. وكل متتبع لخط سير المسرح العراقي وجد بذور الدعوة للتغيير ومناهضة القمع في حقول عروضٍ أحدثت وعياً جمعياً وتركت شرخاً كبيراً في جسد الجلاّدين.

المسرح العراقي الذي كان ينكأ بجراحاته ما زال يئن، حتى بعد ان حدث التغيير عام 2003، لم يتنفس الصعداء بعد ان كتمت أنفاسه زمر المتطفلين، ولم تستطع المؤسسة الثقافية ان تمنحه الاوكسجين الكافي لانعاش حياته، فغدت التجارب المسرحية ما بعد عام التغيير تزحف كسيحةً متشبثةً بقليل من النصوص التي لم ترضِ طموح المسرحيين، فكارهو الحياة لم يكفهم تشويه ثقافتنا ليطال خرابهم المسارح بعد ان ايقنوا ان المسرح قادرٌ على ردِّ الروح والجمال لحياتنا.

"إننا محكومون بالأمل، يقول سعد الله ونوس، وما يحدث اليوم لا يمكن أن يكون نهاية التاريخ" وما زال بصيص الأمل يحدو بنا ويجرنا حيث النهارات الطويلة وضوء شمس لا يحجبها غربال.. ويمنحنا ثقة التعبير بحرية بعيداً عن رقباء الأمس ومخبري اليوم السريين، والأمل باقٍ بقاء الخشبة اذ تفتح للعالم نوافذ للابداع، من خلاله (الأمل) تبقى روح المسرح متقدة، شاخصة، برغم ترجّل كثير من القامات المسرحية العراقية، فما مر عام دون ان تسقط ورقة خضراء من شجرة المسرح، ومنذ عام مضى فقدنا من تركوا بصماتٍ واضحة في كتاب المسرح الكبير، ففي مدينة السليمانية غادرنا المبدع الكبير محيي الدين زنكنه في آب 2010 والفنان المسرحي الكوردي طه خليل في تشرين الثاني 2010 بينما توفي في برلين المسرحي منذر حلمي (ابو سلام) في تشرين الثاني 2010 وغادرنا في الناصرية المسرحي ثائر خضير في آب 2010 وفي البصرة غيب الموت كامل السعد في ايلول 2010 وقاسم علوان في آذار 2011 ، يموت المسرحيون على مساحة الوطن، من شماله الى جنوبه،يموتون بصمت وهدوء في بلد قلما تجد فيه بقعة هادئة، يغادرون أحبتهم تاركين ارثاً مسرحياً كبيراً من نصوص وعروض.. يموتون ويكتفي اصدقاؤهم بالرثاء بينما مؤسساتنا الثقافية لم تعر لرحيلهم اهتماماً.. ولعمري ان رحيلهم كان احتجاجاً على كل خفافيش الظلام وكارهي الحرية والابداع والتميز في عراق كان مهداً للحرية والابداع والتميّز.

حريّ بنا ان نتوقف عند حجم خسارة المسرح، الخسارة فادحة، فالمسرح لم يخسر صالات العرض فحسب انما خسر جمهوره ايضاً، ذلك الجمهور الذي كان يملأ تلك الصالات، والمسرح خسر لياليه أيضاً حين كانت العروض تستمر لساعات متأخرة من الليل، ليس في بغداد العاصمة وحسب انما في كافة المحافظات، الصغيرة منها والكبيرة.. ثمان سنوات مضت ومسرحنا يعاني من موت سريري اذا استثنينا بعض التجارب الفردية التي تعد قطرة في بحر..

واذا كان الجمهور قد هجر المسرح تحت ضغوط معروفة ومنها الهيمنة (الميليشياوية) على الحياة العراقية في وقت لاحق من زمن تغيير النظام السابق فقد غادره قبل ذلك المبدعون من الرواد والاجيال التالية تحت وابل التهجير القسري ما سبب ركوداً وموتاً سريرياً لا يمكن احياؤه الا بثورة مسرحية شاملة رغم اننا مللنا الثورات ونتائجها..

هيمنة السياسي ألغت الى مدى كبير دور المثقف العراقي والمسرحي ركيزة مهمة في جسد الثقافة العراقية..لهذا خرج من بقي من مسرحيينا في ساحة التحرير، في اواخر شباط الماضي، مع الناس الذين كانوا يملأون المسارح ليقولوا للملأ: انّ المسرح غير بعيد عنكم، فهو لكم ومنكم، وان كنتم تبحثون عن الخبز فابدأوا بالبحث عن مسرحكم الضائع.. اعطني خبزاً ومسرحاً، يقول لينين، اعطيك شعباً مثقفاً، فمن أين نجيء بمن يقتنع ان الحاجة للمسرح لا يقل اهمية عن حاجتنا للخبز..؟

 ليكن يوم السابع والعشرين من مارس/آ ذار يوماً لتنقية الذات بعد ان لوّثتها  مدخلات زمن ردئ، ولنعط كل ذي حق حقه ونضعه في المكان المناسب، ولنبعد المتطفلين والشوائب الذين دخلوا في غفلة منا عن مسرحنا ونعيد له ألقه بعد فترة مظلمة، ونضع جانباً أقنعة براتيناس  (Pratinas)عن وجوه نتمنى ان يعود بياضها، كل الاقنعة، أقنعة الليل والنهار، أقنعة السلطة والاحزاب التي يخوّفها المسرح، أقنعة المتطفلين والكارهين للجمال.

المستقبل للمسرح حتى وان غاب عنه مبدعوه رغماً عنهم، تهجيراً او موتاً، والمستقبل آتٍ حتى لو حطموا الخشبة واحرقوا الستار، ومنعوا النصوص المسرحية عن التنفس..

المسرح العراقي خلاّق، وقادر على نفض الغبار عن جناحيه ليحلق ثانيةً بعيداً عن كل قوى الظلام والقبح والكره.