أنطون مزاوي 

"نساء شرقيات"

قراءة تأويلية في معرض الفنان الدمشقي أنطون مزاوي

صباح الأنباري

   في محاولة أخرى للتأكيد على البورتريه (صورة الإنسان) كلغة فنية فوتوغرافية، قدم الفنان أنطون مزاوي تجلياته الفنية في فضاء حوار بصري مع (نساء شرقيات) من خلال تناغم الملامح والجسد مع إيقاع الحالة والمكان، وعبر مفردات ضوئية لبعض التراكيب المتواترة في الموروث الحياتي الشرقي(*) مجسدا رؤيته الفنية والفكرية عن النساء الشرقيات، وملقيا أضواءه الخاطفة على عوالمهن المظلمة، ودياجير حياتهم ليكشف في لحظة رؤيا نجح في اقتناصها من الزمن، وثبتها على لوحه الحساس (الفلم) ليقدمها لنا جاهزة في لوحة (صورة) نتلقاها بكل ما فيها من مشاعر وأحاسيس، مشاعر الشخصيات المصورة ومشاعره كفنان فوتوغرافي حاول التناغم مع اللقطة من خلال الزاوية التي يختارها، واللحظة التي يقنصها، والموضوعة التي يثبتها وهو مثل شاعر مبدع أصيل يعيش في الألفية الثالثة يكتب القصيدة الحرة وقصيدة النثر، ولكنه يجد نفسه منساقاً من حيث يدري ولا يدري الى القصيدة العمودية لا لقصور في قصيدة النثر أو القصيدة الحرة ولكن لقدرة الشعر العمودي على احتواء الموضوعة التي تتسم بإيقاع محدد، ووزن رتيب وسحنة ماض داكنة لأن التعبير عنها سيكون بهذا الشكل اشمل وأكمل وأدق.

أقول كما الشاعر، أراد أنطون مزاوي أن يعبر بالأسود والأبيض تاركا كل التدرجات اللونية والقزحية وما تنطوي عليه من شفافية وبهجة وسعادة وفرح فردوسي وكأني به يريد أن يؤكد ظلامية النساء الشرقيات وسوداوية حياتهن.

هذه العودة الى الجذور، الى الماضي، الى الكلاسك الفوتوغرافي تبررها طبيعة الموضوعة التي اشتغل عليها مزاوي وجوهرها ما أراد إيصاله الى المتلقي، والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هل ظل الفنان أنطون مزاوي أسير الماضي والتعبير الكلاسيكي القديم من دون إدخال مفردات معاصرة على ذلك التعبير؟ ويأتي الجواب من بعض صوره رفضاً وتأكيداً على انه اشتغل بروحية الفنان المعاصر، على التكوين الهندسي والخطوط الهندسية المتعامدة والأفقية أو كليهما موظفاً إيحاءاتها وتشابكاتها في عملية تفعيل ولوجه الى داخل الشخصية من خارجها، من المحيط الذي زرعت فيه تلك الشخصيات أو وجدت فيه بمحض الصدفة أو ساقها إليه قدر مجهول وعلى الرغم من أن الفنان أنطون مزاوي لم يسمِّ اللوحات (الصور) بأسماء أو عناوين خاصة بها، ولم يضع عليها أرقاما تميزها لأنها من وجهة نظره تصب في مصب العنوان الرئيس (نساء شرقيات)  فإننا سوف نعمد الى الإشارة الى تلك اللوحات من خلال تكويناتها وتسلسل عرضها لنسهل على المتلقي تفحص تحليلنا لها وتناولنا لموضوعاتها وما يتعلق بها من الناحيتين الفنية والفكرية، وعلى الرغم من اختلاف المواقف (موقف الشخصيات المصورة) والزوايا (زوايا التصوير) والأمكنة التي اشتغل على تناغمها مع الشخصيات كخلفيات معبرة عن دواخل تلك الشخصيات فان اللوحات لم تقدم عرضاً صوريا كافيا لهذا الجنس من النساء وهنا نتوقف أو يوقفنا السؤال عما اذا كانت كل النساء الشرقيات يرتدين العباءة والحجاب كما ظهرن في أغلب لوحات المعرض، أليست المرأة الشرقية المتحررة تصلح لموضوعة كهذه ولماذا التركيز على الناحية الدينية (الإسلامية والمسيحية) في الوقت الذي تقوم به الشرقية بأكثر من دور؟ هل الغرض هو التأكيد على تبعية المرأة كما في لوحة مزاوي (رجل معمم تتبعه بآلية واستسلام امرأة مجللة بالسواد) أم أن مزاوي أراد أن يقول إن المرأة الشرقية ما هي إلا كتلة من سواد هو ظلام حياتها وديجورها الدائم كما في لوحة (المرأة التي لا نرى منها بسبب العباءة السوداء إلا يدها)

لنتفحص ثانية موضوعة نساء المزاوي الشرقيات ونكشف عن مميزات هذه الموضوعة من خلال مراجعة تأويلية بانورامية لبعض مفرداتها، بالقدر الذي تسمح به مساحة الكتابة في صحيفة.

