. إن هذا الاتصال والمزاوجة في كلا العمليتين: (القصرحية، وسي/مسرحية) أكدتا للقارئ على أن الانفلات من استقلالية كل منهما كفنين منفصلين حتّمته ضرورة اتصال بعضهما مع بعضه الآخر ضمن موازين محددة في إطار حداثي مطلوب تجريبياً.

مسرديات عز الدين جلاوجي

 اجتراح تجريبي لنوع أدبي جديد

صباح الأنباري*

 أولا. المسرديات القصيرة:

  الكلمةُ أو المقدمةُ التي افتتحَ بها عز الدين جلاوجي مسردياته القصيرة جداً ضمن مسرح اللحظة (1) أكّدت على مهمةِ إيصال مفهوم هذا المسرح بوصفه عملية تجريبية حاولت الانفلات من أسر الخشبة، وقوالبها الجامدة، وتأسيس مساحة حرة على الورق شكلاً، ومضموناً، واصطلاحاً. ومن المهم بداية الوقوف عند المصطلحين الجديدين وإلقاء نظرة عامة على سابقين لهما وهما: (قصرحية) الكاتب العراقي الراحل محي الدين زنكنة (أوراقي!!!) و(سي مسرحية) الكاتب السوري عبد الفتاح رواس قلعه جي (الطريق الى السدرة) والاثنان لم ينفصلْ عنوانُهما عن اسم قرينِهِما الأساس (المسرحية) في الأولى جاء المصطلح من مفردتي القصة والمسرحية بعد وصل بعضهما ببعض ليكوّنا (قصرحية) أنجبت لنا نوعاً فنياً قد يكون غير مسبوق لم يقتصر على الشكل حسب، بل وعلى روحية كلا الفنين معاً.

أما الثانية وهي (الطريق الى السدرة) فتولّدت من قطع الحروف المكملة لمفردة سينما والاحتفاظ بحرفين منها فقط هما السين والياء أضيفا الى الكلمة القرينة مسرحية لتكونا معاً (سي/ مسرحية) وأهم ما في هذا النوع هو استخدام تقنية السينما كعنصر رئيس ومتوازن مع تقنيات النص المسرحي عندما تتعذر بعض الحلول البصرية

وثمة تجربة أخرى سبقت هاتين التجربتين قام بها الكاتب المصري الكبير توفيق الحكيم وأطلق عليها مصطلح (مسرواية) وفيها زاوج الحكيم بين المسرحية والرواية مولداً عنهما نوعاً جديداً تجسدت آلياته في

نصه (بنك القلق) (*) ومع أن تجربة الحكيم تقدمت على باقي التجارب الأخرى ريادياً إلا أنها لم تحقق

غرضها الفني كاملاً فظل السرد متنحياً بعض الشيء عن نصفه الآخر (المسرح) وباعثاً على الملل في اغلب مواضعه داخل النص، ووجدت أن من الممكن الاستغناء عن قراءة السرد، والاكتفاء بقراءة الحوار المسرحي فقط. وعندما اخرج هذا العمل كدراما فان المخرج اعتمد على الجانب الحواري، واستفاد من السرد كإرشادات خارجية. ولو قيّض لي إخراج النص يوما ما فإنني سأقوم بإزاحة السرد أولا والاشتغال على جانب الحوار ثانياً. وإذا كان لا بد من توصيفِ ما قام به الحكيم في هذا المجال الابتكاري فإننا نقول إن السرد والحوار جاءا بشكل تعاقبي في (بنك القلق) ولم يكونا متداخلين، ولم يتم التزاوج بينهما لخلق مولود جديد بل جاءا على وفق رغبة الحكيم في توليد نوع أدبي جديد، بدافع تحقيق شكل غير مسبوق مع انه كان مسبوقاً أوربياً، ومتبوعاً عربياً.

أما استحداث مصطلح (مسرح اللحظة) من قبل الكاتب المسرحي عز الدين جلاوجي فانه فصل ما بين كلمتي مسرحية وسرديات، ثم تعامل مع مفردتي (قصيرة جدا) ليربط المصطلح الجديد بالقصة القصيرة جدا كفن سردي محدث من شأنه إضفاء الشرعية على نصه المسردي الجديد مع أنه لم يستقل أو يستبعد المسرحية عن مصطلحه الجديد تماماً، عندما جعل عنوان الكتاب مبنياً على ثنائيةٍ طرفها الرئيس هو (مسرح اللحظة) وطرفها الفرعي هو (مسرديات) وتتشابه هذه المفردة، لفظا وإيقاعاً، مع مفردة مسرحيات ولكنها تظلّ منفصلة عنها بمسافة ملائمة، والمشترك بينهما هما حرفا الميم والسين، والسين هو صلة الوصل الوحيدة بين المسرحيات والسرديات ( لفظاً) في آن واحد والتي تتجسد غايتها في التركيز على أن هذه (المسرديات) مرتبطة برباط وثيق مع المسرح وتحديداً مسرح اللحظة. فما هي حقيقة ذلك الاتصال والانفصال اللذان اشتغل الكاتب عليهما ونجح أو أخفق فيهما. يقول في مقدمة كتابه إنّ:

"مسرح اللحظة أو مسرديات قصيرة جداً المصطلح الأول للفعل والثاني للقراءة، حتى نزيل إشكالية مصطلح مسرحية، والذي يربكنا ويوقعنا في اللبس فلا نعرف أن ننصرف الى النص المكتوب أم الى العرض على الركح"

وهنا تقع أولى إشكاليات المقدمة التي يبدو أنها أرادت الفصل بين الفعل المسرحي وفعل القراءة ولكن بحدودٍ

خجولةٍ بعض الشيء. إنه يقدم لنا نوعاً فنياً بعيداً عن الركحِ ومستقلاً عنه، وفي ذات الوقت يريده متصلاً

به فمنحه صفةً مسرحيةً تبدو خالصةً هي (مسرح اللحظة) وهنا يطرح السؤال نفسه أذا كان الكاتب لا يريد

 

....................................................................................................

(*) توفيق الحكيم/ بنك القلق/ صادرة عن دار مصر للطباعة/ الناشر مكتبة مصر 3 شارع كامل صدقي ــــــ الفجالةPDF

اللبس بين الانصراف الى النص المكتوب أو الى العرض على الركح، ويبغي إزالة "إشكالية مصطلح مسرحية" فما مبرر اتصاله مع المسرح وقد استعاض عنه بتوسعه في تقنيتي الوصف والسرد، وهما عنصران سرديان بامتياز، وحسب زعمه "دون أن تجرح كبرياء المسرح"؟ ثم يستنتج بعد هذا قائلاً:" فكانت المسرحية مصطلحاً قائما بذاته يجمع بين السرد والمسرح ويهيئ النص للقراءة من المستوى البصري الى استحضار تقنيات السرد مع مراعاة خصوصية المسرح"

وإذا كان الأول، كما ذكر، مقتصرا على الفعل فقط فهل يختلف عنه في حالة القراءة؟ أقول إن الفعل في الحالتين هو الفعل نفسه لا غير. المسرحية التي لا تحتوي على الأفعال ليست مسرحية سواء أكانت مقروءة أم ممثلة على خشبة المسرح. وسيّان بين النص المقروء والعرض المنظور لأن الثاني يعتمد على الأول فمن دون نص مسرحي مقروء لا يمكن إيجاد نص عياني معروض، هذا إذا استثنينا الأعمال ذات الطابع الابتكاري المباشر على ندرته.

