قراءة في كتاب د. صالح الرزوق

(الاجتماعي والمعرفي في شعر أديب كمال الدين)

 

   صدر عن دار ألف في دمشق كتاب الناقد السوري د. صالح الرزوق (الاجتماعي والمعرفي في شعر أديب كمال الدين). وهو (كما ورد على غلافه) قراءة في قصائد الشاعر مبوبة على وفق الترتيب الآتي:

الشكل العام لقصائد أديب كمال الدين.

اتجاهات الحداثة في شعر أديب كمال الدين.

الأسطورة والرمز في شعر أديب كمال الدين.

معنى الوطن في شعر أديب كمال الدين.

المضمون الاجتماعي والمعرفي في قصائد الـ(المواقف).

ومن بين هذه العنوانات اعتمد الناقد الرزوق (الاجتماعي والمعرفي) أساسا في عنونة كتابه النقدي بصفحاته التي تجاوزت الستين صفحة. واستنادا إلى محددات العنونة، وقبل الدخول إلى المتن، ومعاينة أبوابه الخمس قدمت لنا العنونة فكرة عامة مفادها أن الكتاب برمته تناول موضوعة الاجتماعي والمعرفي حسب. ولكننا وجدنا ونحن نتصفح الكتاب أن الاجتماعي والمعرفي ليس إلا ظاهرة من الظواهر العامة التي عكف الرزوق على دراستها في متن الكتاب، وطاب له اختيارها لتتحول إلى (ثريا) لتلك الظواهر على الرغم من أنها (العنونة) لا تتسم بالسمة العامة لكتابه والمحددة بدراسة وتأويل الظاهرة كما ورد في ملاحظاته التمهيدية:

"لقد كان ديدني أن ألاحظ الظاهرة، وان أعمد لتأويلها، من غير أي تدخل شخصي"

وكان حريا به أن يجعل من الظواهر أساسا عاما لاجتراح العنوان الرئيس بدلا من أن تكون واحدة منها أثيرة لديه ومفضلة على غيرها. وقد يكون تفضيله لها واستئثاره بها (كعنوان عام) عائد إلى كون كتابه في الأصل مقالات مستقلة جمعها لتشكل مادة واحدة تحت عنوان (الاجتماعي والمعرفي في شعر أديب كمال الدين). يقول في ملاحظاته التمهيدية:

"أود أن أنوه أيضا أن هذه المقالات كانت بعيدة عن المجاملة وعن الإطناب، ولم تستنفذ كل جوانب الشاعر، ما له وما عليه".

لقد انطوى التنويه على تواضع واضح لمقالات غير متواضعة تقترب في مرتكزاتها الأساسية من الدراسة الاستبصارية العميقة، ولكنه في الوقت نفسه أشار إلى كونها (مقالات) لامست ـ في رأينا ـ الجوهري، والأساسي في قصائد أديب كمال الدين. وتتصدر تلك المقالات موضوعة (الشكل العام) والتي يرى الناقد الرزوق فيها أننا وباستمرار نتابع المعاني وهي باتجاهين متناوبين:

1.    الأساطير الطبيعية لبلاد ما بين النهرين.

2.     وأساطير الذات.

ويرى أن تجربة أديب الشعرية تتوزع على هموم اجتماعية ولغوية مريضة (لم يوضح سبب مرضها) وعلى هموم اجتماعية فنية تعبر عن نفسها بشكل منفصل عن الواقع. ويرى أيضا أنها تنقسم على تجربة عشق فوضوي للحياة، وتجربة رفض أوديبي لها. هذا من جهة ومن جهة أخرى يرى أن الشاعر وظّف مفرداته الخاصة في تصوفه الشعري الذي دفعه لاستنباط روح الحرف وجوهره الغامض ويعتقد أن أديبا فعل ذلك بطريقتين:

الأولى دائرية ويعرفها على أنها صوت طبقي لهوي + حلقي ولثوي.

الثانية الرموزية العامة التي ترتكز على النقطة وحروفها.

وعلى الرغم من أهمية الطريقتين إلا انه لم يتوسع فيهما، واكتفى بذكر إحصائية بيّن من خلالها عدد المرات التي اشتغل فيها أديب كمال الدين على هذا الحرف أو ذاك. ولم تخل هذه الموضوعة من المقارنات والمقاربات الصوفية، ومن الشرح أو التفسير الموضوعي، والتفكيكي للقصائد، وبيان وجدولة فونيمات الحروف بحسب نوعها وعضو نطقها.

في موضوعة الحداثة الشعرية يؤكد الناقد على أن الحداثة عند أديب كمال الدين ليست شكلانية حسب، بل هي حداثة أفكار ومعتقدات وذهن لا يني يتوقف عن طرح الأسئلة باستخدام الأساطير والرموز الدينية. إن الحداثة عند أديب في الأساس تتصف بحروفيتها وباستخدامه الأمثل والأكمل للحرف والنقطة وارتداءهما لبوسا صوفيا متجاوزا لما هو تقليدي وشائع، وانطلاقه من خلالهما لاستيعاب كامل همومنا الاجتماعية التي صهر وصاهر فيها ما هو ذاتي مع ما هو موضوعي محركا ذاكرتنا الجمعية من خلال مخزونها الثقافي والتراثي بطريقة ذات خصوصية شعرية، وفكرية متميزة منحته هوية استثنائية تفرد بها على مجايليه فانفرد عن سربهم  بهالة من القداسة والسمو الشعريين، وبلغة بلغت مداها في اجتراح التراكيب القداسوية للحروف والنقاط على وفق رؤية بدأت بوادرها بالتشكل منذ وقت مبكر في أعماله الشعرية وبلغت أوجها في مجاميعه الأخيرة. إن هذه التركيبة المعقدة وضعته على مفترق طريقين بين رسالة اجتماعية ومادية كما يقول الناقد الرزوق من جهة، وبين رسالة وجدانية لذهن أعزل من جهة أخرى.

