متى تصبح الدماء جائعة؟

 

 

(دماء جائعة) عنونة قد تشعرك بالرهبة من مفردتيها القاسيتين. وتأخذك الى الركن المظلم المغرورق بالدماء البشرية وهي تشخب بالنهايات المضطربة. وربما تجرك قسراً الى بحورها التي هدر موجها ولا يزال على مر الزمن، وإذ يحط رحله على الشاطئ يتحول الزبد الى لون الدم، منذ بدء الخليقة وحتى يومنا هذا، لم يشبع الدم من الدم. إنه الجوع الأبدي. الجوع الذي أهلك الناس، ولا يزال، على مر التاريخ مع أن في الأرض ما يكفي لسدِّ كلّ الأفواه الجائعة. الدم والجوع إذن هما الداعمان بقوة لحتمية الموت المربكة فما بالك إذا كانت الدماء نفسها تعلن عن جوعها للدم بإصرار، ومكابرة، وعناد.

هي قسوة ولا شك أن يضعنا الروائي العربي نشأت المصري على بوابة روايته (دماء جائعة) قبل الطرق عليها وقبل الدخول الى عالمها المخضب بالدم، واستباقياً، كقراء متأملين، فإننا نجترح فداحة الصور التي سيرينا إياها، في ذلك العالم، على مدى مساحة الرواية وفضائها.

لقد اختار الأستاذ نشأت المصري التاريخ مساحة لروايته، والأحداث التاريخية فضاءً للعب فيه فعاد بنا الى أيام الخليفة العربي (المهدي) والد هارون الرشيد وكلاهما شغل منصب خليفة رسول الله أمير المؤمنين. ولكنه تحرر من تاريخيهما بعض الشيء ليسبغ على الرواية رؤيته الخاصة وليسمح لنفسه ابتكار أو تخيل شخوص لها ليوسع مساحة لعبها مع أن الرواية ظلّت، الى حدٍّ ما، حبيسة زمنها العباسي أو (الهاروني) إن صح التعبير تمييزا له عن الفترات العباسية الأخرى. ولم ينفرد المصريُّ بالكتابة عن تلك الفترة الهارونية فقد تناولها عدد من الكتاب ومنهم على سبيل المثال لا الحصر الكاتب العراقي محيي الدين زنكنة مستوحياً منها مسرحية (الخاتم) إحدى أكبر مسرحياته الجريئة التي كشفت عن الوجه الحقيقي لتلك الفترة العباسية/ الهارونية، وتناولها أيضا الكاتب الكردي محمد موكري مستوحيا منها نصه الموسوم (هارون الرشيد) والذي يعتقد أن هارون الرشيد هو تاريخ البشرية.

وتناول الفترة نفسها كتاب آخرون لن يكون آخرهم، على ما اعتقد، الأستاذ الجليل نشأت المصري فما الجديد الذي جاء به تمييزا لهذه الفترة التاريخية وإشكالاتها؟ لندخل الى عالم الرواية لنرى ما حدث لشخصيتها المحورية (المهدي) أو بمعنى أدق ما ابتكره الكاتب من أحداث أسبغت على الشخصية سماتها العامة والخاصة/ الواقعية والافتراضية، فالمهدي والد الرشيد، شخصية إشكالية مترددة بين ثنائيتي الحق والباطل، والعدل والظلم: الحق في استلام سلطة الخلافة بإقرار من والده الخليفة العباسي (أبو جعفر المنصور) الذي يعتقد أن "الحق هو القوة" وبطلانها لوجود من هو أحق منه بها محمد بن أبي العباس ابن عمه الذي أبعد عنها قسراً. وثنائيتي العدل والظلم، فقد أراد أن يكون على خلاف والده حاكماً عادلاً، مع إقراره ضمناً وتصريحاً بظلم أبيه الذي طال حتى أقرب الناس إليه ابن أخيه محمد بن أبي العباس. ولعل تردد المهدي قد تجلى في أكبر صوره عندما داهم نفسه بالسؤال الشكسبيري المربك: "هل من العدل أن أقتنص حق غيري في الحكم؟" وهو يعرف أن غيره أحق منه به لكنه حصل على الخلافة من أبيه بالمكيدة والتهديد وقد قضي الأمر ولا رجعة فيه، ومع انه يعترف أمام ضميره "أن العدل ليس تاجاً نلبسه عند الضرورة" إلا انه يقر بحقه في السلطة بعد أن علمه أبوه أن يقتل كي يبني دولة بحجم العالم ولهذا فقد قتل الكثير من الكفار والمسلمين على حد سواء معتقداً أنْ لا ذنب له فيما تعلمه وورثه عن أبيه. وهكذا يثبت الكاتب جسامة التوريث في السلطات الشمولية الحاكمة.

