مقدمة كتاب "لا يمر قطار بهذه المحطة"

 

   أربع مسرحيات اشترك بكتابتها كاتبان أحوازيان هما سالم الباوي وسيد كاظم القريشي. مسرحيتان اعتمدتا العربية الفصحى، ومسرحيتان اعتمدتا العربية بلهجتها الأحوازية، ولم يشر أي من الكاتبين إلى عائدية نصوصهما بل تركا معرفة ذلك على تقدير القارئ وهو تقدير صعب لأن القارئ العربي لم يطلع على نصوص لهما باللغة العربية حتى يتبين له من أسلوب الكتابة من كتب هذه النصوص تحديداً، وهذا جعل مسؤولية النصوص تعود بالضرورة على طرفي الكتابة سالم الباوي وسيد كاظم القريشي.

يتصدر الكتاب إهداء خصص للأحوازيات اللائي حرمن من التمثيل وفي هذا إشارة الى غياب الحرية سواء في التمثيل على خشبة المسرح، أو التمثيل الدبلوماسي، أو أي تمثيل آخر بدلالة النقاط الثلاثة التي لحقت بالإهداء وترك تأوليها للمتلقي. ومن بين كل الأحوازيات اختص الإهداء بـ(مريم) باعتبار رمزيتها التي جعلت منها أيقونة نسوية عانت من ذلك الحرمان وهذا أيضا بدلالة النقاط الثلاث التي وضعت بعد اسمها مباشرة.

أما عنونة الكتاب فقد اشتغلت على المحطة كمكان، وعلى القطار كحركة للزمن. القطار جاء نكرة غير معرف في إشارة إلى عدم مروره، أو مرور أي قطار آخر من المؤمل قدومه الى هذه المحطة، وفي هذا ما يدل على أن المحطة مهملة ومنسية وواقعة خارج حركة الزمن، والمحطة هنا تعني مكان استقبال القادمين، وواجهة البلدة التي تدور الأحداث فيها وعليها، ولهذا جاءت معرفة بأل، وبهذا كله يصبح العنوان عتبة أو بوابة للدخول إلى عالم النصوص الأربع، أو يافطة عامة لجر الانتباه الى المكان المنسي على جغرافية معزولة، ويظل السؤال:

هل تتوافق العنونة مع ما جاء في نصوص الكتاب؟

وتظل الإجابة رهن القراءة اللاحقة:

أولا. مسرحية عبيد الماء:

اشتغل الكاتب فيها على المزاوجة بين الأسطورة والواقع، وقد تداخل بعضهما مع بعض في توليفة موفقة ذابت فيها الحدود بين الواقعي والرمزي، ابتدأها (عُبيد الماء) بقصيدة شعبية قد تكون من الأشعار المعروفة في المجتمع الأحوازي:

(اليمته ألبسك يا قميص الصبر بيد

        حتّى بيد أنهض وأكضّ الشمس بيد)

وهي أمنية لا تتحقق على صعيد الواقع الفعلي، وقد تتحقق في الخيال حسب، وهي ثيمة ارتكز عليها نص المسرحية في نسج حبكته.

أما الحوار الافتتاحي فقد أشار إلى انتهاء الأحداث (المصير) منذ بدايتها كدليل واضح على أن النهاية محتومة لا تبدل فيها، وان أواصر العلاقة بين الواقع والأسطورة محكومة بالخيبة والاستسلام، وان حلم الشخصيتين آيل الى اليأس مهما تطورت العلاقة في مجتمعين يرضخان الى الظروف الاجتماعية المتشابهة من جهة والمختلفة، اختلافا جوهريا، من جهة أخرى، وما بين البداية والنهاية يستعرض الكاتب تفاصيل المحبة بين (الفتاة) ابنة الشيخ وبين (عُبيد الماء) ابن شيخ عَبيد الماء بلغة مرنة طيّعة وأنيقة، وبحوارات برقية لم تترك للملل إمكانية الدخول إلى ثنايا النص الذي بني على حبكة متقنة. وتأتي النهايات على خلاف البدايات وترتبطان في حلقة واحدة تبدأ وتأتي بالفعل نفسه. لننظر الى بداية المسرحية ثم نستشف نهايتها:

 (عُبيد الماء: انتهی كلّ شيء

الفتاة: لا، يجب أن لا ينتهي هكذا!

عُبيد الماء: النهايات ليست بأيدينا

الفتاة: لماذا لا تكون بأيدينا، والبدايات كانت بأيدينا!)

