مسرحية الطريق الى السدرة

والخروج عن المألوف

 

العنونة:

(الطريق الى السدرة) عنونة تشي مفرداتها برحلة انتقالية من مكان لم تحدده إلى آخر حددته، والطريق الى المكان المحدد (السدرة) هو دال الرحلة، وحركة السفر وفعلها للوصول الى نهايته، ومع أن المكان الذي بدأت الرحلة منه مجهول في العنونة حسب، إلا انه وبالرجوع الى الذاكرة الجمعية التاريخية، وارتباطا بالسدرة فانه ابتدأ من مكة قاطعاً طريق المغادرة الى بيت المقدس ثم الى (سدرة المنتهى) التي ورد ذكرها في النص القرآني الآتي:

) وَلَقَدْ رَآَهُ نَزْلَةً أُخْرَى*عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى*عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى)

 وهذا كلّه يحيلنا الى السؤال الآتي:

هل ستنتهي رحلة المسرحية أو شخصية المسرحية فعلاً عند تخوم هذه الشجرة العظيمة؟ تخبرنا المسرحية إنها قطعت مسافة الى ما بعدها، وهذا عين ما جاء في (الإسراء والمعراج) فهل ثمة مغالطة في العنوان أم قصدية في عدم اكتماله أو وصوله إلى ما بعد (المنتهى)؟

ما حرص عليه المؤلف والتزم به هو تمسكه بمادة (الإسراء والمعراج) لذا استمرت عنده الرحلة الى ما بعد المنتهى لأن رحلة النبي (ص) استمرت صعوداً متجاوزة حدود المنتهى لتبلغ البساط الرباني منزلة لم يبلغها أحد من قبل. وإذا كانت العنونة قد ارتكزت على مفرداتها الثلاث الطريق، والسفر، والسدرة، فبأي واسطة تمت الرحلة؟ وكيف أقلت المسافر الى بيت المقدس؟ وهل كانت دابة فعلاً أم شيئاً آخر أكبر وأعظم من أن تكون دابة أو دويبة؟ يخبرنا ابن عباس وابن مسعود أيضاً إنها تسمى (البراق) واسمها مأخوذ من البرق فهي بسرعته، ولا نعرف من أطلق عليها هذا الاسم أهو الله أم جبريل أم الرواة أم أي أحد آخر؟ شخصياً استبعد أن تكون التسمية قد وضعت من قبل الرب أو الملائكة لأن الله يعرف كم تبلغ سرعة البرق وما إذا كانت هذه السرعة كافية لوصول النبي الى السماء وتنقله بين السماوات السبع ومن ثم عودته الى الأرض بليلة واحدة فقط لأن سرعة البرق تساوي عشر أو ثلث سرعة الضوء وهذا يعني استحالة وصولها وعودتها بليلة واحدة حسب مقياسنا الأرضي للزمن، هذا من جهة ومن جهة أخرى لا يمكن للبشر الطيران كلّ هذه المسافة وهم على ظهر دابة إلا إذا كان في الدابة تجويف لحمايتهم من التقلبات الكونية المختلفة (مركبة فضائية على سبيل الافتراض) وهذا ما افترضه المؤلف فعلاً ضمن ملاحظاته الداخلية، مثل:

(مركبة المعراج المتلألئة وهي تنطلق نحو السماء الثانية).

وأيضاً:

(تتوقف المركبة وتنطفئ أنوارها)

فالمعراج لم تعد مفردة رائجة في راهننا من الناحية العلمية الصرف بينما الشائع على الرحلات التي قام بها البشر استخدام مفردة (مركبة) ثم أضافوا إليها، من باب التخصيص، مفردة (فضائية) فصارت (مركبة فضائية) تمييزاً لها عن المركبات الأرضية. السلفيّون فقط يقولون إن هذه الرحلة تمت بمشيئة الله كي يغلقوا علينا دائرة الحوار والمناقشة، وما لا يستطيعوا الخوض فيه خوف الوقوع في الزلل، والقلعه جي ليس واحداً منهم بالتأكيد وقد خبرنا شجاعته وفطنته وهو القائل في تقديمه للمسرحية:

"لا بد من الإشارة إلى أن روايتي ابن عباس وابن مسعود تتضمن كثيراً من التصورات المبالغ بها أو الساذجة والتي أرجح أنها من توليفهما ومن زيادات الرواة والناقلين والناسخين بدواعي الترغيب والترهيب." وهذه هي أولى خطوات مخالفة المألوف في هذا النص الابداعي الجديد.