 لقد استأثرت موضوعة الأسطورة والرمز الديني باهتمام الناقد الرزوق فتناولها بمقالة أكد فيها على أن قصائد الشاعر إنما كتبت تحت خيمة تلك الأجواء ونفحتها الدينية من غير أن تخضع لحيثياتها وتفاصيلها لأنه يقدمها بهيئة إشارات وأفكار تقترب من لغز اللحظة ومن مشكلة الأخلاق التي تستنفر لحراسة ما تبقى من معنى للسلوك الفردي المعتزل بحسب رأي الناقد الرزوق.

القصيدة عند أديب كمال الدين غير مؤدلجة دينيا. إنها تأخذ من التراث الديني ما يخدمها لبلورة فكرة ما ترتبط بشكل أو بآخر بواقعنا المعيش وتداعياته وأزماته وانهياراته ولهذا تجدها مقبولة من لدن القراء على اختلاف مشاربهم ومذاهبهم وأهوائهم. القصيدة عند أديب كمال الدين لا تنتمي إلا إلى أيدلوجيا الشاعر نفسه وهي لهذا تتعامل مع الأسطورة بشكل خاص "من خارج سياقها الأساسي" فتعيد بناء الشخوص، وتجدد تراكيبها اللغوية مع الحفاظ على روحيتها وقوتها التأثيرية. يقول الناقد الرزوق مستنتجا:

"وهكذا يقدم أديب كمال الدين خلاصة العصارة الفلسفية لموقفه الصامت ولروحه الشعرية اللطيفة، والتي تفترق عن جروح الواقع، والتي أيضا تثير التساؤلات أكثر مما تقدم من أجوبة"

وفي باب معنى الوطن يبذل الناقد قصارى جهده بهدف الوصول إلى معنى محدد من خلال الانتساب إلى المكان ليس بمفهومه التعصبي العام بل من خلال صوره الذهنية الراسخة في وجدان الشاعر. ويأخذ الناقد الرزوق البيت مثالا على مكانية بديلة غير ثابتة لمكان ثابت واقعيا هو الوطن. وهكذا تتحول كل الأمكنة والمدن والحارات التي مر بها الشاعر، واختزنتها ذاكرته الانفعالية إلى بديل انتقائي يحمل في جوهره معنى الوطن. وهو يفرّق بين مفردتي الإقامة والتوطين. الأولى موضوعية ذات دلالة محددة وحدود واضحة، والأخرى تمهيدية ذهنية تفاعلية خاضعة لمتغيرات ذهن الشاعر واضطرابه الوجداني الذي يجعل النفس تتقبل حالة التوطين في كل مرة يلتقي فيها بالأمكنة الجديدة وهو يعبر أو يتقاطع مع شوارع اغترابه الطويلة والموحشة. يقول د.صالح الرزوق مستنتجا في خاتمة هذه المقالة:

"إن التشابه في الحلقة الأخيرة من مغامرة أديب كمال الدين مع الفن، هي بنفس الوقت مصدر للمفارق والمختلف من تجربته مع الوطن كمرادف لمعنى السكن أو توطين النفس، وربما اتخاذ قرار الانتماء".

في الباب الأخير من الكتاب ناقش الناقد الرزوق موضوعة الاجتماعي والمعرفي في قصائد الـ(المواقف) وهي بحسب رأيه "نوعا من التأمل في المعارف الخاصة، وهذا يعني أنها تضغط للانتقال من التجربة العامة للذات إلى التجربة العامة لمطلق الوجود. وتحاول أيضا أن ترسم معالم طريق الشاعر وحدود معاناته المضنية، كما أنها تبذل ما في وسعها لتحويل الاجتماعي إلى معرفي".

من هذا الفهم الجدلي انطلق الناقد لتحديد العلاقة المادية، وربطها بالوجدان الصوفي المكابد من أجل المطهر وصولا إلى الكيفية الشعرية التي على وفق اشتراطاتها تحولت إلى حضارة، وأداء، ومعرفة، وثقافة بحسب رأي الناقد. وهنا لا بد من الإشارة إلى الجهد الكبير الذي بذله في جدولة مفردات هذه العملية التحويلية التي أنتجتها رؤية الشاعر المتجددة ديناميكيا على الدوام. ويخلص الناقد في ختام أبواب الكتاب إلى ملاحظات ثلاث من ناحية المضمون، والشكل، والبنية محددا في المضمون انتماء قصائد الشاعر إلى موجة الرفض، وغير محدد في الشكل قولبة أو تحجيما قسريا، وفي البنية نشاطا ألسنيا تلقائيا غير مقصود هو "بمثابة مرآة لما يحدث في ذهن الشاعر". ولنا أن نوضح ما جاء في النبذة عن حياة الشاعر من أن له "مؤلفات في المسرح" بالقول بأن لا وجود لهذه المؤلفات المسرحية، وما موجود فقط هو مسرحة بعض أشعاره من قبل شباب مبدعين ومتفاعلين مع شعره بطريقة درامية، وبحساسية شعرية محولين الطاقة الشعرية الكامنة من سكونيّتها إلى طاقة درامية تحفل بحركيتها في عرضين كان الأول راقصاً، والآخر صامتاً.

 نأمل في هذه القراءة العامة أن نكون قد حققنا عرضا مفيدا لما جاء في كتاب الناقد المتألق د. صالح الرزوق (الاجتماعي والمعرفي في شعر أديب كمال الدين).

 

اديلايد 2011