اللعب بلغة الشعر في قصيدة جلال زنكبادي

صباح الأنباري

)لربما هي الخاتمة ما وراء الصفر(

تبدأ قصيدة الشاعر جلال زنكبادي عنونتها (لربما هي الخاتمة بعد الصفر) بحروف زائدة تزحلق أثر الكلمةِ وتبطل عملها. والأصل فيها (ربَّ) وهي حرف جر شبه زائد متخصص بالأسماء فإن أضيفت

) مع المخاطب الحاضر (الخاتمة) للتأكيد على سلامة القصد فيبدو لنا تأرجح العبارة بين الاحتمال والتوكيد، بين ربَّ (من المحتمل) وبين (هي الخاتمة) المؤكدة والموصولة عن طريق (ما) بالظرف المضاف للرقم صفر. الاحتمالات كلّها تقع في منطقة ما وراء الصفر غير المحتمل إذ لا قيمة لهذا الاحتمال المقترن بالعدد الخارج عن القيمة وهي منطقة متصلة بالاحتمالات واستكناه المستقبل اشتغل عليها الشاعر في زمن اطلق عليه بعد جمع حروفه (مستقبلئذ). وعلى هذا الأساس يبدأ زنكبادي قصيدته بالصفر المكرر:

 له (ما) فانها تبطل تخصصه بالأسماء وتسمح له بالدخول على الأفعال. أما (اللام) في أول الكلمة فهو حرف زائد أيضاً يمكن الاستغناء عنه من دون أن يلحق ضرراً بالمعنى. ثم يأتي ضمير المخاطب الغائب (هي

 

.......وبرغم كثرة ما

ألّف السّـلف والخــلف

ههنا بلغ الإملاءُ

في (هكذا شـطح ...) في صيف

 

سنة ثلاث وتسعين وتسعمائة وألف                                                                                                                                                                                                                                   

فالصفر المكرر هنا يشير إلى كم هائل من المؤلفات التي وضعها السلف وأضاف عليها الخلف حدَّ الاشباع والامتلاء ولكن منذ تاريخ القصيدة (1993) يقفز الزمن إلى ما بعد ألف عام مفترضة ولكنه يظلّ محتفضاً باسم المكان (كردستان) وصفته (المؤنفلة) حيث يبدأ الشاعر اللعب لغوياً فيصوغ من اسم (الأنفال) صفة جديدة هي (المؤنفلة) أي التي تحولت إلى غنائم غزوات متعاقبة. من هذه الصفة التي كلّف الشاعر نفسه البحث عنها لا حباً منه بالتلاعب اللغوي ولكن رغبة منه في إيجاد المفردة الغنية بمعناها ومغزاها والتي تختصر له صفحات من السرد الملحمي الطويل. ومثلما يلعب الشاعر باللغة فانه يلعب بالوجود والعدم:

كوكبٍ لمْ يبزغْ بعدُ أو

لمْ يبقَ له أثر........والله أعلم

اللعب هنا بُنيَ على جزم فعلين تضاربا في المعنى وتناقضا في المغزى: الأول "كوكب لم يبزغ بعد" والثاني وهو الأول نفسه " لم يبق له أثر" وقد حدث ما حدث بشكل أو بآخر وبرواية قد تطول وتقصر على حسب ما ورد من النقاط المكررة (........) وصولاً إلى ترك الإخبار عنها بترك علمها على الله "والله أعلم". أما المقدمة/ الخاتمة فهما لعب فني آخر زاوج بين الاثنتين وأعلن عن مغايرتهما للمألوف، ومخالفتهما للسائد والمعروف وهذا هو جوهر ما بنيت عليه ملحمة زنكبادي التي:

ما فتئت تخالف قوانين السير.

في إمبراطوريات دناصيرٍ

لاحظ كيف تجتمع لدى الشاعر كلمتان قديمتان مركبتان من امراطوريات ودناصير بطريقة تشي بما وراء كلّ منهما أو جوانيتيهما بعد إن رأى هول ظلم الأباطرة والدكاترة الجدد على الأرض. والرؤية لم تكن حبيسة الماضي ولا رديفة الحاضر حسب لأنها ابتدأت من المستقبل:

فمنذ المستقبل راحت

سمائي المصــــــــلوبة

تندثر؛

وكأني بالشاعر يريد ربط ظلم الماضي بظلم المستقبل العابر من فجوة الحاضر وفي هذا تضخيم لحجم مأساته الانسانية التي ابتدأت وتعملقت حتى بلغت حدود المستقبل البعيد "بعد الف عام أخرى". فهل كانت ملحمته عامة شاملة؟

إنه يتنقل بحرية بين ما هو خاص وما هو عام فهو يحسد بشكل خاص حتى (سيزيف) لأنه يريد الوصول لنفسه وقصيدته بسعي عبثي لا يتيح له بلوغهما على الرغم من أنه يفكر مغمغماً:

بلحن " أفكر؛ إذن أنــــــا ذات "

والذات تكشف عن نفسها بنفسها حين تبالغ في الشكوى من ضغوط الظرف المحيط، والاحباط جراء عدم الاهتمام، والانطواء المتولّد من اضطراب الواقع المعيش، ومن ثم صبّ اللعنات عليها بلا اكتراث، وعلى المحيطين بها بلا رحمة فهو يطلق على خصومه الالداء تسمياته المتهكّمة دناصير، ومومياء، وسيركات متلألئة، وقمامات، وخراتيت، وخنازير. إن قسوة الظرف وبشاعته فرضت عليه هذا النوع من التهكم الصادم المبرر باستحقاقهم العادل من وجهة نظره الشخصية.