 

ويقول في موضع آخر: " وبهذا يكسب المسرح أيضا قرّاءه وقد خسرهم لقرون من الزمن في ظل دكتاتورية مارستها الخشبة على النص، ومارسها المخرجون على الأدباء"

ظنا أنه هو أول من كسر هذا القيد الثقيل في الوقت الذي يعرف الكلّ أن برنادشو هو أول من فكر وعمل على كسر هذا القيد بعد أن رأى تكدس النصوص عنده وعند كتّاب المسرح بشكل عام وانتظار نصوصهم دورها في طابور طويل لارتقاء الخشبة، وقد لا يصلها الدور على الإطلاق. لقد جعل برنادشو النص المسرحي غير مخصص للمشاهدة من على الخشبة حسب، بل جعله يتشارك مع الخشبة بقراءة ذهنية/ بصرية/ تخيلية. مع برنادشو يختلف الدافع إذن عن عز الدين جلاوجي الذي توّلد عنده من رغبة ملحةٍ ليس إلا، وهو القائل:

"ومن هنا يمكن أن نشير الى أن مسرح اللحظة/ مسرديات قصيرة جدا دافعان الأول ذاتي وهو رغبتي الملحة والدائمة في خوض تجارب إبداعية جديدة"

والثاني "إيماناً مني أن الإبداع الحق هو ما كان تجريبا أي تجاوزا للمألوف، إنه إضاءة مستمرة للمظلم في مجاهيل التخييل لدى الإنسان"

خصائص مسرح اللحظة:

وعن (اللحظة) وخصائص مسرحه الجديد يعتقد عز الدين جلاوجي أن تلك الخصائص تقوم على التكثيف مكاناً وزماناً، ولغة، ومشهداً، وعرضاً، وشخصيات لا تتعدى الثلاثة في أقصى تقدير وربما غاب عنه وجود المسرحية القصيرة جداً، وجهد كاتبها صموئيل بيكت على وجه الدقة والتحديد، وهي غاية في التكثيف ومن شخصيات ثلاث فقط وتعتمد اللحظة في إنشاء مادتها ولنا في مسرحيته (تأتي وتذهب) مثالاً على ما نقول، وهي من المسرحيات التي لا تزال تقرأ وتعرض أيضاً. ومن أجل الوقوف عملياَ على مسرح اللحظة سنحاول البحث داخل النصوص التي كتبت على وفق منظور جلاوجي الخاص بمسرح اللحظة ومنها (الطريق) والتي يشي عنوانها بنفسه عن نفسه، ويشير الى أن النص يتعلق به، وان تفاصيله تتمحور حوله، والسير عليه وصولاً الى هدف ما تختاره الشخصية نفسها، وتقرر صلاحيته للسير كوسيلة للوصول الى غاية محددة في ذات الشخصية أو لأقل الشخصيتين لان النص متأسس على شخصيتين تقاسمتا السير على الطريق وإن اختلفتا في اتخاذ الاتجاه الملائم لكل منهما في نهاية الأمر.

 النص قصير جداً كما قرر الكاتب هذا سلفا لمسردياته القصيرة جداً، والسؤال هنا هل يمكن اعتباره نصاً مسرحياً؟ نصاً قصصياً؟ نصاً مسردياً؟ أم نعتبره نصا عائماً؟

من حيث الشكل يقترب النص الى حد ما من شكل القصة القصيرة جداً والتي تحتوي على حوارات وان غطت أغلب مساحتها إلا أنها تستبعد أن يكون هذا الحوار مسرحياً لخلوه من التناقض الواضح الذي يدعمه ويشيّد عليه سلما للوصول الى الذروة، وهو حوار أفقي (غير تصاعدي) ولهذا يستبعد من خانة الحوار المسرحي المنطوق ويصب في خانة الحوار القصصي الملفوظ. وهو لهذا وذاك يمكن توصيفه على أنه سرد حواري غير مفروض، ولكنه مفترض على أية حال.

قصرُ النص وفكرتُهُ أكدتا على أن شكله وان اتخذ من القصة بناءً، ومن الحوار أداة للبث دعما عملية اجتراحه نوعاً جديداً بعيداً عن النص المسرحي، وقريباً من السرد القصصي. وان ما فعله الكاتب في هذا النص هو اشتغاله على بث ملاحظاته وهي خارجية في حالة النص المسرحي (ملاحظات وإرشادات الكاتب) وجعلها داخلية في حالة نصه المبتكر فاستبدل ملاحظات الكاتب بملاحظات الشخصية، وعلى سبيل المثال يقول في نص (الطريق) على لسان احدى الشخصيتين: "دفعني بقوة غاضبا" بدل القول: دفعه بقوة غاضباً وأيضاً: "بالغ في صرخته وهو يجذبني نحو طريقه" بدل القول: يبالغ بصرخته ويجذبه نحو طريقه" فالمتكلم هنا ليس الكاتب (أنا ضمير المتكلم) وإنما ضمير الشخصية المسرحية نفسها. هكذا أراد الكاتب منح نصه انفصالاً مطلوباً عن تقليدية راسخة في الكتابة المسرحية، لكنه سرعان ما تخلى عن هذه الطريقة ليعود الى التقليد في كتابة الملاحظات الخارجية، ويعيد شخصية المتحدث تحت يافطة (أنا ضمير المتكلم) يقول على سبيل المثال في بداية نص (حضرتي وحضراته):

"وقف من كرسيه يترقب رفيقه القادم بكل شوق، كان الوقت صباحا وقد أخذت المقهى زينتها، موسيقى خافتة تنبعث من الداخل، تصافحا بحرارة، وجلسا"

وهذا توصيف خارجي بصيغة (أنا ضمير المتكلم العارف بكل شيء)

ويقول في نهاية النص: "ثم يتوقف فجأة والباب يصفق خلفه"

وهذا توصيف خارجي جاء بصيغة أنا العارف بكل شيء أيضاً.

ولا نعرف سبباً لهذه العودة الى التوصيف المسرحي التقليدي الذي اشتغل على إزاحته من نصه الأول (الطريق) واتبعه في نصه الثاني (حضرتي وحضراته) ثم عاد الى إلغائه مرة أخرى في جملة:

"صافحني مرة أخرى"

ويبدو أن الكاتب وقع في هذا التذبذب سهوا أو أن فكرة التجديد لم تترسخ بعد في نصوصه الأولى بشكل متكامل.