في النقطة الأولى يبدأ مزاوي تقديم رحلته الفنية الشاقة التي ستدوم لأربعة أعوام متتالية هي أعوام ما بعد معرضه الشخصي الأول يتوقف خلالها في ثلاثين محطة (صورة) رحلة يبدأ بها من طفولة شرقياته فيقدم لنا طفلة تجلس ببراءة على كتلة صخرية وهي ترى الى بقعة على الأرض (البلاط) التي بدت بسب الظل الساقط عليها مثل بركة ماء (كدلالة على الخصب) وهي تحاور هذه البركة حوارا صامتا تتجلى بعض ملامحه في خلفية الصورة التي ضمّت امرأتين موشحتين بالسواد تتبعهما طفلة ربما كانت هي نفسها منقادة خلفهما لتتحول بعد حين الى شرقية أخرى. في اللقطة الثانية تتقدم الطفلة لتحتل مقدمة الصورة وتظل المرأة خلفها في العمق والاثنتان معا محتجزتان خلف قضبان حديدية متعامدة على أسفل الصورة ومشتركتان في ذات المصير الذي يربطهما بطريقة تراجعية توصل بين الماضي (المرأة المتقدمة بالسن) والمستقبل (الطفلة البكر الصغيرة) ثم تكبر هذه الطفلة في اللقطة الثالثة ترتدي لباس الشرقيات الأسود أيضا تقف قبالة المرأة الجالسة المتعبة وتحاورها في مونولوج داخلي صامت يشي بالرغم من صمته بما خفي من هموها الشرقية وإذ يتقدم العمر بهذه الفتاة وتسير على قارعة همومها نحو ظلمة أكيدة تتكرر التجربة نفسها في دائرة مغلقة تفضي نهايتها الى البداية.

في اللقطة الرابعة يضعها الفنان أنطون مزاوي داخل عدد هائل من القضبان المتصلة بمساقط ظلالها على الأرض مكونة من تشابكاتها مع تلك الظلال وتقاطعاتها معها قفصا يحبس المرأة مموها منفذ وسبل خروجها وانطلاقها، ولا يترك لها غير سلم لا نعرف الى أي عالم مجهول تفضي درجاته المتقاطعة مع مساقط الصورة الشاقولية حتى عندما تشير بيدها اليسرى الى جهة تقع خارج المكان (الصورة).

 

في اللقطتين الخامسة والسادسة يتضح لنا مصير المرأتين الأولى تستسلم للشيخوخة وهي تضع عكازها الى جانبها حيث يجثم بشكل هندسي معقد نافذة عمرها المغلقة على جدار الزمن مثل كائن خرافي هرم والثانية تحمل طفلتها وتغادر الى عتمة لا قرار لها مستسلمة للرجل في اللقطة السابعة ليقودها الى حيث يريد طائعة صاغرة. وتتراوح بقية اللقطات بين الكشف عن حالات أخرى مختلفة لهذه الشرقية المستكينة وبين أفعالها الدينية والدنيوية مع المرور السريع المتعجل على مثيلاتها من المتحررات اللائي يظهرن في بعض صور المعرض بملابس عصرية مختلفة، وهموم مختلفة.

لقد استطاعت بعض لقطات المعرض أن تحقق نجاحا كبيرا في خلق حوارها الداخلي(داخل الصورة) وحوارها الخارجي (خارج الصورة) وفرضت علينا كمتلقين نوعا من التأمل والتخاطر الذاتي بذهنية عضوية خالصة فاعلة استطاعت من خلال تفعيل ذلك الحوار البصري الذهني المتناغم مع روح النساء الشرقيات أن تقرينا من جوهر موضوعهن المطروح فنيا، فاذا كنا قد اكتفينا بتناول هذه اللقطات دون غيرها فلأن ذلك متأت من طبيعة المادة التي تناولناها في هذه السطور وحاولنا تأكيدها وتوضيحها ولم يكن بسبب ضعف فني فيها أو خلل في قدراها الأدائية أو قدرتها على الإيصال والاتصال.

طوبى لهذا الفنان الفوتوغرافي القدير المثابر الذي استطاع أن يمتعنا ويقدم لنا معرضه الشخصي الثاني بجهود شخصية خالصة وبحتة.

....................................................

(8) مقتطفات لأنطون مزاوي وردت في دليل المعرض