 

الصراع والارتقاء:

أحد أكبر قوانين المسرحية، منذ وجدت على أرض الإغريق وحتى راهننا هو الصراع بأنواعه وأشكاله المختلفة. فالصراع هو جوهر كلّ عمل مسرحي وهو أهم العناصر التي تبنى عليها المسرحية، وقد وجدناه، حسب معرفتنا المتواضعة، غير تصاعديّ في (الطريق الى السدرة) بمعنى أنه سار على خط أفقي لأسباب عديدة منها التزام المؤلف بالمادة الموروثة، والإخلاص الشديد لتسلسل حكاياتها وانتقالاتها من مرحلة الى أخرى أعني من سماء الى أخرى في شقي الرواية: الأرضي متمثلاُ بالأسراء والسماوي متمثلاً بالمعراج على الرغم من أن خط الحركة البياني معراجياً يشير الى الصعود من الأسفل الى الأعلى. كما إن الشخصيتين الرئيستين في المسرحية (جبريل ومحمد) بعيدتان كل البعد عما يوجب الصراع بينهما، وان بقية الشخوص (الأنبياء) لم تقم العلاقة بينهم وبين محمد إلا على أساس التلاؤم والانسجام لا على التناقض والصراع، ووجودهم في المسرحية كوجودهم في مدونة الإسراء والمعراج مقتصر على الاستقبال والترحيب بمحمد فضلاً عن أن الأمكنة السماوية خالية من الصراعات التي عرفها البشر منذ نزول أدم وزوجه الى الأرض وحتى يومنا هذا فالأرض دار صراع، وكفاح، ونضال، وجهاد، واحتراب، واضطراب، والآخرة دار سلام، وألفة، واستقرار، وسكينة أبدية، وأمان. أما الشيخ الذي أراد أن يغوي محمدا بقوله:

 "يا محمد، تمهل واستمع إليَّ أنصحك وأعطك الملك والغنى ومتعة لا تفنى، وأدلك على شجرة الخلد"

وهو يمثل شخصية الشيطان لم تحدث مواجهة بينه وبين محمد لتعزز الصراع داخل النص فقد قطع جبريل طريق الصراع حين كشف لمحمد حقيقة الشيخ ومكره الدفين. وبذا أهمل المؤلف الصراعَ المحتمل بين الخير متمثلاً بشخصية (محمد) والشر متمثلا بشخصية الشيطان (الشيخ) وصدقا أقول إنني عندما قرأت إسراء ابن عباس، وهي النسخة الوحيدة التي كانت متوفرة في مكتبتي، شعرت بالملل لرتابة الانتقالات ولم أشعر بالخوف أو الرهبة كما هو متوقع دائما من شدة الرعب الذي تضمنته المدونة. كنت اقرأ بصوت مسموع لزوجتي وقريبتي عن الموت وكيف يقبض عزرائيل الأرواح وصادف إن وقعت يدي على ساقها فصرخت وقريبتي صرخة رعب هائلة. ضحكت من خوفهما ولم أعقب بشيء سوى الاعتذار. سقت هذه الحكاية الجانبية لتوكيد حجم الخوف الذي صنعه كل من ابن عباس وابن مسعود لسبب ترغيبي فالإنسان بطبعه ميال لمعرفة ما يتركه العنف من أثر على نفسه أو الوصول الى التطهير الذي يفعله كما اعتقد الإغريق من قبل في تراجيدياتهم المسرحية والتي لا تزال حتى الساعة مؤثرة ومثيرة لخوف ورعب المشاهد وإن بدرجة أقل.

كانت الانتقالات بين السماوات في رواية ابن عباس رتيبة (حسب منظوري الشخصي) ومملة أحياناً لأن الأحداث تتكرر وتتكرر وإن اختلفت فيها المكونات والمؤثثات. عليه فان تناولها من قبل المؤلف فرض السعي الى:

·        إيجاد السبل الكفيلة بتجاوز التكرار وهذا أمر ينطوي على مغامرة كبيرة.

·        الحد من تأثيره السلبي، وهذا حل وسطي.

·       التخلص من الرتابة بطريقة ملحمية أي بعرضه عرضاً خاصاً قائماً على إزاحة كل ما هو اعتيادي ورتيب.

·       سحب المادة الموروثة الى راهننا عن طريق عصرنتها. والأهم من هذا كله تخليصها مما علق بها من الإضافات، والمبالغات، والتهويل.