لقد انتهى نص (الطريق) نهاية فاجعة بسقوط الشخصيتين صرعى دون حراك وهذه النهاية هي الموقف الدراماتيكي الوحيد داخل النص. فهل بعد هذا العرض يمكننا اعتبار النص مسردياً متضمناً على السرد والمسرح في آن؟ وهل يمكن إدراجه في (مسرح اللحظة) نأمل التوصل الى حل في نص آخر. وعلى صعيد النهاية فإنها لا تختلف كثيرا عن سابقتها فرجل (حضرتي وحضراته) الثوري يتخلى عن ثوريته ليحابي المسؤول العسكري في لحظة وصوله وما إن يغادر المسؤول يعود لصديقه كاشفا عن سبب محاباته فيقول:

"-ما نفعل، كلاب يحكموننا بالحديد والنار، ولكن سنثور عليهم

ثم يتوقف فجأة والباب يصفق خلفه"

وفي كلا النهايتين ثمة ضرب من الإحباط، والتشاؤم، واليأس الذي يغلق الطريق على شخوص النص ويتكرر هذا في نهاية النص الموسوم بـ(المتاهة) أيضاً إذ يجري الزوج خلف زوجته بعصاه" حتى يختفيا في الغرفة المجاورة" ولا بد لنا من الإشارة الى النصوص السابقة كلّها واللاحقة أيضا قد التزمت بمساحة اشتغالها فكانت قصيرة جداً.

ثمة أمر آخر ألا وهو أن لكل شخوص المسرحيات أسماء أو رموز خاصة تشير إليها، ولكن في هذه النصوص (المسردية) تختفي الأسماء والرموز، وحتى عندما تتحاور مع بعضها فان علامة الشارحة (-) هي التي تفرز هذا الحوار عن ذاك تماما كما يفعل كاتب القصة القصيرة فالشارحة هي ما يستعيض بها الكاتب عن مسميات شخوص النص. وهذا ملمح آخر يشير الى أن هذه النصوص قد تخلت عن قرابتها من المسرح ولم تتخل عن قرابتها من القصة القصيرة، أو القصة القصيرة جداً، ويمكن اعتبارها قصصاً وإن أراد الكاتب أن تكون مسرديات لأنها تتضمن على أغلب عناصر القصة من تكثيف واختزال ومن وصف ولغة موحية ودلالات علاماتية محددة.

أخيراً هل تبنى هذه النصوص على فكرة ما كما هو الحال في المسرح؟ أم تستبعد الفكرة تماماً؟

نصوص (مسرح اللحظة) التي اطلعت عليها لم تعنى بفكرة ما كما هو الحال في المسرح التقليدي والمحدث أيضاً. وهي في عمومها تتأسس على مواقف فقط، وتبنى على هذا الأساس الذي يميزها عن بقية النصوص الدرامية والسردية. فالنص الأول بني على موقف الشخصيتين من الطريق وهما موقفان متشابهان أول الأمر ومختلفان في نهايته، والنص تمحور حول هذين الموقفين. والنص الثاني تمحور حول الموقف من الثورة وتذبذب هذا الموقف بين شخصية الصديق وصديقه. والنص الثالث بني على موقف الزوج من زوجته. والرابع بني على موقف خيانة الزوجة وهكذا نجد أن كل نص من هذه النصوص (المسردية) بني على موقف أو موقفين لا يمكن عدهم أفكاراً مسرحية.

عموماً هذه النصوص تحتاج الى ترميم بسيط لتتحول الى ما دعاه الكاتب (مسرديات قصيرة جداً) وتقع تحت مسمى كبير هو (مسرح اللحظة). ولا يسعنا في نهاية المطاف إلا أن نشيد بجهد الكاتب المسرحي عز الدين جلاوجي، ومحاولة ابتكاره لنوع جديد من الكتابة التي أطلق عليها (مسرديات قصيرة جداً) ونثني على تبلور ابتكاره من خلال إصراره على الاستمرار بكتابة نصوصه الجديدة وفقاً لرؤيته لمسرح اللحظة وفي هذا شيء جعله مميزا عن بقية التجارب الابتكارية للكتّاب الذين أشرنا الى نتاجهم الابتكاري والتجريبي نوعياً. والذين لم يقدموا لنا سوى نص لا يزال يتيماً محروما حتى من أخوة تسانده في تثبيت مواليدهم اليتيمة.

الاستنتاج:   

1.    يرى الكاتب أن الحياة عبارة عن مسرحية كبرى، وان كلّ لحظة من لحظاتها هي مسرحية بحد ذاتها وقد تقول هذه اللحظات ما لا يمكن أن تقوله الأزمنة الطويلة، وأن لا بلاغة إلا في الإيجاز.

2.    وعلى وفق هذا المنطق ابتكر الكاتب ما أطلق عليه (مسرح اللحظة).

3.    ومن مسرح اللحظة دعته الضرورة الى وضع مصطلح جديد مبني على المغايرة بين المسرح والنوع الجديد ذي الميول السردية التي تمتح من القصة القصيرة أولا، ومن مزاوجة واقتران السرد بالمسرح ثانيا أطلق عليه اختصاراً (المسردية).

4.    وفي هذا النص الجديد اشتغل الكاتب على تقنيتي الوصف والسرد واستعاض بهما عن الإرشادات القرائية (الموجهات الخارجية) في محاولة لتغيير الأسلوب المتبع على مدى قرون عديدة.

5.    حدد دوافع المسرديات بدافعين: الأول ذاتي نابع من رغبته في الابتكار، والثاني رغبته في التجريب.

6.    ونتيجة لقصر المسرديات على وفق تحديده لها واقتصارها على شخصيتين فقط لذا أوجب ضرورة تقديمها في أي مكان وزمان: داخل الأسرة، داخل المدرسة، والجامعة، وبين الأصدقاء.

7.    دافع التجديد بشكل عام يختلف من كاتب الى آخر فقد جاء عند زنكنة بدافع تجريب نوع مختلف يجمع بين نوعين أجاد في كتابتهما وأراد الخروج الى ما يغايرهما. وعند القلعه جي جاء نتيجة همه في تقريب المعنى وإيصال الفكرة. وضرورة مجاورة المسرح للسينما. وحدث عند برنادشو نتيجة عدم استيعاب الخشبة للكم الهائل من النصوص المكتوبة. وبينا الدافع الذي فرض على جلاوجي ابتكار نص جديد مغاير للمألوف.

8.    على وفق هذه الطريقة (الأسلوب) كتب الأستاذ جلاوجي نصوصا تضمنها كتابه الموسوم (مسرح اللحظة).

