حامد شهاب الجيزناوي

 

تجليات الحب والوطن في مسرحيات الجيزناوي

 

   كتب الفنان حامد شهاب الجيزناوي مسرحياته موجهاً الخطاب فيها للكبار والصغار على حد سواء.

 مسرحيات قصيرة قد لا تتجاوز في حجمها الفصل الواحد وان جاءت بأكثر من مشهد واحد، وقد ورد المخصص منها للصغار تحت العناوين الآتية:

1.    البستان

2.    اللحن الجميل

3.    حصريا

4.    المؤلف الصغير

ووردت مسرحيات الكبار تحت العناوين الآتية:

1.    أشجار دائمة الخضرة

2.    البروفيسور

3.    عذرا همنغواي

4.    الكفن

ومن هذه العناوين يتبين لنا أن المؤلف اشتغل على اختزالها بمفردة واحدة فقط مثل: البستان، وحصريا، والبروفيسور، والكفن وبمفردتين مثل: اللحن الجميل، والمؤلف الصغير، وعذرا همنغواي وثلاث مفردات مثل: أشجار دائمة الخضرة. ومن أجل التعرف على خطابها المسرحي نضع نماذج مختارة منها تحت مشرط النقد لبيان أبرز مميزاتها، وما اتصفت به من الأفكار، وتطور الصراع فيها. ونموذجنا الأول مسرحية (أشجار دائمة الخضرة) والتي يشي عنوانها أول لحظة باختلافٍ وتحولٍ فصلي بين حالتين (نفضيّة ودائمة) وهي عنونة دقيقة ومعبرة أصابت جوهر المسرحية وفكرتها الرئيسة على الرغم من التناقض بين الحالتين اللتين ذكرهما المؤلف والمتعلقتين بعمر الشخصيتين وعمر الحديقة فكلاهما بعمر الشيخوخة والذبول، وجفاف الحياة وبلوغهما خريف العمر فلا ثمار ولا خضرة في هذا العمر فقط الحب وحده القادر على استمرار خضرته التي لا ينال منها تقدم العمر، أو جفاف الحياة.

   تطرح الشخصيتان تساؤلا دقيقاً: (ما الذي جعلنا نستمر طيلة هذا الوقت: الحب أم الخوف؟) هذا السؤال جاء بعد رحلة عمر طويلة ابتدأت منذ أول لقاء بين الشخصيتين في الماضي وآخر لقاء بينهما في الحاضر الراهن. وما بينهما يشير الكاتب الى عملية التهجير القسري الذي وقع أثره وظلمه على شخصيتي المسرحية وشاركتهما وقتذاك المئات، بل الآلاف من أبناء الوطن (التهجير من العراق الى إيران) ثم عادا إليه ثانية بعد أن ذبلت فيه الزهور، وماتت الأشجار، أو سقطت بعض جذوعها على أرضية الحديقة التي كانت غناء فيما مضى، وبعد أن ذبلت ذاكرة الزوج، وانحنت قامته على حافة الرحيل، وشاخت رفيقة حياته هي الأخرى وان بقي بعضهما ملتصقاً ببعضه الآخر دون أن تنال من حبهما مرارة الأحداث، وقسوة التجارب التي مرت بهما طوال سبعين عاماً. وبعد هذا الاستعراض المختصر المكثّف لحياة الشخصيتين يصل بهما الكاتب الى ذلك السؤال الاستباقي بحثاً عن الإجابة التي يتداخل فيها الخوف مع الحب في مجاورة وتلازم دائمين ومؤثرين في حياتهما طوال العمر الذي نفق جله في الوطن الأم، ووطن التهجير مع بقاء الحب على حاله بقوة وان كانت أـضعف قليلاً بسبب الخوف نفسه وما فرضه عليهما من مشاعر تدميرية إلا أنه لم يختفِ أو يضمحل داخل نفسيهما المضطربة. ومادامت ذاكرتهما لا تزال فعّالة وهي تسترجع فقرات كثيرة من الزمن الماضي الذي يعود الى فترة لقائهما الأول كحبيبين فإنها تشحن قلبيهما بالمزيد من طاقة الحب العصية على مداهمة خريف العمر القابض على المحبة، والآسر للوهج العاطفي، والقادر على إطفاء جذوة الروح، وهذا يعني أن الحب وحده كاف لتظل الحياة منورة بسناء لم ولن ينطفئ مهما تقادم الزمن. وان المزيد من الخوف يعني المزيد من الحب أو هكذا رأى الزوج مقتنعاً أنه:

 (كلما زاد خوفنا على هذا الحب كلما كان أعظم) وبهذه الحكمة العميقة تنتهي أحداث المسرحية القصيرة حجماً والطويلة معرفة، واضعة حداً للإجابة السهلة عن السؤال الصعب.

