إلى من توجّه مسرحيات العبادي بصقتَها؟

صباح الأنباري

 

(تفو) أربع نصوص مسرحية كتبها علي العبادي بين عامي 2017 ،2018 وهي حسب تسلسلها في الكتاب:

1. مرحاض 2018

2. مقبرة 2017

3. تفو 2018

4. انتروبيا 2017

وهذا يعني أن الكاتب لم يأخذ الزمن باعتبار تسلسله، وإنما اعتمد على رؤيته الخاصة التي تتوافق مع رغبته في اطلاع القارئ عليها بهذا التسلسل حسب. ولو بدأنا من مفردات عنونة الكتاب ونصوصه فإننا سنجدها قد اعتمدت في تشكيلها على مفردة واحدة فقط، فعنوان الكتاب أو المجموعة المسرحية (تفو) مفردة واحدة انطوت على حركة درامية قائمة على فعل غايته البصق كنتيجة نهائية لحالات، ومواقف، وأفكار، وسلوك عابر للتهذيب ولا يجدر به إلا البصق عليه. إن عنونة الكتاب مأخوذة عن نص يحمل العنوان نفسه وقد جاء ثالثا في ترتيبه الزمني. ولكن الكاتب أعطاه الأولوية إذ جعله بسملة الكتاب أو عتبته الأولى لاعتبارات فنية، فضلاً عن قدرته على توليد الأسئلة الاستفزازية الكثيرة ومنها:

أهي بصقة في وجوهنا كقراء نروم الاطلاع على محتوى المتن؟

أهي بصقة على عالمنا بكل ما فيه؟

أهي بصقة موجهة لعالم النصوص في هذا الكتاب فقط؟

أم هي بصقة عائمة في هواء ملوث وبلا اتجاه؟

لا نريد استباق الأحداث وسنحرث أرض النصوص ونقلبها علَّ بذارها ينبت بما حملت فتورق

شجيرات علي العبادي الباسقة.

لم تكن عنونة الكتاب لتنفرد بكلمة واحدة حسب، بل إن كل النصوص تساوقت وتساوت معها في هذا فالعبادي يخطو نحو الاختصار والتكثيف في العنونة ومساحة النص أيضاً، ولا يريد الإسهاب والإطالة حرصا منه على حركية النص وتدفقه بشكل طبيعي. وبشكل عام وجدت عنوانات النصوص تستفزنا بإلغائها مقتضيات التهذيب وتصدمنا بمفردتين نابيتين وثالثة مثيرة للتشاؤم بشكل عام وهن: تفو، ومرحاض، ومقبرة وفقط مفردة انتروبيا (Entropy) ابتعدت بمسافة كافية عن هذه الكلمات فهي مصطلح علمي سنتعرف على سبب استخدامه عندما نتناول النص المعنون به.

مرحاض

وأنا أطلّ على عنونة هذا النص وجدت فيه بعض الغرابة التي أدركت سرّها الكامن في قذارة ما يحيطنا من فضلات وقذارات مقززة، ووجدتني أمام السؤال الآتي: هل تصلح المرحاض أن تكون عنوانا لنص مسرحي أو أدبي؟ وأجبت على فوري لم لا الكاتب حر في اختياره بالتأكيد ولكن لم هذا التوجه الغريب في وضع ذائقتنا بزاوية حادة؟ وهل انتهت أمكنة الدنيا، ولم يتبقى سوى المرحاض؟

