صدى الصمت والسيناريو الممسرح

الى روح المسرحي المبدع قاسم مطرود في ذكراه التاسعة

قبل عنونة مسرحية (صدى الصمت) وضع الكاتب المسرحي قاسم مطرود (1961-2012) إيضاحين مهمين هما: كوميديا الأحزان، وسيناريو ممسرح أراد في الإيضاح الأول لفت انتباه القارئ الى أن الفحوى العام للنص مبني على عنصر الكوميديا السوداء أو (شر البلية ما يضحك) وأراد من الثاني لفت الانتباه الى أن هذا النص ليس نصاً مسرحياً خالصاً بل هو في حقيقة الأمر مأخوذ عن سيناريو قام بمسرحته، ويظلُّ السؤال هنا من هو السيناريست الذي كتب السيناريو قبل كتابة النص المسرحي؟ وأغلب الظن أن قاسم مطرود هو نفسه كاتب النصين معاً (المسرحي والسيناري) وهو صاحب تجربة في هذا المجال الفني فقد سبق له وان كتب سيناريو مسرحية (حوار المصاطب) ربما بدافع تحويلها الى فيلم سينمائي، أو عمل تجريبي، أو دوافع أخرى لم يفصح عنها. ومن خلال معاينتنا لهذا النص المسرحي وجدنا انه يتبع أسلوباً هو أقرب ما يكون لكتابة النص المسرحي الصامت فهو عبارة عن جمل فعلية، في الأعم الأغلب، تصف الفعل الحركي لشخوص المسرحية مثل:

(يدخل الجمهور عند اشتعال الإشارة الضوئية باللون الأخضر

يتابع الرجل الأول وهو جالس على المصطبة حركة الداخلين وكأنهم سيدخلون لمنطقة الحافلات.
يمسك بيده ورقة يكورها ويحولها من يد إلى أخرى)

كتب هذا النص عام 2008 ونشره عام 2009 في موقع (الناس) مع عدد من نصوصه التي لم تتضمنها مجاميعه المسرحية المطبوعة قبل عام 2009 أي قبل وفاته بثلاث سنوات تقريباً وربما لم ينتبه حينها الى أننا قد بدأنا تجربتنا الفريدة في كتابة النص المسرحي الصامت منذ عام 1997عندما نشرت جريدة الثورة البغدادية أول نص مسرحي صامت لي، ثم شاعت هذه النصوص على صعيد الحركة الفنية عربياً، وربما حدث هذا بسبب عدم اطلاع الأدباء المغتربين على ما ينشر داخل وطنهم الأم لأسباب كثيرة نحن في غنى عن ذكرها الآن.

نعود الى نص (صدى الصمت) وعنونته لنشير الى المعنى الذي أراد إيصال فكرته الكاتب قاسم مطرود والمتمثل بالصدى الذي هو ترديد لكلام صائت غائب عن النص ولكنه يمارس حضوره من خلاله أيضاً، رب قائل يجزم أن لا صدى للصمت وهو محق من الناحية الفيزيائية فليس للصمت من صدى حتى تحضر اللغة المنطوقة المصوتة وهنا يتحول الى رمز يدل على حالة سادت المجتمع في مرحلة النظام الشمولي الذي عمل على قمع الأصوات الحرة وغير الحرة، وعلى تكميم الأفواه فلم تنطق إلا صمتا كان مسموعاً وله صدىً واسعا في الفضاء الاجتماعي للأغلبية الصامتة. لقد جاء الصمت بديلا لهذه الأغلبية التي شهدت عقوداً من الصمت الناطق الذي يخفي وراءه الكثير الكثير من المسكوت عنه قسراً.

يقوم الصراع في لعبة الصمت بين امرأتين هاربتين من الجحيم المستعر لبلديهما بعد أن خاض البلدان حرباً طويلة استنزفت الغث والسمين من الطرفين، وحصدت آلاف الأرواح البريئة وغير البريئة حارقة ملايين الدولارات ومدمرة البنى التحتية لكليهما. المرأتان تلتقيان مصادفة في مكان واحد محايد كلاجئتين تدخل الثانية بيت الأولى وهي جارتها بعد سماعها أصواتا مقلقة ولا تعرف إحداهما لغة الأخرى فلا صلة بينهما غير الجيرة التي وجدتا نفسيهما منساقتين إليها مصادفة أو قدرياً لا يهم فالمهم هنا هو تواجدهما كلاجئتين لهما من الهموم ما لا تقوى الجبال على حملها فقد فقدت كلٌّ منهما ابنها في تلك الحرب التي كانت لهواً للقادة وجحيماً على الناس، ولم يسلم منها الزرع ولا الضرع.