بقي أن نقول إن المسرحية امتازت بلغة أنيقة، ومهذبة عكست دواخل الشخصيتين بيسر وهي على درجة عالية من التشويق والمتابعة حتى أخر شوط من عمر الشخصيتين.

   أما مسرحية البروفيسور وهي من الخيال العلمي تحديداً فقد انصبت فكرتها على قوة، وفداحة الاختراع الذي توصل إليه البروفيسور والذي تجلّى في القدرة على محو اللسان أو أي جزء آخر من جسد الكائن الحي وقد صار هذا الاختراع مثار اهتمام المتسلطين وسعوا للحصول عليه بأي ثمن أملاً منهم في تجريبه على البشر ولجم أفواههم المعارضة وهذا هو جل ما يريدونه لشعوبهم ومعارضيهم، وعندما ادرك البروفيسور عبر رؤية مقصودة مرام الساسة فانه تخلى عن معادلات الاختراع بحرقها والتخلص من آثارها الجسيمة فيما لو حدثت فعلاً، وبين الرؤيا والواقع ينقل لنا الكاتب شيئا عن حياة البروفيسور الاجتماعية وكيف انه سخّر كلّ جهده ووقته وحاله لإكمال ذلك الاختراع. وتجدر الإشارة هنا الى أن محفز تلك الرؤيا تولّد من فكرة عابرة طرحتها زوجة البروفيسور التي أدمنت صمت زوجها متمنية استخدام هذا الاختراع للتخلص من ثرثرة لسان زوجة ابنها التي لا تتوقف عن الثرثرة وهذه هي بحد ذاتها نظرة فرويد للأحلام ودور الواقع كمحفزٍ لها ومشكّلٍ لأحداثها، وقد جاء إدراك الحقيقة عن طريقها ولم يأت عن طريق الواقع فبدا الحلم وكأن المؤلف استخدمه كأداة للتعبير عن ذلك التحول في فكر البروفيسور حسب، وكان الأفضل لو أنه ادرك الحقيقة بشكل درامي وواقعي وليس بشكل حلمي طافح على سطح اللاوعي الدفين للبروفيسور.

المسرحية بشكل عام بنيت على حدث واحد ومشهدين و16 فقرة لم أجد بينها فواصل أو انتقالات أو تبدل مشهدي فالجمل مترابطة ومكملة بعضها بعضا على الرغم من الرقم الفاصل بينها مثل:

الزوجة: (تقاطعه) من الذي يجرؤ على مضايقتك أو إيذائك؟

 

 16

الزوج: لا اقصد الإيذاء والمضايقة… اعلمي يا زوجتي العزيزة أن كثيرا من الأبحاث والمكتشفات والمخترعات بدأت لخدمة الإنسان وانتهت لتدميره.

وهذا يعني أنْ لا ضرورة لوضع الرقم هنا أو هناك كفواصل فقرية في النص لا تؤدي خدمة واضحة، أما فكرة المسرحية فهي جيدة، وأسلوب الخيال العلمي استوعبها كاملة، ولكن في رأينا إن الكاتب أراد تقديمها بعجالة ولم يبن عليها ما تستحقه من البناء فنيا وفكريا.

 

   ومثلما تعامل وتفاعل الجيزناوي مع مسرحيات الكبار تعامل مع مسرحيات الصغار وعالمهم الصغير والفسيح في آن واحد، وبما أنه مارس مهنة التعليم لذا كان قريباً من المسرح التعليمي، وقدرته على تبسيط وتسهيل وتكثيف المعلومات الحيوية لمشاهدي عروضه من الأطفال واليافعين.

في مسرحية البستان أراد أن يتجاوز المسرح التقليدي وأطره الجامدة وان يجعل من مسرحيته حداثوية بما فيه الكفاية ليفتح عيون الصغار على الأسلوب الفني الذي يتوجه برسالته الى عقولهم (المسرح الملحمي) بدل اقتصار رسالته على عواطفهم باستخدام أسلوب المسرح داخل المسرح عن طريق مساهمة الأطفال/ المشاهدين بعرض المسرحية، والتفاعل مع أحداثها وحتى الاشتراك فيها أو عن طريق الشخصية التي تكسر الإيهام لدى جمهرة النظار من الأطفال ليسحبهم الى جانب التفكير بحلول للأزمة التي تطرحها المسرحية وهكذا نجد شخصية المهرج تحاور المخرج الغائب وتتذمر من أمر ارتدائها حذاءً لم يكن على مقاسها فتضطر آخر الأمر الى خلعه والتخلص من آلامه ليتسنى لها أداء دورها بيسر ومرونة.