يبدو لي أن البيئة المحيطة التي قصدها الكاتب غزتها الجيف فأحالت أجواءها الى نتانة مطلقة، وعشعشت فيها فايروسات جائرة انتشرت روائحها، وملأت جزيئاتها فضاء المكان كلّه محوّلة إياه الى مرحاض تعيد فيه السلطة إنتاج نفسَها بنفسِها. علي العبادي كاتب مسرحي ذكي استطاع في نصه هذا أن يشتغل على المألوف الخرافي ليربط عن طريقه الحاضر بالماضي فاستحضر روح علاء الدين ومارد المصباح من (ألف ليلة وليلة) والتلاعب بشخصيتيهما ليمارسا دورهما في الحاضر القائم وينحّيان الحواجز والعوازل بين الزمنين لإنتاج حكاية جديدة في بيئة أقام عليها صرحاً مزدوجاً من المرافق الصحية الشرقية والغربية، وجعل الفعل الأول يبدأ من داخل واحدة من المراحيض المغلقة قسراً على شخصية علاء الدين وإذ يخرج منها تداهمه الروائح المقززة التي هبت عليه من المرافق الغربية المواجهة بعد أن انتشرت في فضاء المكان كلّه. من هذا التأثيث تبدأ مسرحية علي العبادي بث أولى شفراتها الرمزية إلى المتلقي بمكنة احترافية عالية. ولشدة الرائحة وهيمنتها على المكان يفقد علاء الدين القدرة على تمييز المكان والتعرف عليه بعد أن استلب منه على غير درايته. ولم ينفرد بإقامته الجبرية داخل المرحاض حسب، بل المارد الجبار القادر على تنفيذ رغبات مالكه (وهو هنا علاء الدين) وإذ يحرره من المرافق التي حبس فيها يجده بلا حول ولا قوة وقد استلبت منه قدرته السحرية على تنفيذ الأوامر. لقد كان المارد سلاح علاء الدين الذي يجعله بأمر واحد يحقق له أي نصر يشاء. وهنا نكتشف الكيفية التي تم على وفقها تقزيم المارد وسلب قدرته السحرية غير المحدودة وجعلها محدودة جداً. وهذا، في المقابل، يعني أيضا أن قوة علاء الدين تاريخياً لم تتأسس على فعل مادي واقعي وحقيقي قدر تأسيسها على أوهام سحرية يمكن السيطرة عليها لاحقا وهذا هو ما حدث بالفعل لعلاء الدين وقومه على مر التاريخ. ومن خلال الحوار الدائر بين الاثنين يتضح المصير الذي ألمّ بقوم علاء الدين وعائلته. يقول المارد:

"طلبك هذا خارج حدود قدرتي، أهلك، ما بين بقايا رماد ومنفي يقف في الطابور الأول الذي ينتظر الموت."

ولما يعجز المارد عن فعل أي شيء، يبدأ علاء الدين محاولاً إيجاد طريق للخلاص من الرائحة، وهنا تحديداً يحدث الانعطاف الكبير نحو المسخرة، فيقدم لنا علي العبادي شتى المواقف الكوميدية بأسلوب ساخر طغى على أغلب نصوص المجموعة في الشكل، والمضمون، والعنونة، ونظرة سريعة على عنواناته (مرحاض، مقبرة، وتفو) تشي بانتقائية ساخرة تمثل الواقع المتردي فعلاً وتتمثل في القول الشائع (شرُّ البلية ما يضحك) في النص الثاني (مقبرة) اشتغل العبادي على تحريك إحساسنا بالاشمئزاز كي نقيء ملوثات حياتنا وقذاراتها الكثيرة، ومكروباتها السياسية المعدية.  يفتتح العبادي هذا النص بالإشارة الى أن المقبرة "فارغة لا يوجد فيها أحد سوى ثلاثة دفانين"

وهم مختفون لا نسمع سوى أصواتهم (في بداية النص) وبعد أن ظهروا بدأوا بمحاولة إيجاد حلّ لمشكلتهم المشتركة والتي تشي بوجود كائنات في أنوفهم يتخلصون منها عن طريق قذف المخاط الى خارج الأنف وبهذا يثيرون اشمئزاز المتلقي. يفترض بالمقبرة إثارة الحزن والاكتئاب لكنهما يتحولان الى مصدري فرح للدفانين لأنها تجلب لهم الرزق الوفير الذي انقطع عنهم منذ أسبوع واحد ولم تبقَ لهم سوى الثرثرة بسخرية غير معقولة، وعبثية لا تفضي الى حل، يقول الدفان الثاني:

"منذ أسبوع ولا أحد يدخل المقبرة، هل توقف الموت؟"

