لماذا يرقب النحات ساعته في مسرحية منعم سعيد؟

صباح الأنباري

من العنونة (النحات يرقب ساعته) يتضح لنا أن الشخصية الرئيسة الأولى في هذه المسرحية هو (النحات) ومن العنونة أيضا نعرف أن النحات هو من قام بفعل المراقبة، وفعل المراقبة وقع على (ساعته) التي يمتلكها هو لا غيره ولا غيرها، هو يراقب زمنه من خلالها وبعد دخوله الى المسرح الذي سبقه إليه الرجل الآلي المغطى أو المعلّب داخل مكعبات كارتونية والذي يصوّب مسدسه نحو الساعات لإسقاطهن واحدة تلو الأخرى كي (يتحكم بالزمن) أو في محاولة له لإيقاف الزمن الآخر (زمن النحات) عند نقطة ما. تسقط الساعات عليه عدا تلك المعلقة في وسط المكان (التوقيت المركزي) وهنا يحاول الروبوت (بلصوصية) تغيير اتجاه السهم الذي يشير إلى اتجاه الساعات (اتجاه الزمن، وهو اتجاه أفقي) إلا أن السهم يفلت من يده ويرتفع مختفياً في الأعلى. يختفي الرجل الروبوت وراء أحد الكواليس فيدخل النحات (الشخصية الرئيسة) التي تضع للعالم لبنات الحضارة وتنحتها، وبدخوله تسقط الساعة المركزية فيقفز مذعوراً. يقوم (بتحريك الزمن) عن طريق إعادة الساعات الى محلات تعليقها، ويغير السهم الى الاتجاه الصحيح لكن السهم يأبى ذلك فيختفي في الأعلى وتغلق الأبواب في وجهه بأي اتجاه يقصد فقدره أن يظلَّ في مركز الحدث وحيداً. تأتي سيارة مسرعة تدهسه فتلصقه بالجدار وفي هذا دلالة على وجود قوة رديفة مناوئة متضامنة مع الرجل الروبوت تعمل كل ما من شأنه إلغاء وجوده ضمن زمنها الافتراضي، وهذا يعني وجود زمنين يريد كل منهما الحفاظ على ديمومته من خلال الصراع الدائر بين شخصيتين متنافستين من اجل زمانيهما. وبعد هذا الصراع التنافسي (يعود الناس والروبوتات مره أخرى يطاردونه) مع انهم لم يقوموا بفعل المطاردة حتى يعاودوها ثانية وهذا بحد ذاته شكل إرباكا أولياً في النص مثل وصف ملامح الروبوت وقلقه كما جاء في النص:(بان عليه القلق والتخبط كما يتضح من ملامح وجهه الذي يعتصره طوال فترة جلوسه وكأنه يقلب مجموعه أفكار مستعصية) مع أن ملامحه كانت مغطاة بالعلب الكارتونية حسب وصف النص أيضاً: (يرتدي ملابس تشكل مجموعة من المتوازي مستطيلات والمكعبات الكارتونية تغطي كل جسده حتى رأسه الذي تتخلله ثقوب العيون) ولم يشرْ الى رفع أي من هذه المكعبات ولو مكعب الرأس على أقل تقدير لنرى ملامحه مما ولد إرباكا آخر عن كيفية مشاهدة ملامحه وهي مغطاة.

اغلب الظن أن الكاتب بوصفه مخرجاً لأعماله فانه عوّل في ذلك على ما تضيفه العملية الإخراجية من حركات تكميلية تعينه على كشف الرأس (رفع المكعب) ولكن عليه ألا ينسى في هذه الحالة أنّ النص سيكون مقروءاً على الورق قبل أن يكون معروضاً على الخشبة فنحن نقرأه الآن ونكتب عن قراءتنا له كنص معروض للقراءة حسب. ولم يتسن لنا مشاهدة العرض الذي قدمه منعم سعيد في أحد شوارع مدينته على ما يبدو من خلال الصورة التي نشرها في صفحة (مسرحيون). على الفيسبوك

هروب الرجل الروبوت يعني هربا من فعل قام به وهو يعرف انه فعل غير مرغوب فيه (unwanted) ولا يريد أن يرى نتائجه أي شخص آخر، ولكن هروبه لا يعني اختفاءه الى الأبد لأنه سيعاود الظهور مرة أخرى ليكمل ما بدأ به من تأثير سلبي على الوقت (الزمن).

