إشكالية النصوص الاعتراضية

 

   الاعتراض هو أن تأتي بما يخالف ويناقض المطروح من الكلام، والأفعال، والسلوك. وعارضه معارضة، بحسب المنجد في العلوم واللغة، ناقض كلامه وقاومه. والتعارض هنا مأخوذ بجوهره الذي يتأسس على التناقض والتضاد. أما الاعتراضية، التي نحن بصدد متابعة مجرى تأثيراتها، فهي ما تتأسس عليه النصوص الدرامية، وما يتفجر عنها من صراعات مختلفة ضمن هيكلية النص وبنائه الفكري والدرامي. وبعدد النصوص تعددت أشكال تأثيراتها وتنوعت مساراتها وابتكاراتها وتجلّت معانيها التخصصية في نماذج اعتمدتها قاعدة للابتكار والتجريب.

الاعتراضية فنياً إذن هي تراكم محفزات الصراع الدائر بين قوتين أو أكثر تقاوم إحداهما الأخرى بهدف إثبات حقيقتها، أو هي دفاع إحدى القوتين ضد الأخرى التي أعطت عنها صورة مخالفة لأقوالها وأفعالها وسلوكها، والتخلص منها لأنها باتت تشكل خطرا محدقا، ففي مسرحية (هاملت) يقوم شكسبير William Shakespeare بابتكار مسرحية صغيرة تقع أحداثها ضمن مسرحية كبيرة بغرض فضح شخصية الملك (شقيق الملك السابق) والانتقام منه لقتله والد هاملت والزواج من الملكة الأم، وإلحاق البشاعة بشخصية هاملت بغرض التخلص من اعتراضاته الكثيرة وهو العارف أن عمه هو من قتل أبيه واغتصب العرش واقترن بوالدته ولم يمضِ على موته إلا القليل. وعندما يشاهد الملك القاتل نفسه ممثلاً في المسرحية القصيرة فانه يرتبك ويغادر المكان كي لا يفتضح أمره أمام الحاشية وزوجته. هذه المسرحية الصغيرة أدت غرضها وانتهت عند هذه النقطة وكان يمكن للمسرحية الكبيرة الاستغناء عنها أو حذفها لو شاء شكسبير ذلك فهي كالجملة الاعتراضية التي تأتي متوسطة أجزاء الكلام لتوكيد المعنى وتسديده إن تطلب الأمر توكيدا وتسديداً وهذا هو الهدف والفائدة منها وقد تجلّى لنا الهدف من المسرحية الصغيرة التي أعدها هاملت كفخ للإيقاع بعمه الملك/ القاتل إحقاقا لحق القتيل.  

ومسرحية Luigi Pirandello التي اشتغلت على مبدأ التعارض فأنها هي الأخرى افترضت عملاً مسرحياً داخل آخر فكانت الأولى مسرحية (لعبة الأدوار) والتي أراد كادر العمل البدء بها كتجربة من تجارب براندللو وقد صادف ذلك دخول ست شخصيات الى صالة المسرح وطرح قضيتهم على مدير المسرح في محاولة لإقناعه انهم يبحثون عن مؤلف مسرحي، وهم يشكلون فريق عمل قادر على تقديم تلك القضية ضمن مسرحية أخذت اسمها من فعلهم المركزي وهو البحث عن مؤلف ينظم أدوارهم وقصصهم فكانت مسرحية (ست شخصيات تبحث عن مؤلف) قائمة على جملة من التعارض بين الواقع المعاش والواقع المتخيل على خشبة المسرح. وانهم سيلعبون أدوارهم بطريقة تفضح الشخصيات التي يمثلونها، والشخصيات الحقيقية (الممثلون) تعترض سبيلهم في محاولة لأثبات أحقيتهم في أداء أدوارهم (أدوار الشخصيات الافتراضية) وهكذا يتداخل الواقعان مع بعضهما بعضاً حد أن الفواصل تذوب بينهما وتبدو المسرحية كما لو أنها لم تتقصد ذلك خاصة بعد دخول شخصية حقيقية (مدام باتشي) من واقع الحياة يطلبون منها أداء دورها على الخشبة والظهور بشخصيتها هي دون واسطة (تمثيل) وهذا هو سر النجاح والدهشة الذي خلقهما بيراندللو، وهو يختلف عن شكسبير من حيث المساحة التي افردها للنص المعترض الذي يكاد أن يشغل أغلب مساحة المسرحية.

في مسرحنا العراقي استطاع الكاتب الكردي الراحل محمد موكري الاشتغال على شخصية تاريخية معروفة (هارون الرشيد) خلق منها شخصية موازية لها (توأما) جعلها على جانب كبير من المعارضة للشخصية الأولى فما كان من الأولى إلا أن التهمت الثانية قبل الولادة بعد أن ظهرت عليها ملامح المعارضة في مرحتها الجنينية. المسرحية تبدأ بظهور شخصية هارون وهو يجر تابوت توأمه أنّى رحل محاولاً التخلص منه دون جدوى بسبب التعارض الكبير بينهما وصراعهما من اجل البقاء والنفوذ. لقد شكلت هذه الشخصية نصا مواجها وسلوكا معاكساً وإطاراً خارجياً للنص الداخلي أو لنقل إنها كانت الوعاء الخارجي الذي صب فيه كامل أحداث المسرحية الداخلية وان جاء ذلك من دون نقلة تمهيدية بين الوعاء (الشكل) ومجريات الأحداث (المضمون). فالمسرحية الأولى بدأت بافتتاحيتها الهارونية ثم توقفت لتتيح للمسرحية الكبيرة طرح ما لها من الأيدلوجيا ثم من بعد ذلك العودة الى استكمال الشكل الأول (الوعاء) وهذا مخالف لما جاء به شكسبير وبراندللو وغيرهم من الكتاب المحدثين، لأن النص المعترض لم يأتي ضمن أجزاء النص الكبير بل على العكس من هذا تماماً وهذه واحدة من أكبر إشكاليات النصوص الاعتراضية. 

أما الكاتب الراحل محي الدين زنكنة فانه أنشأ نصه الاعتراضي داخل نصه الكبير (الخاتم) مبتكرا شخصية هارون وزبيدة وجعفر ومسرور ليكونوا نظراء للشخصيات الحقيقية وليقوموا بأفعال قاسية تكشف فداحة وقسوة وبشاعة أفعال الشخصيات الواقعية. ويمضي الى أكثر من هذا عندما يجعل المجموعتين (الواقعية والافتراضية) تتصادمان مع بعضهما صداما مباشرا ينتهي باسترجاع الهيمنة الرشيدية على الرغم من بقاء الفعل الأخير ماثلا في النص الكبير كفعل مقاومة مستمرة.

الجيد في هذه المسرحية إنها تمكنت بمقدرة درامية كبيرة أن توازن بين المسرحيتين، وان تحقق الهدف منهما بمنطق ومبررات لم تخرج عن السياق الفكري والدرامي لهما. واستطاعتا أيضا استكمال، ما بدأ به شكسبير وطوره براندللو، طريقة استخدام ما أطلقنا عليه المسرحية الاعتراضية تطورا ملموساً مبنياً على الأسس السليمة للمسرح داخل المسرح والذي بدأ به وطوره الكاتب المسرحي الإيطالي Luigi Pirandello. وبرأينا فان مسرحية (الخاتم) تعد من المسرحيات العراقية المحدثة التي قرّبت صورة الدكتاتور من أذهان الغافلين عن أفعاله التدميرية العنيفة وعن سبل مكره ودهائه وطرق بسط نفوذه على الجميع، وكل هذا بواسطة المسرحية الاعتراضية.