ويسترسل النص بحوار ثلاثي وبأسلوب مسرح العبث واللامعقول الذي لم يعد ملائما كما كان في الظروف السابقة عالمياً مما فرض علينا ابتكار أسلوب يلائم تطلعاتنا الحداثوية. أما ثالثة النصوص الصائتة فقد كتبها العبادي بصيغة مونودراما الشخصية الواحدة المعزولة اجتماعياً في بيئة وصفها بالخراب والدمار الذي طال كل شيء فيها ووصف شخصيتها الوحيدة مؤكداً على أنها:

"امرأة جلدتها الدنيا مرات عديدة، عانت كثيراً من فرط المعاناة والألم التي وقعت ضحية أنياب الظلاميين"

امرأة عشرينية تسترجع من الذاكرة ما حصل لها ولعائلتها بعد دخول الظلاميين (الداعشيين) الى قريتها وقتلهم لأخوتها ووالديها ولم يتركوا لها سوى أطلال هي أقرب ما تكون الى خربة طالها السقوط. وكان الأولى بالكاتب أن يستثمر هذه الواقعة في بيان جسامة الصراع وصعوده نحو ذروة المسرحية وعلى عكس هذا استمر الصراع أفقياً من البداية حتى النهاية بطريقة أقرب الى السرد منها الى الفعل الدراماتيكي. إن الوضع الناجز عن زمرة الاحتلال الداعشي/ الاسلاموي أنتج خراباً، ودماراً داخلياً/ نفسياً وخارجياً، وحالة من الإحباط المرضي، والكآبة المستدامة فبدت الشخصية يائسة مستسلمة وكأنها كتلة من الصراخ (حسب وصف الكاتب) ولهذا فان أفضل ما تتخذه هو أن تبصق على هذا كلّه، ومنه جاءت عنونة النص وعنونة الكتاب كما مر بنا سابقاً. ثم تأتي انتروبيا النص الأخير وهو نص إيمائي صامت يثير المخاوف مما يطال الكون من تحول هائل في انتروبيته. تَشكل هذا النص من ستة الواح صغيرة وربما بسبب صغر مساحتها أطلق الكاتب عليها اسم الواح وللمفرد لوحة ولأن المفردة غير كافية لتكون بوابة للنص أو عتبة مطلة عليه، لذا عمد العبادي الى ربطها بعنوان ثان فجاءت، اللوحة الأولى، تحت عنوان (الانتخابات) والثانية (طفولة + سبايكر) والثالثة (المتحف) وكذا الحال بالنسبة للألواح المتبقية فضلاً عن منح كلّ لوحة فضاءً خاصاً بها، وفي هذا محاولة لإيضاح نص اللوحات من الناحية الشكلية والبنائية. ولنأخذ اللوحة الأولى كنموذج على ما سعينا الوصول إليه:

اللوحة الأولى الانتخابات

الفضاء مركز اقتراع

في الجانب الأيمن من المركز يوجد مرحاض، وفي الجانب الأيسر يوجد منضدة (طبلة) وضعت عليها قنينة حبر مخصصة للانتخاب. يدخل شخص إلى الفضاء يركض يستقر في الركض وسط المسرح بطريقة إيمائية لمدة دقيقة، بعدها يندهش لوجوده في هذا الفضاء. يتجه باتجاه المنضدة فيشاهد المنضدة التي وضعت عليها قنينة حبر مخصصة للانتخاب، يغمس إصبعه الأوسط في قنينة الحبر أكثر من مرة بطريقة إيروتيكية بعد أن كان متردداً في ذلك، يخرج إصبعه ويرفعه، يدهش لرؤية اللون البنفسجي، يرجع يده بطريقة راقصة فيشاهد، ثمة رصاص موزع في إناء على المنضدة، يلتقط واحدة ويتأملها ثم يسير باتجاه المرحاض يفتحه يرمي الرصاصة فيه ويخرج من الفضاء فيما يخرج من المرحاض صراصير.