يبدو النحات مخذولاً خائباً ضعيفاً لا حول له ولا قوة، يتجمع الناس حوله لانتزاع ساعته (رمز ارتباطه بالزمن) وبطريقة ما غير واضحة يحصل عليها الرجل الروبوت الذي يجلس بين الناس على مقعد المرحاض ويسحب بيده خيط السيفون المتدلي من الأعلى في دلالة واضحة على فساد المكان ونتانة بيئته (المشاهدين) واحتجاجه على المكان والزمان غير المناسبين. الروبوت يجد ساعة النحات في جيبه بكيفية ما لم يفصح النص عن طريقة انتقالها إليه فيصيبه (الذعر والتشنج) وبغضب وحقد وقوة يلقي بالساعة على الأرض ويدعسها بطرف قدمه الأمامي ثم يخرج متوعداً ومنذراً، وفي ظنه أنه تخلّص من زمن النحات تماماً، وانه سيقوم بهذا ثانية إن تطلب الموقف ذلك. يدخل النحات فيجد ساعته مهشمة يحاول تصليحها وضبطها لكنه يفشل فيراوده شعور باليأس. يطرق بابا أمامه ولا أحد يفتح له، أو يمد يد الساعدة إليه، يطرق بابا في الجهة المقابلة ولا يفتح له أحد، تتكرر العملية مع عدد من الأبواب الأخرى والأخرى حتى ينهكه التعب فيسقط محبطاً. يأتي الروبوت واللص يقفان على جسد النحات ويرفسانه بقوة ثم يخرجان يحاول النحات الخروج لكن باب وهمية تصفق بوجهه، يشير النص الى (رجل المكعبات يتخذ مكانه في مقدمة المكان وصاحبه رجل الكرات واللص الآخر والتمثال في الوسط) ولا نعرف من أين جاء صاحبه رجل الكرات هذا مع أن النص لم يشر إليه فهل هبط من السماء أم ظهر من خلال سحابة أو دخان؟ لقد تركنا النص أمامَ حيرةِ شخصيةٍ جديدة أربكتنا. يدخل رجال الإعلام ليصوروا ويحاوروا رجل الروبوت ويعملوا ضجة إعلامية كبرى باعتباره من نحت التمثال، وخلال تلك الضجة وانبهار الحشود التي تجمّعت حوله يتحرك التمثال بطريقة سحرية عجيبة فيبتعدون عنه بينما يحاول الروبوت إيقافه. ينزل التمثال من على المنصة ويهاجم الرجل الروبوت فيهرب وتهرب معه الجموع فيجلب رجل الروبوت مطرقة يهشمه بها، معتقداً انه انتهى وان النحات استسلم لقدره فابتعد دون رجعة وان زمانه (زمن الروبوت) قد بقي وحده المتحكم بدورة الأشياء لكن النحات يعود وبعودته يرمم التمثال من جديد ويضعه على منصته فتعود الساعة لتكتكاتها والبندول لحركته حتى تخفت الإضاءة بينما يستمر البندول بالحركة.

المسرحية سعت إلى الكشف عن حالة الصراع الدائر بين عالمين: عالم جديد استلابي قائم على التقنيات الحديثة ممثلة بالروبوت، وعالم حجري متحضر قائم على فن تحويل الحجر الى رموز بشرية ممثلة بشخصية النحات. وعلى الرغم من عدم وجود تكافؤ بين القوتين، عدة وعدداً، إلا أن القوة الثانية (قوة الخير إن جاز التعبير) تنتصر على القوة الأولى (قوة الشر) لتنتهي المسرحية بهذا الفوز العظيم الذي تحقق على الورق ولم يتحقق بعد في واقع الحال وهذا هو السبب الذي جعل النحات يستمر في مراقبة ساعته الى ما قبل النهاية.

ومع إقرار الكاتب أن نصه هذا من جنس البانتومايم تحديداً إلا انه اقترب كثيراً من تكنيك (المسرحيات الصوامت) وربما بسبب هذا صار النص أكثر قبولاً من الناحية القرائية على الصعيد العام، وغير مقتصر على نخبة متخصصة في البانتومايم على الصعيد الخاص.

(النحات برقب ساعته) تجربة ينبغي ألا تراوح في محلّها، وأن لا تبقى حبيسة قوانين البانتو الصارمة، وأن تتقدم بقوة الى الأمام ما دامت تمتلك مقومات العمل الإبداعي الخلاق.

 

العراقية/ الأسترالية ع 744 ت 13/ 5/ 2020