تقود اللعبة المسرحية شخصية الدراماتورغ (Dramaturge) والتي أبعدها قاسم مطرود عن دورها التقليدي في الإشراف كخبير مسرحي، وتزويد كادر العمل بما يحتاج إليه من التنسيق والمعرفة اللازمة للقيام بأدوارهم على أكمل وجه، وقرّبها من مهمة الممثل المسرحي داخل النص تاركاً لها حرية التنقل واختيار المشاهد وتسميتها واختيار البيئة الملائمة للمشهد (الديكور المسرحي) فهو يدير اللعبة من داخل المسرحية وليس من خارجها. وإذا عدنا للنص نجد أن هذه الشخصية لم ينبع دورها من واقع أرضي تقليدي بحت بل هي قادمة من واقع علوي (من السماء) تحمل معها قدرة التلاعب بالمصائر وتوجيهها الجهة التي تشاء.

(المسرح مظلم، ومن الأعلى تنزل كرة كبيرة مشبكة وفي داخلها يجلس الدراماتورغ، جلسة بوذية وكأنه يؤدي اليوغا، يحمل بيديه شمعدان يحتوي على العديد من الشموع المشتعلة التي نعتمد على أضاءتها فقط، وقبل أن تستقر الكرة على الأرض وهو معلق يبدأ بالحوار)

أي أن الحوار الافتتاحي للمسرحية يهبط من فضاء المسرح، من أعلى نقطة فيه، من سمت السماء، ليمارس دوره القدري على الأرض (على خشبة المسرح) ومن خلاله أيضاً يُطْلع الكاتب قاسم مطرود متلقيه على سر اللعبة التي يريد منها الإفصاح عن تجربته الجديدة. يقول على لسان الدراماتورغ:

إن المؤلف يحاول دائما التجذيف ضد التيار

وهذه جملة يجب الوقوف عندها ومعرفة ما إذا كان المؤلف قد قصد منها الكشف عن سره الذي لم يبح به في نصوصه السابقة ربما كان في انتظار شيوع نصوصه والتثبت من تجربته ليعلن بعدها طيرانه خارج السرب الذي أتى أكله في مسرح العبث واللامعقول وان لم يكن هذا المسرح من مكتشفاته المسرحية. وبعد ذلك يتخلى الدراماتورغ عن دوره في تمثيل الحدث أو التأثير عليه متحولاً الى مجرد ناقل حرفي لما يملى عليه من المؤلف على وفق رؤيته الجديدة للنص المسرحي:

لا بد أن اقرأ عليكم ما أوصاني به المؤلف (يخرج ورقة من جيبه.. يقرأ): من الضروري أن اكتب توضيحاً لهذا النص..

من هذا تتضح الغاية الأولى للمؤلف وهي التبشير بنص تجريبي جديد، يجترح له نظرية ذات خصوصية وتفرد في إدارته، وأسلوب تجريبي جديد بشر به من خلال شخصية الدراماتورغ الناقل لهذه الآراء، والرابط بين غاياتها لتحقيق حلم الكاتب بنصوص يفترض ابتكارها واختلافها عن السائد والمألوف.

بعد قراءة التوضيح تبدأ عملية الصراع بين المرأتين (الأولى والثانية) ويتشكل هنا الموقف الكوميدي المتأتي من عدم فهم كل واحدة منهما للغة الأخرى إذ يبدو ردهما عن أي سؤال كما لو أن إحداهما أو كلتاهما مصابة بالجنون الجزئي يقول العلماء إن إجابات المجنون غير المنطقية متأتية من كون ما يطرح عليه لا يقع على الجزء المسؤول في دماغه عن إجابة هذا السؤال أو ذاك، بل يقع على جزء مغاير آخر يعطي إجابة لا تتلاءم أو تتوافق مع ذلك السؤال مما يثير سخرية متلقيه من العقلاء. من هنا منبع الكوميديا والمفارقة التي قصدها قاسم مطرود يقول على لسان الممثلة الثانية:

عليكم معرفة مجريات الحدث والمفارقات التي تحصل بيننا

 ونظرا لشدة تأثير المأساة التي لحقت كلا المرأتين لذا وسم الكاتب نصه بـ(كوميديا أحزان) كما ورد في العنونة، وسوداء كما وصفتُها، أو (Black comedy) كما تعارف على وصفها سائر المسرحيين مذ أطلق هذه التسمية أول مرة الكاتب السوريالي أندريه بريتون (André Breton) عام 1939.

