درب الحرية في أسفار عشتار

صباح الأنباري

    هاء، وأسفار عشتار: رواية جديدة صدرت قبل أيام للأديب الجزائري عز الدين جلاوجي وهي مزيج خلاق من الرومانسية هبوطاً الى درك التحلي، والمعاناة الإنسانية ارتقاءً إلى درجات التجلّي، وهي بحث دؤوب معمق في معنى الحرية ونقيضها، وهي سفر طويل في التيه والمسخ، ومحاولة ليست للخروج من العبودية، بل لإخراج العبودية من داخلنا التي استقرت فيه عبر الزمن لأسباب كثيرة يناقشها الكاتب داخل المتن الروائي بإسهاب، وقناعة تامة.

وقبل المضي في دروب الرواية لنا أن نتساءل عن العنونة ومكوناتها فمن هي (ه) ولماذا عطفت على (أسفار عشتار) وما الجامع بينهما؟

يبدو لي من سياق العنونة أن الهاء هي الأنثى التي لم يرد الراوي ذكر اسمها الصريح لأسباب احتفظ بها، ولم يشأ البوح باسمها لتكون نائبة عن الإناث جميعا داخل المتن الروائي، عطفت على معطوفها (أسفار عشتار) لتحديد كنهها ومسارها، أو الجهة التي تروم الوصول إليها وافترضت الراوي فاعلاً لرواية الأحداث (أنا ضمير المتكلم) وان الأسفار كلّها إن هي إلا أسفار (ه) سواء في التيهان أو في المسخ، وهما فصلان من الرواية منحهما الكاتب حرفين يقفيان بعضهما بعضا: حرف الـ (أ) وهو الأول في الأبجدية وحرف (الباء) وهو الثاني في التسلسل الأبجدي. وفي كلا الفصلين ثمة استمرار للبحث أو محاولة للوصول الى هدف الرواية المركزي (الحرية).

ومع استغراق الرواية في الرومانسية (وخاصة في نافذتها) إلا أنها ارتقت ببهاء الى درجة من التصوف الذي جمع بين كينونتين مستقلتين في مقام واحد يقول الكاتب من خلال (نافذة) الرواية متسائلاً: 

وأنى أكون لو لم تكن؟

وأنى تكون لو لم أكن؟

لسنا إلا روحا خفاقة سكنت جسدين، ينبضان بذات الإيقاع. فاذا أنا هي وهي أنا.

وهذا ذكرنا بقصيدة المتصوفة الحسين بن منصور(الحلاج) وقصيدته الشهيرة:

أنا من يهوى ومن يهوى أنا      نحن روحان حللنا بدنا

وفي هذا الحب البريء عذرية فرضت نفسها عليه فدرج على مناداتها (يا طفلتي المدللة) ومن اجل الشعور بالاطمئنان صحبها معه في أسفاره أو أسفارها، لا فرق، فهي عشتار التي أحبها في الفصل الأول (أ) ثم مسخته الى ذئب في الفصل الثاني (ب). وعلى الرغم من كلّ أفعالها إلا انه لم يستطع التخلص مما أوقعته فيه من العبودية التي يمقتها، وسعى جاهدا للتخلص منها. ثم اهتدى لمقولة جده (مصباح) القائل:

ليست الحرية أن تخرج من العبودية، إنما الحرية أن تخرج العبودية منك

الرواية تبدأ فصولها بالرقم (1) وتنتهي عند الرقم (27) وكل رقم فيها يشكل فصلاً قائماً بذاته ومرتبطاً ببقية الفصول عن طريق الفكرة العامة للرواية.

هي إذن ملحمة الحب الذي بني على رغبة التملك ومحاولة الخلاص من هذه الرغبة التي هي في حقيقتها تجسيد لمعنى محدد من العبودية المطلقة. لقد أغرم بها وأغرمت به منذ طفولتهما فنما الحب بينهما بحميمية هائلة والتصقت به ووقفت الى جانبه حتى في أوقات تمرده التي أسلمته الى السجن في الفصل الأول (أ) من الرواية ليعيش في سجنين: سجنها الذي رافقه طوال حياته بمحض إرادته وسجن العبودية الذي سرق منه أفضل سنوات عمره، ومن داخل السجن ينقل لنا المأساة التي عاشها على شكل كابوس رهيب إذ رأى حراسا يمسكونه من يديه ورجليه ويسحبون جسده الذي راح يمتد كما لو كان مصنوعاً من المطاط يربطونه إلى شجرتين فيتحول الى أرجوحة صيفية رخوة كما يصفها. يمتطيها السجانون ثم يرى رأسه وقد بدأت بالنمو العجيب حتى صارت كرة عملاقة أبصرت الآخرين وكأنهم فئران صغيرة. هذه الصورة التي تشبه ساعات سلفادور دالي المائعة والرؤوس الطرية العملاقة إنما لتعبر عن إحساس غريب ألمَّ به، ورسخ في ذهنه، ولم يستطع منه فكاكاً فتعاظمت ألفته مع السجن.