وبالعودة الى عنوان هذا الفصل (أنا..... وأنا) سنجد أن الكاتب قد وضعنا أمام شخصية مركبة محكومة بالانفصام هي شخصية الرواية ومحورها (المهدي بن أبي جعفر المنصور) ووضع الى جانبه شخصية الربيع بن يونس وهو حاجبه الأمين ويده الضاربة والقوة التي تبطش بكل من تسوّل له نفسه التجاوز على شخصية المهدي المقدسة. هو أداة القتل الفاعلة، وهو همزة الوصل بين ماضي الشخصية وحاضرها فقد خدم والد المهدي أيام حكم أبيه أبو جعفر المنصور ثم تحول بعد موت المنصور الى خدمة ابن المنصور الذي حصل على المبايعة أيام أبيه تحت قوة التهديد والوعيد. فما كنه العلاقة بين ربيع هذا وبين المهدي. وصف الكاتب هذه العلاقة محدداً إياها في جملتين حواريتين، حين قال الربيع للمهدي:

" أنت كل الفصول الجميلة".

فرد المهدي عليه قائلاً:

"وأنت فرحها وفرجها.

وهي علاقة من يمتلك الكلَّ بمن يمتلك الجزءَ فما الربيع إلا جزء صغير من المواسم كلّها ومن ضرورات هذه العلاقة حفاظ الجزء على الكلّ لصالح الأجزاء كلّها، وللحفاظ هذا وسائله وأساليبه التي تمتد من الترغيب إلى الترهيب. الربيع يصفي خصوم المهدي وفي الوقت نفسه يصفي خصومه أيضاً. مما أدى بطبيعة الحال الى بدء حياكة المؤامرات الداخلية (داخل القصر) وامتدادها الى خارج القصر وهذا يعني وجود شخصيات أخرى تخطط للتخلص من نظام المهدي وسلطته وإمعانه في قتل منافسيه وهو الذي يعتقد أن القتل لا يكون إلا في سبيل الحب والعرش وليس في سبيل الله كما يشاع.

يقول محمد بن أبي العباس: "لقد خيرني بين الحياة والتنازل عن حقي في وراثة الحكم" وسيظل التفكير بحقه يلازمه بقسوة طوال زمن الرواية. وثمة شخص موتور آخر بدأ بحياكة تآمره بنعومة تامة وأعني به جارية المهدي التي قتل والد المهدي أبيها وأخيها. هذا فضلاً عن عدد آخر من المتربصين بحياة المنصور لأسباب عديدة حتى تحوّل القصر الى مركز للدسائس والتآمر والقتل مع سبق الإصرار والترصد. ومن بين هذه الشخوص كلها تبرز شخصية (ربيع) باعتباره الامتداد التاريخي لشخصية المنصور وتأثيره على شخصية الرواية المحورية (المهدي) وسيبدو لنا أن من المحال أن تتخلص هذه الشخصية من براثن ماضيها الغارق بالدماء الآدمية. وفي قراءة للمستقبل يخبره العجوز الضرير بنبوءته محذرا إياه:

"سيظل الأعداء يتربصون بأحفاد أحفادك يقتلونهم بمئات الآلاف وربما بالملايين"