لقد عرفنا المأساة المشتركة لهاتين المرأتين، وفقدهما لولديهما في الحرب التي دارت رحاها بين بلديهما لسنوات طوال، ومعاناة كل منهما كلاجئتين، والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو وماذا بعد ذلك، هل ثمة ما يضاف الى هذا المعنى الشائع في كلا البلدين؟ ومن اجل الإجابة الأكثر دقة علينا الاستمرار في التوغل الى أعماق النص لنكتشف أن المعنى وراء أحداثه كلّها هو إدانة الحرب أي حرب ضروس تأكل اليابس والأخضر، ولا تترك خلفها غير العار والدمار وتهديم البني الفوقية والتحتية على حد سواء، وتحييد العلاقات الإنسانية أو استبعادها عن طريق إشاعة رغبات الحقد والعداء، وشهوة الانتقام بدل المحبة والسلام والنبل الإنساني.

تجدر الإشارة هنا الى أن الدراماتورغ لم يقم بالتوضيح المطلوب لما سيحدث لوحده في مشاهد المسرحية حسب - سأقوم بالتعليق والإيضاح، وأحيانا أوقف المشاهد وكأنه شريط سينمائي- بل قامت بهذا الدور أيضاً كلا الممثلتين، فتحدثتا الى جمهرة المتلقين من القراء حديثاً مباشراً كما في الحوار الآتي:

الأولى: لكنه حدث ويحدث هنا أو هناك

الثانية: لذا نحاول مسرحته قدر المستطاع

وهكذا رأينا تحكماً سافراً من لدن شخصية الدراماتورغ حتى في رضوخ منفذ الإضاءة لأوامره وكثرة استخدامه لأفعال الأمر فقط ناهيك عن تدخله في العملية الإخراجية. أما الكرة التي هبط بوساطتها من السماء فانه أعطى الإشارة برفعها الى الأعلى لتستقر في المكان الذي نزلت منه الى الأرض. وربما ستظل معلقة ومنتظرة انتهاء دوره على الأرض (على خشبة المسرح) لتعيده الى السماء في نهاية المطاف مثلما أتت به في بدايته. وثمة أمر لا بد من الإشارة إليه هو رغبة الكاتب في اتباع نصه أو عرضه أسلوبا يقترب من الملحمية بعض الشيء فهو يخبر القارئ في حالة القراءة والمشاهد في حالة العرض أن ما يقوم به الممثلون على خشبة المسرح إن هو إلا تمثيل لا غير وسنجد كيف يقوم الممثلون بتأثيث المكان وتغيير قطع الديكور ونقلها بشكل مباشر أثناء العرض وتظل اللمسة الأخيرة في هذا حكراً عليه وكأنه مخرج المسرحية فضلاً عن كسره الإيهام كلّما اندمج أو توحد الممثل مع الشخصية التي يمثلها عن طريق التعليق الجانبي أو بعض الأصوات التي يقلدها كمؤثرات فنية للحالة التي يمر بها الممثل.

تنتهي المسرحية بانتحار المرأة الأولى بعد أن تتعرى من كل ملابسها لتغادر الدنيا مثلما قدمت إليها أول مرة فهي لم تأخذ من الدنيا شيئا كما أن الدنيا لم تعطها شيئا فقد جاءت إليها عارية وغادرتها عارية أيضاً أما المرأة الثانية التي شهدت انتحار الأولى فقد لملمت ملابس المنتحرة وعادت بها الى البيت ويظل الرجل المعاق على كرسيه منتظرا سيارة الإسعاف التي تصل أخيرا وبهذا حقق قاسم مطرود من خلال هذا المعاق صورة الذكورة الغائبة أو المغيبة قسراً  والتي كانت طوال المسرحية أشبه بجثة هامدة ليس لها أي تأثير يذكر على ما افتقدت إليه المرأتان معاً، وبهذه النتيجة يكون الجميع قد عانى من ويلات الحرب وما بعدها وكان لها أثرا مدمرا على كل الشخوص اذا استثنينا شخصية الدراماتورغ المسلّط على رقاب الناس (الممثلين) من قوة عليا متحكمة بكل المصائر والدوائر. وبهذا النص يكون قاسم مطرود قد جسد أهوال الحرب التي تناولها سابقا في نصوص لا تقل أهمية أو رقيا عن (صدى الصمت).

*