الانعطاف الخطير في شخصية (المهزوز)

صباح الأنباري

المهزوز هو العنونة التي اختارها الروائي نشأت المصري لتكون بوابة الدخول إلى عالم روايته الموسومة بـ(المهزوز) وهي عنونة تشي بوجود شخصية ما تعرضت لهزة نفسية خلّفت لها وفيها عقدة نفسية أو مجموعة من العقد السيكولوجية التي حدثت بعامل وراثي وخَلْقي تركت آثارها على الشخصية بشكل عقدة نفسية ليس من السهل عليها التخلص منها، أو إعادة القدرة على التوازن مع واقعها أو بينها وبين محيطها الذي لايني يمارس ضغوطه الهائلة عليها دون توقف مثيرا اضطرابا فكريا يؤدي إلى تكرار سلوكي مضطرب. وهذا ما لمسناه في الشخصية المحورية، التي تأسست الرواية عليها، شخصية (أكرم) ذات السلوك المرضي المزمن الذي صاحبها من الطفولة والبلوغ وحتى وصولها إلى أرقى الوظائف الإدارية.

السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو من أين جاءت هذه الشخصية؟ وهل هي من الواقع المعيش أم من الواقع الافتراضي للمؤلف؟ ولماذا أخذت مساحة شاسعة من الرواية؟

وللإجابة نقول إنها الشخصية التي تدور أحداثُ الرواية حول محورها، فهي مركز تلك الأحداث ونقطة التبئير فيها، وقد تابع المؤلف سير تحولاتها وانعطافاتها التي رسمها بدقة كبيرة، وبواقعية مفرطة. شخصية مأخوذة من واقع الحياة القروية، ومقحمة في واقع روائي ابتكره المؤلف لإلقاء المزيد من الطاقة التنويرية حول ظلالها الداكنة.

أكرم أو أستاذ أكرم الذي يعود بنا المؤلف إلى أيام طفولته ومواجهته للهزة الأولى على يد والده وقسوته وفي مرحلة الدراسة على يد زميله الفاشل دراسياً (أحمد) الذي ترك الدراسة ليعمل في التجارة ويحقق أرباحا تعلو على ما يحققه أي موظف عشرات الأضعاف، وسخريته الدائمة من أكرم الذي ينطق السين ثاءً، ويعجز عن رد سخريته في كل الأحوال. وقد أدى هذا إلى تراكم شعوره بالعجز، وفقدان قدرته على اتخاذ أي قرار من شأنه الحد من تردده المستمر. لقد أحب أكرم (سحر) وطلب يدها ولكن زميله التاجر هذا هو من حصل عليها وكأن فعل التاجر هذا مكمل لسلسلة الهزات التي بدأت منذ أيام الدراسة وراكمت الشعور بالضعف والهزيمة لديه. ونظراً لعجزه الدائم كان لا بد من وجود شخصية أخرى نقيضة له ومكملة إياه تتصف بالشجاعة والإقدام واتخاذ أصعب القرارات في أصعب اللحظات وأمرها لجعل الحياة تسير على ما يرام حتى وان اضطرت إلى القتل على سبيل المثال (قتل يونس لصاحب المزرعة).

 إن كل الصفات التي تمتع بها يونس (شقيق أكرم) هي ما يفتقده أكرم فعلاً فهي موجودة لإكمال ما ينقصه في واقع الحال أو لنقل إنها وجدت من أجل حمل ما يعجز عن حمله في واقع الحال أيضاً.