صور القتل إذن سواء أكانت في المستقبل، أو الحاضر، أو الماضي غذّت في روحه شهوة التخلص منها بقتل من تسبب فيها، أو التغطية عليها بغطاء الخير وبذل الأموال والرعاية الزائفة للرعية، والتخلص من ثقلها باللهو والمجون ورقص الجواري. والقتل في نهاية الأمر ليس من اجل الله، وهو يعرف هذا، إلا انه يمارسه سواء باسم الله أو بأسماء ومسميات أخر إرضاءً لطموح لا يتوقف عند حد معين، وجموح لا يهده النأي ولا يوقفه التعب. وهذا يتعارض مع رغبته الملحة في أن يكون عادلاً على الرغم من نمو شهوة القتل الغالبة فيه على بقية شهواته، وقد استمرأ مذاقها ما دامت توفر له الأمان والبقاء على دست الحكم، وسواء أكان القتل في سبيل الله أو في سبيل الشعب أو غيره فإنما هو قتل في سبيل العرش وهذا هو ديدن العروش كلّها. وفي الوجه الآخر للمهدي يقوم بتوزيع نصف ثروته على الناس ربما تكفيراً عن القتل الذي استباح عقيدته بعدما ارتبطت تلك العقيدة بالسلطة وبضرورة الحفاظ عليها، وهكذا ظلت هذه الشخصية متذبذبة بين أمرين مختلفين متنافرين يشكلان قطبي التعارض والتضاد داخل نفسه المرتبكة. وعلى الطريقة التقليدية المتوارثة أيضا يقص المهدي للعجوز الضرير قصة حلم راوده فيفسر له الحلم على أن في قصره من يريد به شراً. فيهرب المهدي من هذا الكابوس الى شهوة الحب التي يمكن أن تنسيه مخاوفه المستمرة وقلقه الدائم فينادي على سلافة لتنقذه من أوهام المستقبل:

تعالي.. سلافة، أرهقني ضجيج الواقع، وخيالات العجوز.

ولم يعرف أن سلافة هي من ستكون الجامعة بين شهوتين: شهوة الحب، وشهوة القتل. لقد فرضت عليه النبوءة أن يقوم بتغييرات وزارية وإدارية عشوائية شملت حتى حكام الولايات والخدم والجواري. وبعد سلسلة من القتل الفردي والجماعي يعود ليسأل نفسه سعيا وراء الاطمئنان والراحة النفسية أسئلة عمقت اغترابه وضاعفت عبثيته:

"هل يقبل الله تعالى أعمالي كأعمال صالحة؟"

"وهذه البحور من الدماء هل هي مباحة متاحة، أم آثمة كلها؟"

"هل أثاب عليها أم هي طاقة الجحيم؟"

"هل يثاب إنسان يذبح إنساناً؟"

"يا ربي.. هل يدي هي يدك؟ وإرادتي إرادتك حتى أقتل الناس مطمئناً؟

القابض على السلطة يساوره الخوف عليها، ويكون الناس دوما مصدر تلك المخاوف، وهذا يدعوه الى التطهر من خوفه بمزيد منه، واستبدال خوفه بخوف رعيته وهو الأسلوب القديم الجديد المتوارث الذي يضع حاجزا فولاذياً بينه وبين الرعية. يقول في تذكر أبيه:

"رحمك الله يا أبي فخوف الناس منه كان درعه وحارسه الأول، كان بارعاً حين أشاع بين الناس أنه سلطان الله في أرضه، فمن يتجرأ على سلطان الله أو وكيله أو نائبه في الأرض؟!! لابد أن أسترد جدار الخوف"

واسترده فعلاً وأصبح شَرْعاً ومُعْتَقَداً يبيح لسلطته ما لا يبيح لغيرها وضرورة من ضروراتها، لكن روح التآمر المبثوثة في زوايا قصره وقوة القدر الغالبة لم تمهله كثيراً فمات مسموماً على يد أجمل جواريه وأقربهن إليه. وبعد هذا العرض الذي وددتُ ألا يكون طويلاً، هل أجابت الرواية عن السؤال الذي افترضناه في العنونة: متى تصبح الدماء جائعة؟ وهل استطاعت عصرنة هذه الشخصية وإسقاطها على شخصية معاصرة لتثبت مدى حيوية فيروس الأنظمة الشمولية، وانتقاله عبر مراحل التاريخ؟

الرواية تركت الأبواب مشرعة أمام احتمالات التلقي المختلفة للإجابات المختلفة.