9.    حاول الكاتب التنظير لهذا النوع الجديد، ونرى أن تنظيره لا يزال في بداية المشوار وان أمامه طريق طويل لتثبيت مرتكزاته النظرية. ومع هذا فهو يختلف عن غيره من الكتاب لأنه منح هذا النوع أكثر من نص كتب على وفق هذه الطريقة بينما اكتفى غيره بنص واحد لا غير، وهذا برأينا يشكل امتيازا للكاتب وهو عين ما فعلت الصوامت المسرحية أولا، والمونودراما التعاقبية ثانياً والتجربتان الأخيرتان لكاتب واحد.

 

ثانيا. المسرديات الطويلة:

1.    أحلام الغول الكبير:

   بأسلوب تجريبي محدث، وبفنية عالية متح الكاتب المسرحي الجزائري د. عز الدين جلاوجي نصاً جديداً زاوج فيه بين السرد (الرواية تحديداً) وبين المسرحية، مولداً منهما نوعاً أدبياً صاغه تحت تسمية مركبة هي (المسردية) وهي تختلف عن المألوف السردي والدرامي شكلاً وتسميةً، ومع أنها أخذت من الرواية عنصر الوصف السردي، إلا أنها اشتغلت على إيقاع الجمل الفعلية، وتأثير الأفعال على الأقوال تأثيرا خفف من الاستطرادات الوصفية وأفاض من التوصيفات الفعلية التي منحت النص الجديد قدرة فائقة على اجتراح ما هو درامي في هذه العملية. ولألقاء الضوء على هذه التجربة الأدبية المهمة فإننا سنبدأ معها من العنونة.

   تأسست العنونة على ثلاث مفردات فقط (أحلام الغول الكبير) (1) فالأولى أشارت الى وجود كم من (الأحلام) تتعلق كلّها برؤى محددة لشخصية محددة بوجودها الذي يدل عليه أفعالها المهولة وحضور تلك الأفعال في الذاكرة الجمعية. فـ(الغول) كما ورد في لسان العرب هو المنية، والحية، والصداع، والمشقة، والخيانة، "والغول بالضم: السعلاة، والجمع أغوال وغيلان" وكلّها على بعضها تعني الغضب والهلاك والموت. وربما أراد الكاتب هذا المعنى مجازاً لشخصية تقدر الهلاك للبشر، وتدفع بهم الى الدمار والخراب والذلة والاستعباد، والصورة المقربة له هي صورة الديكتاتور في النظم الشمولية. وكان لا بد للكاتب من مفردة تصف الغول وقدرته وتجبّره فوصفه بـ(الكبير) وهو وصف دقيق والا ماذا نتخيل هيئته دون أن تكون ضخمة كبيرة قادرة على ابتلاع كل شيء؟ هذه المفردات الثلاث التي ارتكزت عليها بوابة النص أعطتنا دلالات مهمة للتعرّف على فحواه، ولكن هل أعطتنا كل ما نحتاج إليه لننحّي النص جانباً عن متناولنا؟ إن الكاتب المسرحي الجلاوجي منتبه لأسئلتنا أو للأسئلة التي تصدر عنا كقراء عضويين. ويعرف كيف يجعلنا نتشوق لمعرفة المزيد الذي لا تستطيع العنونة وحدها أثراء الموضوع ضمن مساحتها المحدودة.

 أما العنوان الفرعي (مسردية في تسعة دفاتر) فقد قدم لنا وصفاً دقيقاً للنوع الجديد الذي اشتغل عليه ووسمه بمفردتين الأولى جاءت من السرد كما مر بنا سابقاً، والثانية من المسرحية مشكلاً منهما مصطلحاً جديداً هو(المسردية) وقد مرّ بنا هذا المصطلح عندما تناولنا مسرح اللحظة المتضمن على نصوص مسردية قصيرة جداً في مبحثنا السابق، وعلى خلاف هذا اشتغل عز الدين جلاوجي على عمل طويل زاوج فيه بين الرواية والمسرحية فهو عازم على اجتراح النوع الذي يثير اشتياق القارئ ويفعّل عملية القراءة، ولكن أي قراءة يروم تفعيلها؟ قراءة المسرحية؟ أم الرواية؟ أم السرد بشكل عام؟ هذا ما سنعرفه عندما نمخر في عباب نصه المسردي (أحلام الغول الكبير). وهنا يمكننا القول إن الرواية لا تحتاج من الجلاوجي الى زيادة قرّائها فهي تتربع الآن على قمة القراءة الشائعة جماهيرياً على خلاف المسرحية التي لها عدد محدود من القراء لأنها تكتب لتمثل على خشبة المسرح، وهذه حجة واهية استخدمها القراء الكسالى مستبعدين عنها صفتها الأدبية خاصة بعدما تحولت على يدي برنادشو الى نص أدبي قابل للقراءة من على الورق، وللتجسيد على خشبة المسرح.

 والآن، إذا افترضنا أننا انتهينا من المسردية كمصطلح جديد، فإننا نسأل كيف قسّم جلاوجي أجزاء هذه المسردية؟ وماذا أطلق على تلك الأجزاء؟ يقول في عنوانه الفرعي إن المسردية جاءت في (في تسعة دفاتر) وبهذا يتضح لنا كم هو تواق الى ابتكار ما يلاءم فنه الجديد على صعيد الشكل ثم على صعيد المضمون فهو لم يأخذ من الرواية مفردة الفصل أو الفصول، ولم يفعل ذلك مع المسرحية فيأخذ منها مفردة المَشْهَد أو المَشاهِد، بل اجترح مفردة ملائمة هي الدفتر أو الدفاتر لتكون بديلة عن هذه وتلك من المفردات. وهذه المفردة تشكل تماثلاً مع الفصل في الرواية، والمشهد في المسرحية، وهذا هو ما فعلناه بالضبط يوم منحنا مفردة (المُصْمَت) على المشهد المسرحي في صوامتنا المسرحية. (2)

أما الإهداء الذي ورد على الصفحة السابقة للنص فقد جاء فيه ما يشير الى الغول بهيئة سلطة مطلقة متمثلة بالسلطان، أي سلطان يمتلك تاجاً مرصعاً بالياقوت والجواهر، يضعه باستكبار على رأسه التي لا تعرف غير ظلم الناس وتدمير حياتهم بأي شكل أو طريقة ولكل سلطان طريقة. وورد في الإهداء أيضاً تحديد المهدى إليهم من:

(الثائرين ضد الآلهة البشر

الصارخين في وجه سلاطين البشر)

وفي هذا بيان أولي لحقيقة ما يعتمل داخل نفوس الشخوص من صراعات وتناقضات ومعاناة تخوضها دواخلهم على مساحة النص في حالة القراءة، وعلى مساحة الخشبة في حالة العرض، وهذا هو ما نروم بيانه من خلال قراءتنا الآتية:

الدفتر الأول: الرقصة: وهذا الدفتر (المشهد/ الفصل) يتناول التعريف بالزعيم (شخصية النص الرئيسة) وعلاقته بقادة البلاد ورئيس وزرائه وهي علاقة مبنية على موقفين: الأول يتعلق بعلاقته بالقادة (سيد وعبيد) والثاني يتعلق بموقفهم منه وهو موقف بني على كراهية مضمرة، ونفور مكتوم من عنجهيةٍ يتّصف بها كزعيم للأمّة كلّها. هذا الدفتر يمتاز بالاستقلالية عن الدفتر الذي يليه استقلالاً ملحمياً منفصلاً عنه، ومتصلاً به بخيط رفيع موضوعته الرئيسة هي (الرقصة). والرقصة هنا يقوم بها القادة مثل الصبيان وهم يترنمون بكلمات التمجيد والتعظيم للطاغية بطريقة مثيرة للرثاء والسخرية. وبعد التوبيخ والشتائم التي يوجهها لهم باحتقار، يتركهم لحظات خلالها ينفثون سمومهم وما اعتمل في نفوس بعضهم من الغيض والغضب على سلوك الزعيم وعلى رأسهم قائد الشرطة. وينتهي الدفتر (المشهد) بموقف يتكرر بالرقصة نفسها كل يوم:

(كلما انتشى وهزه الحماس غنى ورقص، ثم تهاوى نائما، فيهرع الحراس إلى حمله، ليقضي الساعات يغط في الشخير دون أن يتخلص من ملابسه ولا حتى من تاجه، وهو في حقيقته حريص على ذلك حتى في يقظته، خوفا من أن يحرم منها دوما، ورث ذلك عن آبائه الذين ظلوا يتطيرون من ذلك بعد أن وقعت لأحد أسلافهم، وقد فقد ملكه صباح ليلة تخلص فيها من ملابس ملكه، مخالفا عادة السابقين.) (3) ويحكم الزعيم على قائد الشرطة الذي عرف سراً بتمرده على الإرادة الحاكمة بالإعدام شنقاً حتى الموت.  

ثم يحل دفتر الأحلام المقطوفة وفيه ينتقل الحدث من قصر الزعامة الى سوق شعبي مهمل وخامل كأهله من الباعة والمتبضعين. وفي هذا الدفتر يجعلنا الكاتب نقلب أوراقه للتعرف على الوضع الاقتصادي، والاجتماعي، والسياسي وذلك من خلال الركود الذي ألم بالسوق، واليأس الذي وصل إليه المتبضعون، والعلاقات التي سادت الناس، والأحكام الجائرة التي تنفّذ على مرأى ومشاهدة العامة. هذا الدفتر كما قلنا مستقل عن الدفتر السابق، والخيط الوحيد الذي يربط بين أحداث الدفترين هو قائد الشرطة الذي صدر بحقه حكم الإعدام في الدفتر الأول، ونفذ الحكم في الدفتر الثاني. ومن خلال الملامح التي تلقي بظلالها هنا وهناك يتضح لنا وجه المدينة المخفي، وشكل وحجم الغول الكبير.

 أما القادمان إليها (الفتى والفتاة) فيرومان قطف حلمهما فيها أو منها لكنهما وجداها بلا أحلام، ووجدا أيامها وقد استحالت الى أتراح بعد أن كانت مزهوة بالأفراح والأمل والزهور والسعادة، وبعد أن كانت شمسها تضيء مدن العدالة والحرية الحمراء:

-       إذن مات كل شيء جميل في هذه الأرض الجميلة...

-       فغدت أرضا كئيبة...

جملتان لخصتا تاريخ هذه المدينة التي كانت أماً ولوداً لكل الحضارات، وشمسا ساطعة على كل ظلام، ثم صارت خربة كئيبة. تلك هي مدينة السلام والأحلام، مدينة الفلاسفة والعلماء، مدينة ألف ليلة وليلة، مدينة السندباد وعلي بابا وعلاء الدين، مدينة الجنائن المعلقة، مدينة الموسيقى والشعر والجمال لكنها استحالت الى مدينة للهم والغم والخراب والموت الرخيص.

ويحل علينا الدفتر الثالث الموسوم بـ(المؤامرة) وفيه يعود بنا الكاتب الى قصر الزعامة ثانية، والى إيوان الزعيم تحديداً حيث القادة وهم يتبادلون الحديث بصوت خافت، والقلق والخوف باد على ملامح وجوههم الكئيبة. وما يكاد القادة الوصول الى اتفاق حتى يدخل عليهم (حافظ الأسرار) فيوبخهم توبيخاً يعيدهم الى شخصياتهم ما قبل لحظة التآمر فيهتفون ثانية بحياة الزعيم ويلهجون بمحبته. ثم يدخل عليهم الزعيم ليفاجئهم بخبر تفقده للرعية وكيف أن طفلاً بريئا لم يستطع التعرف عليه فيأمرهم بتعليق صوره في كل مكان وهذا هو شأن الزعامات العربية وحلمهم الكبير. هذا الدفتر كما يبدو مستقلاً في موضوعه عن بقية الدفاتر السابقة لكنه مثلها جاء الحوار فيه مبنياً على لغة مرنة أخذ معظم المساحة المخصصة له ضمن النص بشكل عام وهو يذكرنا برواية الكاتب السوري فارس زرزور وروايته {الحفاة (وخفي حنين)} الصادرة عن وزارة الثقافة السورية بمجلدين، وهي رواية حوارية بامتياز. ومما أشرنا إليه في هذا الدفتر أن الوصف فيه جاء عبر الجمل الفعلية التي ابتدأت بالأفعال المضارعة مثل: يتبادلون الأحاديث، يتجمعون حينا، يحيطون بطاولة، يتباعدون، ينكبون، يلتفت الجميع، ترنوا أبصارهم، يخاطب الجميع.. إلخ. وهذه ميزة درامية تعبر عنها حركة الوصول الى هدفِ الفعلِ، وغايتهِ المرجوّة.

ومن الـتآمر على سلطة الزعيم ينتقل النص الى فعل أذكى شرارة الثورة فهاجت وماجت ضمائر الناس أملاً في إحقاق الحق، وسعياً وراء الخلاص من الجور والطغيان الذي ألمَّ بحياة البشر. ولكن الأمل تبدد بمجرد دخول قطعة عسكرية نزلت على الناس ضرباً مبرحاً بالعصي حتى تفرقوا هاربين بينما اعتقلت العساكر بعضاً منهم. ولعل الحدث الأهم في هذا الدفتر هو اختطاف (قمر) الفتاة الجميلة الفاتنة من قبل الزعيم وسلطته الغاشمة كدلالة على ما يريده لنفسه ولا يدع منه شيئا لأبناء الشعب المحرومين من جمال القمر.