فمنذ قرون وأوثانكنّ الفاطســــة

تســــــــفســــــــــط

إنه يقف خارج دائرة السفسطة التي طاردته لوأد روح قصائده المستقبلية وهو الماضي قدماً نحو جلال النور أو جلالستان الذي ما اقتنص روحه أيُّ غربال. وهذه هي آيته التي نسخت آياتهم وطلسمته مثل ملحمته المضادة التي أغوت أسلافه القدامى. في هذه الملحمة أجد الشاعر مفتوناً بذاته كالمتنبي الذي كان يعرف أنه المميز بين الشعراء وكل الشعراء يتمنون لفّه بأكفان ملغومة أو أي شيء آخر يزهق روح قصيدته الملحمية فتجلجلُ كلمتُه وتزلزلُ "هيهات هيهات هيهات" وهنا تأخذ الكلمة شكلاً من التضخّم التدريجي المتصاعد درامياً من الطبقة الواطئة القرار إلى الطبقة العالية الجواب لتبلغ الاستحالة أقصى مداها.

فيـــــــــــــا لها

من صــرخـــة

ضروس كعويل شعوبي المفقودة

هي صرخة المظلومين والمحرومين والمهمشين على مرّ تاريخ الدم وهذا شأن عام يتداخل مع خصوصية ذاكرة الشاعر التي تختلس المستقبل معلنة عن نفسها وصاعقة عماءَه بتحذير شديد يأخذ بالتصاعد الدرامي، كما في (هيهات)، شكلاً وقوة وتأثيراً: "حذار حذار حذار". إنه يحذر من الطواطم الجديدة متهكماً ثانية من يافطاتهم التي انتهي بها الحال مثل يافطات (البول للحمير) ومثل سراديبهم الجرباء. ويرى الشاعر نفسه بحاجة لابتكار اسم آخر للسحلية الطاغية فيضيف اسم (صدام) للمقطع الأخير من الديناصور (صور) ليحصل على المركب الجديد صدامصور باعتباره سحلية ديناصورية رهيبة شنّت حروبها الشبيهة بحروب الـ(HIV) على جبال كردستان فامطرت عليها وابلاً من الكيمياويات والمكروبات. ولم يكتف بالتركيب حسب بل تعدى ذلك إلى قلب معنى الجمل المعروفة الشائعة فصارت الكلاب تسير والقافلة تنبح، وهو يقسم على نباح القافلة، وعلى الاعتذار من (الشعاعير) اللقطاء وهذه مفردة جاء بها من اللغة المحكيّة لتكون بديلاً تهكمياً للشعراء الذين يتخنجرون (من الخنجر)، وما هم بخناجر أصلاً، وهذا هو ديدنه في لغته الشعرية إذ لا يتوانى في استخدام حتى المفردة الأجنبية مثل (الكثارسيس) التطهير بالمعنى الأرسطي وميدوزا اله بعين واحدة تحوّل كلّ من تنظر في عينيه إلى حجر، والـ(UN) الأمم المتحدة لتكثيف التعبير، واختزال المعنى. ويستمر في ذمه للشعراء وتهكمه منهم فيلوذ بالنفري ليخبره عن مهرجاناتهم التي ما انفكت تلوّث أحلام الشعراء، وتفسد نقاءها، وعن افترائهم عليه ومحاولتهم الانتقاص من قيمته كشاعر مثلما حاول شعراء بلاط سيف الدولة الحمداني الانتقاص من شاعرية المتنبي. ولكي يختصر المعنى ويكثف السرد فانه يلجأ الى فعلنة الأسماء كما في قوله:

لـمْ تنِ الخـــراتيـــــــــت

و الخــــــــنــازيــــــــر

تؤفــــغـــــــنني

تصـــــــــوملــــني

تبلــــــــــقـــــــنني

هذا هو جحيمه الذي ألقي فيه عنوة، أو وجد نفسه فيه وحيداً مستوحداً مع ألمه الأبدي الذي تحمّله بروح تواقة للمجد توقاً أدخل اليأس في نفوسهم المريضة بمناداتهم: " أيها الداخلون! اطرحوا عنكم كلّ أمل". وفي الوقت الذي تهكّم فيه من لغتهم المستهلكة فانه باغتهم بلغته المستحدثة التي أخرست قواميسهم العتيقة.

في خاتمة القصيدة يعود لاستخدام التنقيط الذي دخل في بناء الجملة عنده عن طريق الرسم بالحروف وتقطيعها إلى أشلاء في محاولة مثمرة، وإن لم تكن مبتكرة، ليجعل الحروف تأكل أشلاءها رويداً رويدا:

و أ شــ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـلا ء مـ

ـلـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ

حـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ

مـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ

تـ ـ ـ ـ

ي

إن قصيدة جلال زنكبادي (لربما هي الخاتمة ما وراء الصفر) هي واحدة من عشرات القصائد التي كتبها وسعى من خلالها إلى تهديم لغة الشعر المستهلكة الراكدة التي لم تعد قابلة على استيعاب الحاضر المتجدد وارهاصاته الانسانية الشاملة. وما دوناه عنها إن هو إلا إضاءة وامضة متواضعة سعت لفتح الطريق الموصل إلى ابتكارات جلال زنكبادي لمفردات اللغة الشعرية الجديدة.