حدد الكاتب المكان في اللوحة وهو (مركز اقتراع) وأطلق على هذه الوحدة المكانية مفردة مغايرة لمعناها (الفضاء) مما أحدث إشكالية في التفريق بين المكان وفضائه. واختلطت الأمور في بداية اللوحة بين التوجيهات الإرشادية والأفعال الدراماتيكية إذ لم تفصل اللوحة بينهما، ولم تضع حاجزا أو حدودا لكل منهما واللوحة في حقيقتها صورة مصغرة تعكس حالة معروفة من الحالات الإجرائية لسير الانتخاب بشكل عام والفارق البارز فيها وجود الرصاصات (رمز التهديد بالقتل) موزعة في إناء على المنضدة، والتقاط واحدة منها ورميها في المرحاض، والمرحاض رمز رحّل من النص الأول للصوائت الى هذا النص الصامت (انتروبيا) وتنتهي اللوحة بخروج الصراصير من المرحاض. الرموز عموما واضحة ولا تحتاج الى بيان. وحتى إدخال الأصبع في قنينة الحبر البنفسجي بطريقة ايروتيكية هي عملية عكست حقيقة الناخب والمنتخب ونوعية التعامل بين بعضهما بعضا. في هذه اللوحة من التكثيف والاختزال ما يجعل زمن الحدث قصيراً جداً يكلف المخرج مطّه زمنياً ليتلاءم مع حالة العرض على الخشبة. كان على المؤلف أن يبتكر اسما آخر غير اللوحة التي شاع استخدامها واستهلكت في بعض الفنون الأخرى كالغناء والرقص والرسم. واللوحة كعمل دراماتيكي صامت لم تهتم بالأفعال باعتبارها جوهر الشغل المسرحي الصامت.

أما اللوحة الثانية فقد اتسعت فيها رقعة النص واتخذت لها أكثر من فضاء واحد وكان فضاؤها الأول (حديقة) وفضاؤها الثاني (ضفة نهر) والفضاءان معا مختصران من صورة مصغرة الى حركة أصغر لا تستهلك من الزمن إلا قليله، والحركة المركزية فيها تتمثل في صفع الطفل على خده الأيمن فالأيسر ثم على جبهته فيقع الطفل ولم يستمر في تكملة لعبه. الحركة اعتمدت التكرار المتجانس في الفضاء الأول وفي الفضاء الثاني أيضاً، سبقتهما جملة إرشادية تقول: "يشهد الطفل تحولا فيصبح رجلاً" ومع تحوله تضربه اليد على رأسه ثم على صدره ثم على قدميه. تنهضه وترقص فرحا على إيقاع موسيقي ثم تقيد يديه الى الخلف. تطلق عليه الرصاص فيسقط في النهر الذي بدأ يتحول الماء فيه الى اللون الأحمر، لون الدم. هذا التحول في اللون هو واحد من التحولات الانتروبية التي وقعت تحت تأثيرها لوحاتُ المسرحية.

وتتكرر هذه الحركات وأخرى غيرها فيما تبقّى من اللوحات حتى يكتمل النص الإيمائي كلّه. لقد امتازت اللوحات باستقلاليتها عن بعضها بعضاً ولكنها ارتبطت أيضا برباط الفكرة الاستلابية الواحدة. لقد استنفدت اللوحات طاقتها على التحول وملائمته مع مكونات الحياة بشكل عام وبدت انتروبيته غير كافية لاستيعاب تلك التحولات. هذا فضلا عن استغناء النص كاملاً عن قصة وحبكة واضحتين.

على العموم قدم لنا علي العبادي تجارب منتزعة من الواقع المعيش بكل تناقضاته والتواءاته وديماغوغيته بطريقة رمزية، وأراد عن طريق السخرية كشف المستور، وما خفي وراء السطور، وإسقاط الأقنعة عن الوجوه التي كستها الوحول، وملأت جوفها المياه الثقيلة الآسنة. وقد قام بكل هذا ببراعة ومهارة تحسبان له ككاتب مسرحي مبدع.

أستراليا 2020