وتستمر المسردية على هذا المنوال، وبأمر من الطاغية يحشدون الحشود لاستعادة (سرمد) ولا نعرف بعد من أو ماذا يكون سرمد؟ وماذا يشكل بالنسبة للطاغية أو للشعب المظلوم؟

وفي دفتر (العبيد) يتجمع الناس في الساحة العامة بأعداد كبيرة. حيث يحاسبون بعضهم بعضا ملقين اللوم على (الشيخ) الذي وعدهم خيراً ولم يستطع الإيفاء بوعده. وفي الساحة تتكشف الغايات وتتضح الأهداف ويبدأ المتآمرون بحياكة أفكار ديماغوغية لاستغلال الشعب. ظناً منهم أن الزعيم قد أرسلهم الى هذا المكان بدافع التخلص منهم على أيدي الشعب. ويزداد الموقف غموضا عندما يقول كبير الوزراء:

-  ونعم الرأي رأيك يا قائد عسكرنا المظفر، إن اصطياد سرمد لن تكون نزهة على شاطئ البحر كما كان اقتناص قمر)

وقد نسوا اتفاقهم على التمرد، والانقلاب على الطاغية. وتحت قوة السلاح تعود الهتافات والقصائد الركيكة لتمجد الطاغية مرة أخرى. وفي قصر الزعامة ينتظر الطاغية عودة جيشه المظفر وهو يزف له بشرى القبض على (سرمد) وتصل الجلبة الى مسامعه ولسان حاله يقول:

 (- أنا أخاف الشعب، لا أخاف الغيلان، ولا الجن، ولا العفاريت، ولا الموت الأحمر والأسود والأصفر والذي لا لون له، ومتعدد الألوان، لكني أخاف الشعب.) ثم تأتي النهاية على أيدي الشعب فعلاً وتبدأ مرحلة جديدة يكون بعض الناس قد شكلوا أحزابا مختلفة بأعداد غفيرة وتظل العيون "متلصصة تلمع وتختفي، تصغر وتكبر، تميل أكثر لأن تصير عيون حيوانات مفترسة يطارد بعضها بعضا"

الاستنتاج:

1.    المسردية هي شكل فني جديد قائم على المزاوجة الفنية بين السرد (الرواية تحديداً) والمسرحية.

2.    تأسست هذه المسردية على مفردات ثلاث: أحلام، والغول، والكبير ولكل مفردة منهن فحواها ومعناها.

3.    تختلف المسردية عن المألوف السردي والدرامي شكلا وتسمية.

4.    تخلت المسردية عن مسمى الفصل في الرواية ومسمى المشهد في المسرحية وابتكرت لها اسما جديدا هو (الدفتر) ليحل محلهما في النص الجديد.

5.    الدفتر في المسردية منفصل عن الدفاتر الأخرى ومتصل معها بخيط درامي ملحمي.

6.    اشتغلت هذه المسردية في مسرح اللحظة على النص القصير وقرابته من القصة القصيرة بينما اعتمدت النص الطويل القريب من الرواية.

7.     اشتغل الكاتب على موضوعة الزعيم/الطاغية والشعب المظلوم لما فيهما من تناقض وصراع أضداد.

8.    أكدت المسردية على حتمية انتصار الشعب وإنْ لم يكن انتصارا كاملا شاملاً.

9.    كشفت لغة المسردية عن مكنة وقدرة كبيرتين للأستاذ جلاوجي فهي لغة درامية رشيقة اعتمدت الجمل الفعلية الموحية، والحوار المرن الشاعري فيما عدا الأشعار الركيكة التي تقصّد الكاتب أن تكون مرآة لقائليها.

  

..............................................................................................

(1)       أحلام الغول الكبير/ مسردية صدرت عن دار المنتهى في الجزائر عام 2020.

(2)       المجموعة المسرحية الكاملة/ صباح الأنباري المجلد الأول/ المسرحيات الصوامت/ منشورا ضفاف والهيئة العربية للمسرح 2017.

(3)        أحلام الغول الكبير ص27.

2.  مملكة الغراب

أسس د. عز الدين جلاوجي عنوانات نصوصه، في الأعم الأغلب، على مفردتين، أو ثلاث مفردات كحد أقصى مثل: الفجاج الشائكة، رحلة فداء، الأقنعة المثقوبة، ملح وفرات، النخلة وسلطان المدينة، البحث عن الشمس، غنائية الحب والدم، وحب بين الصخور، في المسردية، ورأس المحنة، والفراشات والغيلان، وحائط المبكى، وسرادق الحلم والفجيعة، في الرواية، أما في المسرديات القصيرة جداً فانه اعتمد مفردة واحدة في كل عنواناتها مثل: المتاهة، الأحدب، السجين، الأدوار، المزاج، الزيف، عزيزي وغيرها باستثناء (حضرتي وحضراته) التي جاءت على مفردتين فقط.  وفي هذا دلالة واضحة على ميله الى الاختصار والاختزال والتركيز الذي صار سمة من سمات نصوصه المسردية القصيرة والطويلة وعلى وجه الخصوص في العنونة.

 أما مسردية (مملكة الغراب) التي نحن بصددها الآن فقد جاءت بمفردتيها الاثنتين موحية بقرابتها العائلية من مسرح الطفل، وذلك بسبب التشابه التكراري بين مفردتها الأولى (مملكة) وارتباط الثانية بعالم الحيوان والطير كما في مسرحية علي بدر رضا (مملكة الطيور) من الكويت (*) ومسرحية صلاح شعير (مملكة الأسود) من القاهرة (**) وغيرها. ومع كل هذا يبدو لنا أن هذه المسردية قد اتخذت من هذه التسمية بوابةً للدخول الى عالم أكبر وأشمل هو عالم عز الدين جلاوجي المثقل بهموم الشارع العربي، ومجرياته الساخنة. ويأتي دور الإهداء في بيان هوية المهدى إليه وهم الحكام الذين يولدون آلهة لشعوبهم العربية المدنسة. هذه المسردية لا تختلف في تقسيماتها الشكلية عن سائر المسرديات الأخرى فهي تقع في عدد من الدفاتر (المشاهد) المسردية التي يبلغ عددها في هذا النص ثمانية دفاتر امتازت بالتكثيف والتركيز. واختلفت في شخصية المُرْسِل لأنه لم يكن كما في المسرديات التي تناولناها أو أشرنا إليها معتمدة ملاحظات الشخصية الخارج نصية (المؤلف) في وصف متضمنات المنظر المسرحي من التأثيث والسينوغرافيا. وعلى غرار طريقة المؤلف في تشكيل دفاتره فانه أوجب وجود عنوان توضيحي فرعي هو (بيع الأحلام) كي يؤسس عليه نص المسردية أو مشهدها وبالأحرى دفترها الأول حيث بدا لنا أن عالم المسردية مشيّد على دمار وخراب كبيرين من خلال بعض الرموز الإيحائية فقد بدت الحديقة أشد بؤساً وقد تهاوت شجرتها ونخرها الدود وفي المنظر نرى شخصاً سميناً ممدداً على فراشه ومطلقا صوت شخير مزعج ولا شبه بينه وبين القاد

 

........................................................................................................................