في هذا النص ثمة مسرحيتان يقوم (المهرج) بأداء الدور في الأولى ويمكن أن نطلق عليها (المسرحية الخارجية) ويقوم بأداء الأدوار في الثانية شخوص آخرون، ويمكن أن نطلق عليها (المسرحية الداخلية) مع عدم وجود الحدود الواضحة الفاصلة بين الاثنتين. بمعنى تبسيطي فان للمهرج مسرحية خاصة به ودوره فيها توضيحي من خلاله يلقي الضوء على ما يعانيه وعلى سير الأحداث في المسرحية الثانية وبشكل يكاد يجعل كلا منهما منفصلة عن الأخرى. 

 

بنيت المسرحية على فكرة (العمل) الذي به فقط تزدهر البستان ويثبت الكاتب من خلالها أيضا أن التعاون فيما بين الأخوة هو الضمانة الأكيدة لنجاح ذلك العمل على خلاف تفرقهم واختلاف آرائهم اللذين يؤديان الى ضياع الإرث (البستان) وذبول ثمارها وانفتاح أسوارها أمام اللصوص.

وفي النهاية يظهر الأب من جديد ليبارك ويهنّئ أولاده على ما قاموا به من عمل مشترك حفظ ما ورثه عن آبائه وأجداده. وتنتهي المسرحية بترديد جماعي للنشيد الذي يتغنى بحب الوطن، والعمل على تقدمه وازدهاره. وبهذه الخاتمة تكون رسالة الجيزناوي قد وصلت الى الصغار بطريقة خلاقة.

هذه النهاية تتشابه مع نهاية مسرحية (اللحن الجميل) والتي يطيب لي تسميتها بـ(اللحن المفقود) وهذا هو ما جعل حيوانات الغابة تبحث عنه جاهدة في كل أرجائها حتى اهتدت إليه عن طريق حلم جماعي مشترك وهو بهيئة نشيد ختامي كذاك الذي انتهت إليه المسرحية السابقة (البستان). وهنا يتكرر الحلم كوسيلة مثالية للوصول الى حل للأزمة المطروحة على الجميع.

 العامل المشترك بين النشيدين هو التغني بحب الوطن والتفاني في سموه وعلوه فوق الجميع. وهذا يعني أن الرسالة في كلا المسرحيتين تتمركز حول محور بث الروح الوطنية في نفوس الصغار الذي يعوّل عليهم في بناء مستقبل الوطن السعيد.

في مسرحية (المؤلف الصغير) يكسر الجيزناوي الجدار الرابع حين يترك المؤلف الصغير في حيرة من أمره فيتوجه الى الجمهور مباشرة يخبرهم بحيرته حول النص الذي يقوم بكتابته فيحدث لغطا بين جمهور المشاهدين مما يفرض عليه اتخاذ قرار حاسم بإدخال اثنين من الفرسان يمتطيان جوادين وقد بدا عليهما التعب من كثرة البحث والسير من دون جدوى. فجأة يقع أمام ناظريهما تلاً توهم الاثنان أنه من الذهب فاختلفا عليه وعلى من له الحق في امتلاكه، وتنتهي الخصومة بينهما بتوجيه كل منهما بندقيته نحو الآخر ليقطع المؤلف الصغير خصامهما هازئا من اختلافهما على تلّ وهمي من الذهب. ويتكرر مشهد الذهب الوهمي مع اثنين آخرين وهذه المرة فارس وتابعه ويحدث بينهما الخصام نفسه وينتهي عند دخول المؤلف الصغير غير راض عن النتيجة وفي المرة الأخيرة يدخل الفارسان ويجدان الذهب ولا يختلفان على امتلاكه، بل يبحثان عن الكيفية أو عما يفعلانه مع هذه الثروة الطائلة.  فيتوصلان الى حل مقبول يتجسد في الاهتمام بالأرض التي سيحولانها الى جنة يعيش الكلّ فيها بسعادة وهناء فتأتي هذه النهاية متوافقة مع ما أريد المؤلف الصغير ليباشر بكتابتها ويثبت خاتمتها ورسالتها التي تتشابه مع ما سبقها من نصوص الأطفال التي سعت الى أن تكون تعليمية بحق.

أخيراً نتمنى أن تكون قراءتنا هذه قد نجحت في منح القارئ الإضاءات اللازمة والأنوار الكاشفة لما وراء سطور مسرحيات الكاتب المبدع حامد شهاب الجيزناوي.