وهذا هو عين ما قام به المؤلف المجتهد بالضبط بوسائل عديدة مختلفة منها استخدام السينما ومجاورتها للمسرحية إذ ساعدت شاشتها على ربط ماضي البشر بحاضرهم وقد تجلى هذا في عرض الكثير من الأحداث الأرضية والكوارث البيئية والبشرية منذ ابتدأ الخلق وحتى جائحة كورونا في حاضرنا الراهن. وبهذا صارت السينما جزءًا مهماً من المسرحية ترتبطان مع بعضهما بعضا وتتوحدان بطريقة تؤكد العلاقة بين ما هو أرضي وما هو سماوي وقدد أطلق عليها المؤلف داخل النص جدار الزمن:

(ينار جدار الزمن فتظهر عليه جماعات صغيرة متباعدة مهاجرة من مكة إلى المدينة. ثم رجلان يقطعان الصحراء "إنهما محمد وأبو بكر"، يختبئان في غار على الطريق، يتابعان السير.)

ويظهر عليها أيضا لقطات من معركة عين جالوت، وحطين، والطائرات الإسرائيلية وهي تقصف العرب بينما تزحف دباباتهم تحت غطاء جوي كثيف، وعقب كل معركة يكرر النبي جملته المعروفة "ويل للعرب من شر قد اقترب" هذا في بداية المسرحية في المشهد الثاني تحديداً ويتكرر استخدامها تقنيا في المشهد الثالث أيضاً أذ تعرض لنا مشاهد تمثل قابيل وهو يحتسي الخمر بينما يحمل جثة أخيه، وسيول جارفة وطوفان هائل وغرقى تظهر أذرعهم فوق الماء، وأم ترضع طفلها ثم تغذ السير نحو قبس من نار في أعلى الربوة. عند هذا المشهد يتوقف المؤلف عن استخدام الشاشة حتى يتم اللقاء بعزرائيل ليظهر عليها صورة ملك الموت وهو يحمل على كفه الضخم الأرض بما عليها فيرتجف محمد خوفا وتنزاح الصورة ليظهر محلها صورة الرجل الذي سقطت ورقته وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة ويموت وبموته تظلم الشاشة" ولكن يستمر استخدامها في مواضع أخرى كالنار (في حضرة الجحيم) وفي مشهد قارون وخزائنه وانهيار قصره وتستخدم أيضاً في عرض المشاهد المعاصرة الآتية:

1.    مشهد انهيار مبنى التجارة العالمي (الوول ستريت)

2.    مشهد لفيروس الطاعون أو كورونا اللامرئي يطير في الهواء كطبق طائر فوق الجبال والبحار مجتازاً حدود الدول، مخترقاً حاملات الطائرات والبوارج وترسانات الأسلحة، وهي تطلق عليه النار بلا جدوى.

3.    مشهد رجال ملثمين يرفعون من زوايا الطرقات جثثاً قتلها الوباء إلى عربات تسير لترمى في مقابر جماعية.

وكذلك في المشاهد الأخرى المتبقية كمشهد (الخالصة) و(العجيبة) و(سدرة المنتهى) ومن هذه الأمثلة كلّها نجد أن استخدام الشاشة كانت من الوسائل الفنية الناجعة في إعطاء صور جسدت الحدث الداعم لفكرة كلّ مشهد من مشاهد المسرحية ولهذا اعلن المؤلف عن كون عمله التركيبي هذا أنه عمل سينمائي ومسرحيّ اطلق عليه اختصارا (سي/ مسرحية) ولم تكن السينما هي الوسيلة الفنية والتقنية الوحيدة التي استخدمت في هذه المسرحية فثمة وسائل أخرى منها استخدام (الرفرف) أو البساط الأخضر، أو ما عرف في ألف ليلة وليلة ببساط الريح، وبوساطته اخترق محمد والملاك الأبيض معه الحجب الموضوعة بين الله وبين خلقه حتى وصلا الى جواره. كما استخدم صوت الجلالة المسجل كوسيلة تقنية في الحوار الذي دار بين الإله ورسوله:

الصوت: {(تسجيلي) ارفعوا جميع الحجب التي بيني وبين حبيبي المصطفى محمد} وللمزيد من الإيضاح نقتبس الحوار الآتي:

 

محمد       :   إلهي، وسيدي ومولاي.. سبحانك.

الصوت    :   يا أحمد، عظِّم شأني، وعزز سلطاني، لا إله غيري، أنا ملك الملوك، وقاض الحاجات،                               

من دعاني أجبته، ومن قصدني أعطيته، ومن توكل عليّ كفيته ارفع رأسك                                         

                  الآن. ارفع راسك وانظر يا محمد أين أنت.

محمد      :   (يرفع رأسه، يبهره منبع الأنوار) يا رب.. يا نور الأنوار.. أين أنا؟

الصوت    :    أنت على بساط الأنس معي، وأنت السيد المفضل لديّ يا محمد لا تحزن، وسل تعط،

                وعزتي وجلالي لقد آليت على نفسي من قبل أن أخلق آدم أن لا تسألني شيئا إلا أعطيتك إياه.