(*) مسرحية عالم الطيور/ تأليف مريم نصير/ إخراج علي بدر رضا/ قدمت في الكويت بتاريخ 8 كانون الثاني 2015.

(**) مسرحية مملكة الأسود.. جزيرة الأرانب/ تأليف صلاح شعير/ إصدار دار يسطرون للنشر والتوزيع في القاهرة

 القادم الجديد بل فيه كل ما يتناقض معه بدرجات عالية. للشخصيتين داخل النص اسمان أو صفتان (ناعس وتاعس) وهذه هي المرة الأولى التي يمنح فيها عز الدين جلاوجي شخصياته المسردية اسماً يحدد هويتها أو الصفة التي عرفت بها. ولهذا نجده أحيانا يسبق اسميهما بأداة التعريف أل ليصيرا الناعس والتاعس. ويستمر الكاتب ممارساً حضوره بين سطور الحوارات كموجِّهٍ ومرشدٍ وملاحظٍ لكل ما يدور في النص، وهنا تحدث المفارقة الكبرى فالمسردية لا يتآلف فيها الحوار مع السرد قدر تآلفه مع المسرح الصامت. فهو قائم على توصيف الحركات أكثر من كونه توصيفاً للأحوال والمواقف حتى في بداية هذا الدفتر اتصفت لغته بانها فعلية لا قولية، وقد بدأت فقرته الأولى بالفعل الماضي (بدت) في جملة:

"بدت الحديقة الصغيرة اليوم أشد بؤساً" وفي الفقرة الثانية أيضا افتتحت بالفعل (يعلو) في جملة "يعلو صرير خافت" وبنيت الفقرتان على مجموعة من الأفعال الآتية: تهاوت، نخر، جفّن، تمايل، عرشت، يتبين، امتدّ، فتح، يفرّق، طليت، يقف، تمدد، يتحرك، يعود، يخيّم، يعلو، دفع، يلج، يوزع، يحدق، يعود، يمسح، يقترب، يشمّ، يبدي، يقترب، يقف، يتحرك، يفتح، يجلس، يهمُّ، يخطف، يجرع، يعيد، يبتعد، يتثاءب. وكل هذا يدل

قطعاً على نوعية القرابة التي بين المسرح الصامت (القائم على الفعل والجمل الفعلية وتوصيف الحركات) الذي تبنيناه ونظّرنا له، (*) والعمل المسردي الذي خاض تجربته الأستاذ عز الدين جلاوجي. ويمكننا في حالة الفصل بين النص الخارجي (ملاحظات وإرشادات المؤلف) والنص الداخلي (حوار الشخوص) الحصول على نص صامت متكامل بعد السعي إلى تكثيفه وإسقاط الفائض منه.  ولأكون واضحاً أكثر فإنني أضرب مثالاً الجملة الآتية: "يتثاءب الثاني قائلا" فأسقط مفردة (قائلا) ليتماشى الحال في النص الصامت الذي لا يحتاج إلى القول على الإطلاق.

 لو عدنا لقراءة الفقرتين المشار إليهما لوجدنا أيضا أن روح الرواية حاضرة فيهما من خلال الوصف السردي لحالة النص، وبيان الموقف العام الذي بني عليه تناقضٌ بين حالتين أو شخصيتين دخلتا منطقة الصراع النفسي والدرامي فأثْرتا النص، وأسبغتا عليه عنصر التشويق المحفّز لقراءته نصياً أو مشاهدته كعرض مسرحي. وقبل أن نختتم الدفتر وننتقل منه الى دفتر آخر لنا أن نسأل هل أجاب الكاتب أو وضّح لنا معالم المملكة التي تسنمت جسد المتن؟ أو هل المملكة التي حلم بها الناعس هي مملكة الغراب أم هي مملكة أخرى؟ سأترك السؤال بلا إجابة محكمة لأنني سأعود إليه لاحقاً لأشير في الختام الى أمر أخير هو أن هذا الدفتر مستقل ومكتمل فنياً من حيث المعنى والمبنى، وهذه الاستقلالية إنما هي عنصر من عناصر

...................................................................................................

(*) المجموعة المسرحية الكاملة/ صباح الأنباري/ الجزء الأول/ المسرحيات الصوامت/ منشورات الهيئة العربية للمسرح ودار ضفاف

 

 

مسرديات عز الدين جلاوجي الملحمية، وبيان نوعية التزاوج الحر بين الرواية من جهة والمسرحية من جهة

أخرى. ولا بد لي من الإشارة الى تركيبة عنونة الدفتر من مفردتين سيراً على الطريق نفسه الذي اختطه جلاوجي لمسردياته في المجمل، وهذا ينطبق على الدفتر الثاني لهذه المسردية، فقد جاءت مركّبة من مفردتين (حب مقدنس) وفيها يعود جلاوجي الى ما فعله من قبل في تركيب مفردة جديدة من مفردتين لإنتاج معنى مشتركاً واحداً، وفي هذه الحالة جمع في عملية الحب بين المقدس والمدنس فأنتج المقدنس الذي يشير الى وقوع حالتي التقديس والتدنيس في آن واحد.

الدفتر بني على الحب بطرفيه المتناقضين الارتقاء والهبوط، وعلى شخصيتين: (تاعس والمرأة) أميرة حبه الفاتنة الجميلة التي تمنحه أجمل أحلامه الوردية، وفي المقابل تأخذ حصتها من عرق جبينه فهي تقتسم أجرته اليومية مع (الناعس) الكسول الذي لا يعرف غير النوم والأكل وهو الطفيلي الذي تسبق بطنُه عقلَه بأعوام كثيرة. ولا تبدل في حياته وهو لم يشأ لحياته أن تتبدل أو تتغير ما دام مستمراً بحياته اعتماداً على ما توفره حالة طفيليّته من احتياجاته الضرورية والغير ضرورية. وفوق كل هذا يحلم بمملكته الخاصة التي

سيشيّدها على حساب تعاسة الآخرين وشقائهم وغبائهم.

وبينما تنصرف الأميرة بعد أخذها للنقود يتوقف (تاعس) متعجباً مما يحدث:

-       عجيب!! كل شيء عجيب ومحير!! ما أبعد ما بين القلب واللسان ليتني ولكن....

وتبقى الـ(لكن) هذه مفتوحة على احتمالات كثيرة قد يكون لها صدى واسعاً في قادم الدفاتر المسردية.