فالفعل الاستباقي (انتهى) جاء في مفتتح المسرحية معلنا عن نهايتها الأكيدة ثم جاءت النهاية لتعلن ارتباطها بمفتتح المسرحية تقول الفتاة في في مختتم المسرحية:

(وليتها لم تكن هنالك أيّ بداية)

هكذا اقفلت المسرحية على نفسها بنفسها مثل دائرة من السيلتك وهذا هو حال مجتمع المسرحية، يدور ويدور ثم يعيد الدورة نفسها بلا توقف أو انطلاقة جديدة الى الأمام.

 

ثانيا. مسرحية حكاية عذراء من الحِرشة:

وهي مونودراما بشخصية واحدة تروي حكاياتها شابة في مقتبل العمر، مراهقة لها حكاياتها الخاصة التي تحب أن ترويها لنفسها وللآخرين. المسرحية تخلو من التأثيث والسينوغرافيا وربما تخلق المؤثثات ذهنيا من خلال الحوار المنطوق مع شخصية غائبة افتراضية هي (الطفلة) كما افترض المؤلف داخل النص. وافترض أنها تتماهى مع الفتاة أو أن طفولة الفتاة تمارس حضورها الخفي لتكون سبباً لسرد الحكايات. تبدأ الفتاة روايتها بتعجب

(أتعلمين!

عندما كنت في السادسة)

وهو نفس عمر الطفلة الذي افترض الكاتب حضورها الى جانب الشخصية الوحيدة (الفتاة) تخفيفا للعزلة الاجتماعية وتركيزا على تفاعلية العلاقة بين السرد والمسرود له. وتنجح الشخصية بإيصال أبعادها الطبيعية والنفسية والاجتماعية والصحية لجمهور النظارة. تقول بهذا الشأن بشكل صادم:

"أصبت بمرض عضال وتوفيت"

والمتوفاة هنا هي من تعيد رواية الماضي وتحكي تفاصيله لتعيده الى الحياة المفقودة بعد أن صارت وحيدة:

في المسرحية ثمة أزمات خلقت مواقف دراماتيكية عنيفة فالرسالة الغزلية التي وجدوها مع كتب الفتاة أثارت حفيظة أمها ثم أبيها الذي قام بركلها على بطنها بعنف أفقدها وعيها ولم يشفع لها ما كان يتمتع به من حنان ومحبة كبيرة وأبوة عظيمة وهذا هو حال المجتمعات الشرقية أغلبها إن لم اقل كلّها.

وتسترسل الفتاة في سرد الحكايات فتنقل لنا ما حدث أيام الحرب من مآس وويلات ثم تعود الى موضوعة الرسالة والبراءة فنكتشف أن الرسالة قد كتبتها إحدى زميلاتها ووضعتها بين الكتب في الحقيبة وهي موجهة الى شقيق الفتاة.

المسرحية مترعة بسرد ما رأته أو عرفته أو سمعته الفتاة من حكايات الماضي، وكذلك بعض ما عانت منه عندما كانت على قيد الحياة. ثم تنتهي المسرحية ولا ينتهي السرد فها هي تقول مختتمة النص:

حسنا لأذهب كي آكل وجبة الغداء. ثم أكمل واجباتي المدرسية (صمت)

لا أستطيع أن أمض الوقت كله هنا(صمت)

(تخرج)

ثالثا. مسرحية لا يمر القطار بهذه المحطة

   وهي من المسرح الشعبي أو إنها حاولت أن تكون كذلك. فالفرق واضح عند أهل المسرح بين أن تكتب باللهجة الشعبية وبين أن تتناول موضوعة تضع المسرحية في خانة شعبية المسرح. في البدء حدد الكاتب امكنه المسرحية ثم تلي ذلك بتحديد شخوص المسرحية وجعلهم على مرحلتين: مرحلة الشباب، ومرحلة الكهولة فاعتقدنا أن الكاتب بصدد تقديم الشخوص بشكل أخر مختلف في الموقف والحياة والصراع وما الى ذلك أو كما في بعض المسرحيات تنشطر الشخصية على نفسها مولّدة شخصية أخرى ليست بديلة وإنما متناقضة، ومستقلة، ولها دور تلعبه داخل المسرحية لكننا وجدنا أن العمرين جاءا بشكل طبيعي وتسلسل لا غرابة فيه ولم نجد ضرورة لتقسيم الشخوص بهذا الشكل القسري.