 

ومما ينبغي الإشارة إليه هنا هو أن القلعه جي لم يكتف بإسناد مادته الى روايتي ابن عباس وابن مسعود بل عمل توليفاً كبيراً بين الروايتين، وبين ما جاء في القرآن والأحاديث النبوية الصحيحة ونذكر هنا بعضها اختصارا وتحديدا:

ولسوف يعطيك ربك فترضى

ليغفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر.

وجعلنا من الماء كل شيء حي.

الحيُّ القيّوم

لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى.

"إن النظرة الإيمانية، التي يكون الإسراء والمعراج مظهراً لها، ومعبِّرا عن آفاقها وتطلعاتها، تقوم على حقيقة كبرى تحددها العلاقة في الإلهي والبشري، وبينهما نزوع ارتقاء، وشِقّا هذه الحقيقة نجدها في الشهادتين"

فإذا كانت النظرة الإيمانية المعراجية قد تأسست على حقيقة (العلاقة بين الإلهي والبشري) فعلى أي شيء تأسست فكرة المؤلف وهو يخوض تجربة الاستلهام، والتناص، والاقتباس من مدونة الإسراء والمعراج؟

حري بنا أولا أن نشيد بجهد المؤلف في تعزيز مادته المسرحية عن طريق الحفر في الأساطير والبحث عن قرائن الرحلة واختلافاتها عن جوهر فكرة الإسراء والمعراج ودليلنا على هذا ما ثبته في المقدمة التي سبقت النص أولاً وتأكيده على فكرة أنها جميعاً بنيت على فكرة الهبوط الى العالم السفلي ثانياً:

1.    هبوط إيناس إلى مساكن الموتى عبر نهر الجحيم في إنيادة فرجيل.

2.    هبوط إنانا الى العالم السفلي في الأسطورة السومرية.

3.    هبوط عشتار إلى العالم الأسفل، مملكة أريش كيجال، في الأسطورة البابلية.

4.    هبوط بعل إلى العالم الأسفل في الأسطورة السورية الآرامية-الفينيقية.

5.    هبوط أوذيس إلى مقر الأرواح، منازل الموتى في الأوديسة لهوميروس.

إذن في كل هذه الأساطير يتجسد فعل الشخصيات الأسطوري في الهبوط الى العالم السفلي أما في الإسراء والمعراج فالفعل الرئيس يتجسد في الارتقاء والصعود الى السماء، كما أن الجحيم فيه موجود في السماء الخامسة بينما في كل الأساطير موجود في أسفل الأرض (العالم السفلي) وهذه هي الفكرة التي أسس المؤلف المسرحي عبد الفتاح رواس نصه عليها. وفيها نلمس جذور الاختلاف مع المألوف والمعروف في الذاكرة الجمعية للكائن البشري، وشتان بين فعلي الهبوط والارتقاء.

عود على بدء نود الإشارة الى أن تاريخ بدء الإسراء والمعراج كان بعد عشر سنوات من إقامة الرسول في مكة وليس في بداية الدعوة كما جاء في الطريق الى السدرة (ضرب النبي بالحجر من قبل الأطفال وعودته الى دار أم هانئ ومعالجة جروحه من قبل ابنته الزهراء وطرق جبريل الباب عليهما ليبدأ رحلة الإسراء) ففعل الضرب كما هو معروف للجميع ارتبط ببدء الدعوة الإسلامية ثم تبعها فعل الهجرة ثم العودة والاستقرار لعشر من السنين قبل انطلاق الرحلة الى بيت المقدس ثم الى السماء. فنيا أراد المؤلف ذلك ليجر انتباه القارئ والمشاهد الى صعوبة الأمر وما تحمله الرسول في الدنيا قبل أن يظهر لنا علو شأنه في الآخرة، ولكن هذا مغاير للتاريخ من الناحية التوثيقية حسب.

أما اللغة فلا أتحدت عن أناقتها وجزالتها ورصانة حواراتها ومتانة بنائها الدرامي لأنها عند القلعه جي كما عهدناها لغة مسرحية فائقة الجمال وذات جرس خاص وإيقاع جميل وشاعرية يندر أن يتحلى بها كاتب مسرحي محدث.

أخيرا لا يسعنا إلا أن نقول: هذا نص إبداعيّ خلاق امتلك الشجاعة ليطرق على أبواب كان الطرق عليها شبه محظور على الجميع إن لم يكن محظوراً أصلاً.