في الفصل الثاني ينتقل الى والديه فيحكي لنا عن قصة الخاتمين وكيف انه خطفهما وواراهما الثرى ظنا منه انه سيخلص والده من سطوة والدته وتجبرها واضطهادها لحياة والده الذي رضخ لها بمحض إرادته فسلبته حريته تماماً وفي هذا إشارة أخرى الى الدخول في العبودية التي يمقتها. واكتشف أن إخفاء الخاتمين لم يطلق والديه من أسرهما الفولاذي (عبوديتهما) فلن تأتي الحرية نتيجة التخلص من إكسسواراتها وقيودها الخارجية. لقد أزداد الخلاف بينهما، فضلاً عن الشك الذي ساور والدته، متحولاً شيئا فشيئا الى رهاب، وحوّل والده الى خاضع مستسلم وتابع مطيع بينما تمادت والدته في شراستها:

ليصير حبها له تملكا وسيطرة، وسرقت منه حتى ذوقه وإحساسه، ومع الأيام تحوّل لمجرد تابع أمين، كلّما زادت هي في غطرستها ازداد هو خضوعا وتبعية.

ولعل جده (مصباح) كان يشكل له روح الطبيعة التي ينبغي الهرب إليها والتعرف على كنهها، ولأنها أنجبتنا بطريقة حرة فعلينا إذن أن نعيش أحرارا بشكل طبيعي، لا نقيّد أرواحنا بأي قيد حتى وان كان حباً خالصا فالحب يتحوّل، بمرور الوقت، الى قيد ورغبة عارمة في التملك والسيطرة وهذا هو ما تمرد عليه فدخل السجن بسببه. وبين جده والقط (مصباح) مشترك طبيعي حتى يبدوا وكأنهما واحد فهما رمزان للطبيعة التي أنجبتهما، ومنحتهما الحرية نفسها. هذه الأفكار التي اقتنع بها وروّجها بين مريديه على شكل كتاب قام بتأليفه واختار له عنونة دقيقة لتمثل (الإنسان الحر) على وفق اعتقاده ورؤيته التي استغلها الآخرون فأسسوا عليها مشروع اضطهاده وتكفيره ومن ثم زجه بين جدران سجن رهيب تعوّد عليه وألفه حتى انطبعت في ذهنه صور الجدران والسقوف المتشابهة وحتى لم يعد يرغب بالخروج منها والتخلص من قيودها وكأن السجن قد غسل دماغه، ونظف خزينه الذاكراتي، ومحى صورها ورسومات ماضيه. فهل كان السجن هو الثمن الذي دفعه من اجل حريته؟ وهل تحقق طموحه الذي ترعرع داخل نفسه منذ فجر وعيه المبكر؟ ولماذا الإصرار على العودة للطبيعة من اجل الحرية البكر المشاعة؟ ولعل في جده ما يفسر تلك الرغبة العارمة. يقول عنه:

كان جدي مصباح أقرب الى الطبيعة من أي شيء آخر، لا يرى الفرح إلا في قلبه ولا يرى السعادة إلا في أعماقه، في الوقت الذي يطلبها البشر جميعا في أوهام خارجية.

لقد تلقى كل دروسه من جده في حضن الطبيعة. أصغى معه لصوتها، بوحها وحتى صمتها العميق. ناما في أمانها، وأكلا منها، وتفيء كل منهما بسحرها، وحاوراها حتى تعلما منهما كل ما يتعلق بحميميتها ودفئها كأم رؤوم. وعندما توفي جده دفن بعيداً عن البشر، وقريباً من حضنها الدافئ. كانت رغبته أن ينأى عن صخب البشر وسطحيتهم، وان يدنو من عبقرية الطبيعة وعمقها. لقد حافظ جده على الطفل في داخله وفعل هو الشيء نفسه. اخرج من نفسه العبودية وأراد أن يفعل البشر كل البشر مثله تماما فالحرية كما قال جده هي ألا تخرج من العبودية، بل هي أن تخرج العبودية منك. لكن البشر فضلوا البقاء ضمن القطيع بعد أن (فقدوا كرامة الحياة وعنفوان الطبيعة) وفضلوا الرضوخ تحت نير الأسس والقوانين التي وضعها لهم الراغبون في التسلط على رقابهم وحكمهم تحت لافتة الدين، والوطن، فصنعوا للوطن حدوداً سجنوهم داخلها، وللدين قيما يتبعونها فآثروا العيش ضمن القطيع حتى تحولت العبودية الى قيمة عليا لم يشأ أي أحد منهم الخروج منها أو إخراجها. وفضلوا حياة السجنين (الوطن والدين) على حياة الطبيعة الحرة. ومن الغريب أن الرجل (الراوي) الذي آمن بما يدعو إليه إيمانا مطلقا آمن أيضا بشكل شبه مطلق أن تغيير الناس ليس بالأمر السهل وربما امر مستحيل. يقول يائساً خائباً:

أن تذيب الجبال المتجمدة في قطبي الأرض أهون من أن تذيب جبال القناعات التي رانت على قلوب البشر وعقولهم. إن التراكمات التي ولدتها الأديان والفلسفات والأفكار وحتى الخزعبلات من السماكة والنتانة ما يجعل إزالتها وتطهيرها مستحيلا.

لقد أبعده السجن عن مهمته المركزية في الوجود، وحوّله الى عدم الوجود وقد تساوى لديه الطرفان وهو العارف أن العمل الفردي لا يحقق ما يمكن أن يحققه العمل الجماعي شريطة ألا تتحول دعوته الى قفص جديد للعبودية، وألا يترك إرث دعوته مشاعاً ليأتي من بعده من ينادي بها فيدعو الناس لها ويصير له مريدون وتابعون يؤلهون شخصه ويطيعون أمره فيتنازلون طوعاً عن حريتهم لصالح عبوديته وتستمر هذه الحلقة في دوراتها الزمنية بلا توقف. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو لماذا يصرّ البشر على القبول غير المشروط لصالح العبودية على حساب حرياتهم مع انهم خلقوا أحرارا؟ ولماذا يستأثر قسم من الناس بفايروس السلطة، وفروضها، والتسلط، وشروطه؟ وبالرجوع الى التاريخ البشري سنجد الكثير مما يبرر هذا حتى خارج الضرورة التاريخية ومقتضياتها. فلم يرق للإنسان البقاء تحت النظام المشاع الذي وجد بشكل طبيعي أو أن الطبيعة أوجدته بحكم الضرورة لتأتي بعدها رغبة التملك والاستئثار والتسلط. وهي رغبة جائحة جامحة طامحة لا حدود لها، ولا حجم لهيئتها حتى أنها امتدت الى خارج تلك الحدود مشيدة الإمبراطوريات التي سادت، ثم بادت، ثم أعيد بناءها مرة أخرى لتستمر في فرضها القيود تلو القيود التي تقبلها البشر كـأمر مسلم به.

كثير من علاقاتنا الاجتماعية ما هي إلا عبودية، كثير من علاقات الطاعة والاحترام والتقدير هي عبودية، كثير من علاقات الحب بين المتحابين والعشاق هي عبودية، إنها شكل من أشكال الرغبة في التملك لذا يسعى طرف ما لينصب نفسه إلها على الطرف الآخر، ثم يسعى لابتزازه ماديا أو نفسيا.

لقد أحب عشتار وأحبته وذاقا معا طعم السعادة، لكنه سعى ألا يكون أحدهما تابعاً والآخر متبوعاً وهكذا تتجسد الحرية عنده ملخصة في رفض التبعية بكل أشكالها، وتحررنا منها تحرراً كاملاً على وفق الطريقة التي قال بها جده (مصباح) العاشق للطبيعة حتى النخاع. والذي أدرك تماما أن العبودية تغتال الحرية والطرق المؤدية إليها، وكل ما يجعلها ممكنة، ولكنه في اجتماع جمعه مع محبي الحرية بين أحضان الطبيعة لنشر دعوته فوجئ بهجوم شرس عليهم اضطرهم للانسحاب والعودة الى بيوتهم منكسرين خاسرين حربهم التي عوّل عليها كثيرا لدرء نار الحروب بين البشر التي قضت وستقضي عليهم جميعاً في المستقبل المظلم للبشرية. وستظل رغبة البشر بالتملك قائمة وبالتسلط حاضرة وكأن الأمر بات ميؤوسا منه وان العبودية ستقضي بشراسة على حريات البشر كل البشر.