نحن هنا لا نريد متابعة قصة المسردية أو حبكتها نحن فقط نروم الى مطاردة العناصر التقنية والبنائية للمسردية ومدى تحقق شرطها أو شروطها الإبداعية التي ألزم جلاوجي نفسه بها بعد أن تحوّلت الى قوانين وقواعد استحقت الدراسة والتنظير لفهم مسار عملية التسريد والتجديد الإبداعيتين. ومع هذا لا يمكننا غلق الأبواب كلّها بوجه قصة المسردية وخاصة الدفتر الذي أصبح فيه (الناعس) ملكاً في مملكة ينتخب الناس فيها ملكهم عشوائيا بواسطة غراب. وقد تعارفوا على تلك الطريقة جيلاً بعد جيل فما أن يحطُّ الغراب على رأس أحدهم حتى ينصب ملكاً للبلاد والعباد، وبهذا تنتهي صراعاتهم من اجل الاستئثار بسلطة الملك، ومن هنا جاءت تسمية الدفتر (حكمة الغراب) وعنونة الكتاب (مملكة الغراب) التي تأسست على ما تركه الآباء للأبناء والأحفاد من قواعد غريبة عفا عليها الزمن، ونفدت صلاحيتها في حلِّ مشكلة كبرى كمشكلة تنصيب الناس حاكما عليهم، وضمن الدفتر أيضاً يقع اختيار الغراب على (ناعس) محققاً حلمه في أن يكون ملكاً على رؤوس الملأ بينما يظلُّ (تاعس) على تعاسته التي لا تفارقه ليل نهار. وفي الدفتر الذي يليه نكتشف سر الغراب الذي دربته (المرأة) على كيفية اختيار شخص بعينه دون الناس جميعاً بواسطة عطر مميز يشمه الغراب فيحط على رأس صاحب العطر. وهذا ما حدث فعلاً مع (الناعس) الذي غسلت رأسه بيديها، وعطرته بذلك العطر الذي تعوَّد على شمه الغراب المدرب. ويتضح لنا أن ليس ثمة حكمة للغراب كما أخبرتنا العنونة الفرعية فاختياره للملك جاء بعد تدريب مقصود على نوع محدد من العطر. وان كانت ثمة حكمة أو دهاء في هذا فأنها تعود للمرأة الفاتنة التي شكلت الطرف الثالث الرئيس في فضاء المسردية فهي صاحبة الدربة، والسيطرة، والتخطيط لبسط نفوذها على الجميع بما فيهم الملك، وهي وحدها من يملك أسرار الغراب. والمملكة في هذه المسردية، مثلها مثل كلّ الممالك التي اتصفت بحياكة المؤامرات والدسائس، واتبعت سياسة التضليل والتجهيل (الديماغوجيات) وتأثير المقدس كطريقة مثالية لإثارة النعر الطائفية والدينية مثلما يحصل في عالمنا المعاصر، وفي أمكنة عديدة في عالمنا العربي فضلاً عن إشاعة الخرافات والتمسك بها كحالة من حالات المقدس وعليه تفشل جهود (التاعس) في تغيير مجتمع المسرحية بعد تنصيبه ملكاً ليوم واحد حسب. وتثير الأحداث السؤال الآتي: هل كان (التاعس) لينجح في مسعاه لو أعطي عدداً كاف من أيام الحكم؟ وفي حساباتنا انه لن ينجح أبدا ما دامت ظروف التغيير وضرورتها غير واردة كضرورة تاريخية. فلا يكفي القيام بعدد من الأفعال التوعوية ليعي الناس حقيقة وضعهم البائس، المسردية ألقت بظلالها على الحاضر المعيش بعد أن أنارت صفحات من الماضي المنصرم. وهي كتجربة بشرية لم تدخل في حيّز التنفيذ الخلاق. وكنص إبداعي استطاعت هذه التجربة أن تقدم لنا نوعاً جديداً من أنواع الأدب الجديد، والفضل في هذا يعود الى الأستاذ المبدع عز الدين جلاوجي بالتأكيد. 

الاستنتاج:

1.    اعتماد عنونة المسرديات في المجمل على مفردة واحدة، أو ثلاث مفردات كحد أقصى.

2.    الرجوع الى صوت المؤلف في سرد النص الخارجي الذي تجاوزه الكاتب في نصوصه الأخرى.

3.    اعتماد تسمية دفاتر المسردية على عنوانين أحدهما رئيس والآخر فرعي.

4.    تخطي حاجز الشخصيات الثلاث الى مجاميع مسرحية كبيرة.

5.    منح الكاتب شخوص مسرديته أسماء حددت هويتهم أو صفتهم التي اتصفت بها حياتهم مثل (تاعس) من التعاسة و(ناعس) من شدة النعاس وكثرة النوم.

6.    لغة المسردية اشتغلت على الجمل الفعلية مستبعدة الجمل القولية.

7.    حققت هذه المسردية نوعا من التقارب بينها وبين المسرحيات الصوامت.

8.    تم التركيز في هذا النص على الوصف السردي الذي استلهم روح الرواية التي تداخلت مع روح المسرحية لخلق التوازن الضروري بينهما.

9.    استعمال المفردات المركبة من مفردتين كما جاء ذلك في الدفتر الثاني وفي مفردة (مقدنس) تحديداً.

أستراليا 2020

  

   معتمدات الدراسة:

1.    عز الدين جلاوجي/ مسرح اللحظة/ مسرديات قصيرة جداً/ منشورات المنتهى السداسي الأول 2017.

2.    عز الدين جلاوجي/ أحلام الغول الكبير/ مسردية/ منشورات المنتهى السداسي الأول 2020.

3.    عز الدين جلاوجي/ مملكة الغراب/مسردية/ منشورات المنتهى السداسي الأول 2020.

4.    صباح الأنباري/ المجموعة المسرحية الكاملة/ الجزء الأول/ المسرحيات الصوامت/ منشورات دار ضفاف والهيئة العربية للمسرح 2017.

5.    لعياضي محمد/ آليات التجريب السردي في مسرحيات عزالدين جلاوجي/ مجلة مقاليد/ العدد 15/ 2018.

6.    توفيق الحكيم/ بنك القلق/ صادرة عن دار مصر للطباعة/ الناشر مكتبة مصر 3 شارع كامل صدقي ــــــ الفجالةPDF.

7.    صباح الأنباري/ محي الدين زنكنة.. الجبل الذي تفيأنا بظلاله الوارفة/منشورات مهرجان كلاويز السابع عشر2013. (مساهماتية النص التجريبي في قصرحية محي الدين زنكنة (أوراقي!!!)

8.    عبد الحميد ختالة/ مصطلح المسردية وفعل التجريب.. تسريد المسرح أم مسرحة السرد/ مجلة لغة -كلام/ المجلد 06 العدد 03 / 2020.

 

 

* صباح الأنباري: ناقد وكاتب مسرحي عراقي مقيم في أستراليا وهو رائد ما أطلق عليه (المسرحيات الصوامت) بحسب عدد من النقاد العرب وبعض رواده الأكاديميين. أصدر ثمانية عشر كتابا في النقد والمسرح (نصوص مسرحية صائتة وصامتة) وله عدد من المخطوطات الجاهزة للطبع.