هذه العقدة لم يطرأ عليها أي تحسن بعد مغادرتهم المكان الأول في الرواية قرية (دكرنس) وملاذهم الموروث الآمن (البيت) وحتى بعد انتقالهم إلى المكان الثاني (القاهرة) ظلّت العقدة ملازمة لأكرم فها هو يتزوج من امرأة متسلطة تشل إرادته متحكمة بشؤون البيت من ألفها إلى يائها وهو العاجز عن وضع علاج لعقدته المزمنة، مع انه نجح في وضع علاج نفسي لشخصية (محمد) في القرية وشخصية (مروان) في المدينة فحققت الشخصيتان النجاح بأفضل النتائج. وعودة إلى شخصية (يونس) التكميلية التي استطاعت أن تتبوّأ لنفسها منزلة تجارية جيدة وتسد لأكرم حاجته الأبوية التي حرم منها والأزمات المالية التي تعرض لها، نجد في قرار أكرم منح شقيقه واحدة من كليتيه انعطافا كبيراً في حياته، وتغييرا هائلا في سلوكه على الرغم من معارضة زوجته لهذا القرار معارضة شديدة ورفضه رفضاً قاطعاً، فهل كان القرار إعلانا عن تخلّصه من عقدته المزمنة؟ أستطيع القول إن القرار كان إيذانا أوليا للتخلص من تلك الأزمة حسب، ذلك لان دافع الشخصية الخفي هو إرضاء نفسه المعتمدة على أبوية شقيقه أو ما يفتقده في نفسه ولا يجده إلا في شخص ذلك الشقيق ولكن لم تجر الرياح كما اشتهى فقد مات شقيقه بحادث مروري، وصار لزاما عليه إن يعوض نفسه عن الفراغ الذي خلفه رحيل يونس، وهكذا فعل.

عدما دخل بمشادة كلامية بينه وبين زوجته وابنته المسيطرتان على زمام الأمور كلّها وعند سماعه لكلمات نابية من زوجته، وبعد رفع ابنته يدها لتضربه ثأرا لأمها قرر وبحسم كبير طرد زوجته وإلقائها خارج المنزل وسط ذهولها الشديد وذهول ابنتها المفاجئ.

  هنا نقطة التحول الكبيرة والهائلة في حياة الشخصية التي تفجرت قوتها على نحو غير مألوف وبدأت تشعر بمكانتها ودورها القيادي للمرة الأولى، وتخلصها من أزمتها النفسية ظاهرياً لأنها ظلّت في حقيقة الأمر شاخصةً ماثلةً في أعماق نفسه البشرية.

لقد نجح أكرم في تخليص (مروان) من أزمته النفسية المتمثلة بسطوة الأب وعنجهية سلوكه العبثي، كما قلنا، فتكللت جهوده بنجاح مروان الذي صار قاضياً عادلاً لا يحكم إلا بالعدل والإنصاف. ولكنه وهو المتخلص من عقدته خالف نهجه فساوم على قضية ترقية خاله (أكرم) وظيفيا ليصبح نائبا لوزير التعليم ردا لأفضال خاله عليه. وفي المقابل استفحلت في نفس أكرم نزعة وصولية كانت مكبوتة في داخله طويلاً لتحل محل التواضع والنزاهة التي تمتع بهما طوال حياته السابقة. هنا حدث الانعطاف الخطير وبدأت الأفكار الوصولية تفعل فعلها في نفسه المضطربة فصار يفكر بالاستحواذ على كرسي الوزير بطريقة لا تخلو من استخدام وثائق الاتهام ضده وضد أي موظف آخر يحاول إزاحته أو ثنيه عما يريد.

ولكي يجعل الوصول إلى ذلك الكرسي ممكنا فقد دأب على تأسيس حزب سياسي يفتح أمامه سبل الوصول إلى ذلك الكرسي وربما فيما بعد إلى كرسي أكثر رفعة وشأنا. إلى هنا تصل الشخصية إلى أبعد غاياتها، وتتكشف لنا فكرة الكاتب التي أجّل البوح بها طوال زمن الرواية والتي تحذرنا من أن سلطة تتضمن رؤوساً عليلة، ونفوسا معقدة لا بد وان تكون على جانب كبير من عدم الاتزان لأنها ستبدأ مشوارها تحت سطوة مرض آخر وعقد نفسية أخرى.