ومن داخل السجن تراءت له (عشتار) بأنوثة لا شبه لها بأي أنثى غيرها وخيّل له أنها (طفلته المدللة) كتلة من نور اتسعت أمام ناظريه مقتربة منه وواضعة يدها على صدره فتحسس أنامها وهي تداعبه برقة واشتهاء وكاد أن يقع في أسرها كما وقع قبله الكثير من البشر لكنه فجأة أحس بحريته تسرق وان العبودية قادمة لا محالة فتخلص من سحر الإغراء والغواية لتصير عقوبته المسخ. لقد غضبت عشتار واستاءت من تصرفه الشبيه بتصرف كلكامش من قبل وإن لم يشتمها أو يسبها كما فعل كلكامش، وشيئا فشيئا بدأ جسده بالتحوّل الى ذئب انضم الى القطيع وصار تابعاً لزعيمه. يأتمر بأمره وينفذ ما يؤمر به.

لقد تحولت...

كما تحول لوتيوس فصار حمارا على يد حبيبته فوتيس ثم عجز على أن يعود الى طبيعته البشرية، ما أتعس أن يتحول الإنسان الى حمار، حياة مليئة بالقهر والمذلة والعبودية.

وقد أحس في حياته الجديدة بالانطلاق الحر في البرية يتحرك كما يريد ويفعل كل ما يريد بحرية تامة، ويعيش على فطرته متحرراً من قوانين، ونواميس، وأديان، وفلسفات كبّلته منتزعة منه الكرامة والحرية. ومع كونه ذئبا إلا أنه أحب الخروف الذي ابتاعه والداه وكثيرا ما كان يقضي وقتا الى جانبه في الزريبة التي أعدها والده للخروف. ويوم ذبح أصيب بصدمة عظيمة، كأن فاجعة كبرى حلّت به. وعند الصبح رأى الخروف ينزف دما صرخ وبكى وضغط على الجرح محاولا إيقاف النزف، ولكن هيهات.

عندما التقى بالقطيع كان سعيدا بحياته الجديدة وتخلصه من بشريته التي لا يريد العودة إليها، وعندما شعر بالجوع، ورأى القطيع وهم يقطعون لحم أرنب بري شاركهم الوليمة مرغماً وعندما رأى كلكامش فهم منه أن الحرية لا تكمن إلا في الخلود أو الموت فارتبك وأوقعته الحيرة بين مفهوم كلكامش للحرية وبين ما دعت إليه (طفلته المدللة) من الحرية في الحب وهو ما أفضت به عشتار أيضا. وواقعيا كان يبحث عن طريق ثالث أو طريقة لغسل العقول البشرية وتخليصها مما ترسب فيها من الفلسفات، والقوانين، والأديان، والأسيجة الشائكة التي أحاطت الإنسان مقيدة حريته، وفارضة عليه العيش تحت نير العبودية المقيتة. وقد اؤصله هذا الاضطراب الى الخيبة فرأى أن لا مناص من العبودية، ورأى أن كل ما فعله لا يختلف كثيرا أو قليلا عما فعله سيزيف فحكمت عليه الآلهة بالشقاء الدائم. وإذ أحس كلكامش بالخيبة التي ألمّت به مسح على رأسه ورفعه الى الأعلى ممسكا به من رجليه ليقذفه بعيداً جداً كما يقذف الرمح ليسقط على المكان الذي انطلق منه فيسترد أدميته، ويعود الى بيته ويشعر برغبة عارمة في لقاء يجمعه بطفلته المدللة. وحين خرج رأى الشعاع نفسه وهو يقترب منه فاذا بها حبيبته. ارتقيا معاً وتحررا وهما يعرجان في:

سماوات اللامنتهى، وبين أمواج المحيط المتلاطمة وحده السندباد كان يصارع اللجج العاتية بابتهاج شديد، يوجه تارة شراع السفينة، ويلوح لنا تارة أخرى بعمامته البيضاء.

وبهذا تكون الرواية قد قطعت شوطين من رحلتها: كانت الأولى مع البشر، وكانت الثانية مع الحيوان من اجل الوصول الى الحرية التي نشدها الراوي ولم تتحقق بعد.

الرواية بالمجمل بحث فريد في بلورة فكرة الحرية وفكرة الإنسان الحر بالفطرة وكيف انتزعت منه هذه الحرية لأسباب ذكرناها ولا حاجة بنا لإعادتها، وتأكيد كبير على أنها لا تكمن بالخروج من العبودية، بل بخروج العبودية منا وهذا يشكل فرقا فلسفيا كبيرا، وهو ما حاول الكاتب، عن طريق الراوي، الوصول إليه داخل متن الرواية، وفضائها الواسع الفسيح. شكرا للمعلم الكبير عز الدين جلاوجي على هذا الدرس الفلسفي المعمق.