تبدأ المسرحية من خيال الظل الذي أخبرنا الكاتب من خلاله بما كان عليه حال الناس فيما قبل زمن المسرحية، وتنتهي بالخيال الاعتيادي حين سمعت الشخصية صوت (إيريّح) الذي غيبه الموت. وتبدأ قصة المسرحية من سلطان الذي افتعل حريقا في دكانه ليقبض ثمن التأمين وقد صادف وجود (ايريح) في ذلك الدكان فتعرض للحرق ولم يستطع إنقاذ نفسه. بينما يعرب سلطان عن ندمه (كل شي يصير على بنادم من إيده) ولكنه يتغافل عن ذنوبه لأنه أراد الحصول على منفعة التأمين وتستمر المسرحية في سرد تفاصيلها واشتغالها على كل شخصية من شخوصها. وبعدما تنقضي الأحداث تعود الشخصيات نفسها للتحاور بشأن القرية التي كانوا فيها زمن الشباب وعادو إليها في زمن الكهولة. وكل هذه الأحداث بعيدة عن مزكز السلطة والمدن الأخرى فالمكان معزول عن العالم تماما ولم يمر به قطار ما كدليل على التواصل والترابط بين القرية والعالم الخارجي. وفي اعتقادي أن اختيار عنوان المسرحية وجعله عنوانا للكتاب جاء معبرا عن رغبة الكاتبين لجر الانتباه الى هذا المكان القصي المعزول. وهذا يبرر لنا وقوع أحداث النصوص كلّها في هذا المكان الأثير لدى الكاتبين.

 

رابعا. مسرحية العودة:

تقع أحداث (العودة) في أطراف القرية حيث توجد شقة في أحد ضواحيها ومقبرة خارجها، وشجرة سدر أيضاً. ويشير الكاتب الى تداخل هذه الأمكنة وتشابكها كما تتشابك الأزمنة أيضاً. وهذا يعني أن المسرحية لا تستقر على زمن دون غيره، ولا على مكان دون غيره والكاتب يلعب بهذه الحقيقة كلما اقتضى الموقف ذلك. تبدأ المسرحية بزمن لاحق لبدء مشاكل الحِرشة يوم بدأت كوابيس الأطفال التي ترعبهم حد التبول في الفراش، وانتشار الرعب والخوف في القرية كلّها وبدأ الناس يغادرون منازلهم طلبا للهدوء وتخلصاً مما يسببه لهم (الشايب أبو رجل الخشب) والذي يزرع الخوف في نفوسهم المضطربة. ويصادف وجود طفل في احدى العوائل التي تروم النزوح والذي لا يريد النزوح معهم لتعلقه بفتاة هي ابنة (الشايب أبو رجل الخشب) وتجاوزا على الزمن الحاضر يعرض الكاتب مشهد (فلاش باك) من الماضي ليروي خلاله قصة الطفل مع محبوبته وهكذا تسير المسرحية في يسر ودرامية حتى نهايتها.

المسرحية مكتوبة باللهجة الشعبية الدارجة وهي لغة محلية تحتوي على بعض الملفوظات التي يصعب على غير أهل القرية المشار إليها (الحِرشة) فهمها بيسر. أما حواراتها فهي سلسة ومرنة عكست نوايا الشخوص، وتوقهم، ومآربهم وأوضحت الصراع الذي كان يعتمل في نفوسهم داخليا وخارجياً ويمكن القول إنها وعلى الرغم من تقنيتها نزعت الى الواقعية أكثر من نزوعها الى الخيال بسبب واقعية الأحداث وسمتها التوثيقية.

ختاما نقول إن تجربة الكاتبين من التجارب الجديرة بالاهتمام، والمتابعة النقدية أملا في تحقيقها ما يجب تحقيقه للمسرح الهادف في أنحاء المعمورة. وإن مسرحياتهم الأربع جديرة بالقراءة وارتقاء خشبة المسرح المقدسة.

صباح الأنباري

 

·          ناقد وكاتب مسرحي عراقي مقيم في أستراليا. صدر له ثمانية عشر كتاباً في النقد والمسرح وكان آخرها (قبل فتح الستار) بدمشق. وتناول النقاد تجربته الإبداعية في أربعة كتب كان آخرها كتاب الباحثة الأكاديمية د. لطيفة خمان في الجزائر (عاشق المسرح والصمت.. قراءات تستنطق تجربة المبدع صباح الأنباري في المسرح الصامت) هذا فضلا عن مئات الدراسات والأبحاث والمقالات التي تناولت نصوصه المسرحية وكتبه النقدية. ومن الجدير بالذكر أن مجموعته المسرحية الصامتة الأولى (المسرحيات الصوامت) قد تم تدريسها بجامعة طنطا في مصر كمقرر دراسي.