طيور سلام كاظم المقيدة

صباح الأنباري

بار على الحدود... (قصيدة نثر....) هكذا ورد رسم عنوان القصيدة التي كتبها الشاعر سلام كاظم فرج ليؤكد هويتها الشعرية المتداخلة بين جنسي الشعر والنثر، مفترضاً أننا لا نزال على قيد الشعر الموزون بشقيه العمودي والحر، وحرصاً منه على أن نبدأ معه من هذا المحدد الأجناسي (قصيدة نثر) على الرغم من معرفته التامة أن القصيدة تعلن عن نفسها حالما تبدأ عملية القراءةِ العضوية.

بدءًا من هذه العنونة (بار على الحدود) تضعنا القصيدة خارج جغرافية المعشوقة الأثيرة وداخلها في آن واحد. في مكان محايد متاح بين القيد وبين الانفلات من محدداته القاسية. ثمة خيط رفيع من الفصل بين ما كان وما سيكون، حدود للفصل والاشتباك هي حاضنة زمن القول أو زمن القصيدة. هناك حيث ألقى الشاعر خطابه وحيداً منفرداً بذاته، ومستجمعاً شظايا مدينته القديمة، ومحاولاً بث لواعجه في أغنية قد تكون الأخيرة إذا ما عرفنا أن طائر التمّ يطيل الغناء أو الرثاء في خاتمة المطاف. من هناك ألقى تميمته علَّها تداعب قلب المعشوقة فتجود عليه بقلق مشوب بوحشة هائلة تغتسل منها لتستقبل سمكاً ملوناً كان لأنهارها يوما قبل جفاف العيون. أراد أن يكمل أغنيته حسب، لكنها لم تدعه وهي التي ظلًت ممسكة بيده رغم افتعال الضجيج والخيار العجيب بين موت وآخر.

في هذا المقطع الافتتاحي من القصيدة تتمظهر إرهاصات الشاعر، وأوجاعه، ومعاناته، وما يرفد تلك المعاناة بأوجاع مستديمة، وآهات طويلة، وعذاب أليم. وعلى الرغم من رمزية المعنى، وجنوح الكلمات إلى موطن الأسرار إلا أننا استطعنا من خلال الإبحار في أعماقها الوصول إلى جوانية مراميه القصية. لقد عاش الشاعر تلك الأيام الأشد بؤساً، وظلاماً، واضطهاداً، وجوراً مع من كان معه من مجايلي تلك الحقبة الدموية الرهيبة، وعلى الرغم من دمويّتها إلا أنه ظلَّ ممسكاً يد أثيرته التي لا يستطيع إلا أن يمسك بها حتى وهم يخيرونه "ما بين ميتة وأخرى" وظلَّت يداهما متعانقتين على الرغم مما أراده (الصقر) كبيرهم. وهذا بحد ذاته إشارة واضحة على الروح العشقية لطرفي العشق: الشاعر والمدينة.

في المقطع الثاني من القصيدة يبدأ الشاعر بتفعيل ذاكرة الحبيبة بتقنية طرح الأسئلة الاستذكارية المعاتبة فيقول:

هل مرّت عليكِ قصتي حين توَّجت رأسي قبعة من العصافير السود؟

وكنت بعيدة؟؟

وهو يستدرك بعد السؤال مباشرة ليقرّب البعيد بصورة شعرية مذهلة:

لكن قلبكِ كنتُ أحسه قرب عيني ينبض...

فرق المسافة بين المكانين (البار والمدينة) شاسع جداً لكنها طبقاً لتجليات الحنين ملغاة فلا مسافة بينهما حين يحمل الشاعر محبوبته أنّى رحل وحيثما حط الرحال. ويستمر نزيف الأسئلة فيذكّرها بـ(السيبة) التي لا تزال تضيء بسببها على الرغم مما لحق بها من دمار المعارك وخراب الحروب:

هل مررتِ على غسقها؟

ولو كانت قد مرّت فعلاً فماذا تَرى يا تُرى؟ في نظر الشاعر ليس غير الضوء الذي اختزنته على مر الزمن لتنشره على ربوع مدينةٍ ثكلتها الأيام والخطوب. وجارت عليها الأنظمة تباعاً، عاماً بعد عام، حتى خراب البصرة، وحتى لم يعد الاستذكار أداة فاعلة للمستذكرين. وبعد هذا وذاك يعود الشاعر ثانية ليستدرك أيضا مستنتجاً أن:

كلّ المطر/ مطرك الرحيم/ ما أطفأ

الجمر بل أطفأ النيران

هكذا يظلّ الجمر متقداً في روح الشاعر وان انطفأت نار حنينه لها أو للتنومة والطبكة وسفرات الطلبة والخورة. رموز حبلى بأجنة الانتظار الطويل، وملل ينخر في الروح، ويأس لا يني يتفشى في الرؤوس الضالعة في البؤس والحرمان بينما يعتمر رأس الشاعر قبعة "من العصافير السود" ولا تعود لنهر الخورة إلا الأسماك الملونة المخدوعة، والطيور المرتبكة تحت مجهرية زاوية الصقر.

تلك هي صورة المأساة أو الصور المأساوية لتلك المدينة التي ابتلعت الخورة أبناءها ولا تزال تلفّهم في دوامة الموت المجاني الرهيب.

وحده الشاعر يتربع في ذلك البار الحدودي بعيداً أو مبعداً يحتسي خمرة الحنين، ويتطلع نحو حبيبته التي أغلقت عليه باب الرؤيا فأغلق عليها باب الأسى مجترحاً القادم بقلب متعب، وحالماً بلقاء جديد.

في المقطع الثالث (الأخير) يفتح الشاعر باباً على ما سيكون:

سأروي لك المزيد من الخرافات حين نلتقي

اللقاء لا يزال مؤجلاً ورهينا بزمن يعتقد الشاعر بمجيئه ويهفو إليه وفي نفسه تتعملق الرغبة في مسامرة مدينته الأثيرة لكنها وهي التي تآلفت مع الخرافة لم تعد كما كانت، ولن تكون كذلك في مستقبلها الآتي، وهنا يكثّف الشاعر رؤيته داعماً إياها بألوان الطيور وأنواعها وهي

"تستمد خلاصها من وصايا مالك الحزين للحمامة المطوقة"

وقد نجح باستخدامها كرموز تجسدت بهيئة طائر لا يستطيع العيش بعيداً عن المسطحات المائية، وما يميزه انه لا يترك مسطحاً بعد جفافه بل يظلّ يدور حوله منكس الرأس حزيناً على ما فعل الجفاف بذلك المسطح أو تلك البحيرة.. وهو البديل الموضوعي عن قاطني تلك الأمكنة التي مهما تغير حالها يظلّون على قيدها وهم يكظمون الحزن على ما آلت إليه. الطامة الكبرى أنهم وعلى الرغم مما جرى يستمدون الخلاص من وصاياه لحمامتهم المطوقة فماذا يمكن أن تفعل تلك الوصايا التي تقارب بين الموت عطشاً وبين الحياة بسلام مقنّع؟ وأين المشكلة في هذا؟

يضع الشاعر يده على مدى تصديق الحمامة المطوقة لعهود الثعالب واستمرارها في ذلك التصديق الخرافي. إنها ببراءتها المعهودة يعتورها النسيان فيغيب عنها أن المكر حليف الثعالب فلا تتوقف عن دعائها لهم بالسلام ناسية أو متناسية أن الثعالب تدعو لها أن تكون لقمة سائغة على موائدهم اللئيمة. والأشد من هذا وأنكى أن فتية الطيور (رهان المستقبل) تتنازعهم ثقافتان: ثقافة الثعالب وثقافة مالك الحزين. طاقتان سلبيتان ليس بينهما من يدير الدفة نحو فسحة النور التي تبدو في البعيد مثل نقطة واهية.

إلى هنا تبدو رموز الطير جلية إذا ما أسقطناها على الحاضر القائم وحتى على ما انصرم من الماضي. وهذا هو ما جعل من القصيدة مرآة لذواتنا التي عانت ولا تزال من ثقل قيود فَرَضت علينا الهزيمة، وعلى الشاعر الهروب إلى بار على الحدود ليرمم شظايا نفسه ويكمل مرثيته وحيداً بعيداً مثل طائر التمّ.

لقد ظلّ مالك الحزين حزيناً مقيداً بالجفاف، وظلّت الحمامة مطوقة ببراءة انتهكتها الحروب، وظلّت الطيور الفتيَّة مقيدة بين ثقافات ماكرة وأخرى مسالمة نافرة. وأخيراً ظلً طائر التمً وحيداً يردد مرثيته الأخيرة.

تحية للشاعر سلام كاظم فرج وهو يروي لنا مأساة المدينة وطيورها المقيدة.

***