صانعة الجمال.. سعاد هندي

صباح الأنباري

حين تتجلى فرشاة سعاد هندي بأسلوبها التجريدي فإنها تصنع لنا جمالاً أخاذاً متفرداً. أقول متفرداً لعدم وجود ما يشابهه في الواقع أو الطبيعة. إنها تمزج بين الاثنين معاً (الطبيعة والواقع) في لوحة تستنطق جمالها الخاص كما تراه بعينيها المدربتين القادرتين على الفرز والاجتراح والمزج بين هالاتها الضوئية في تكوين مركب نادر جداً لأنه متداخل في ذهنها الذي يتدفق بتيارات الحياة وديناميتها. وأكاد اجزم أنها تحاول وضع بصمتها في هذا المجال وان لم تكرر هذه القدرة كثيراً لتأخذ خصوصيتها وتقترن باسمها

كمبدعة لهذا الجمال المتفرد.

   في لوحة رقم (1) على سبيل المثال لا الحصر تبهرنا كثيراً، وتشدّنا بقوة الى التكوين السفلي لها بما ابتكرته من خطوط أفقية ناعمة، يشرق ببهائه عليها اللونُ الأصفرُ المشعُّ، وما اجترحت من هذا اللون في تجانس هائل لونياً وضوئياً حتى بدت الأرض وكأنها مصنوعة من مواد غريبة هي من ابتكار سعاد نفسها. إنها تصنع طبيعتها المميزة وتمنحها جمالاً خاصاً يميّزها فتفرض علينا تقبلاً كاملاً لذلك الجمال، وتأثراً واضحاً بسحره ودلالته التي لا تحد بحدود معينة.

    

سعاد هندي تخلق لنا كوناً نرغب أن يكون واقعياً لنحيا تفاصيله الدقيقة ولنتأمل كمّ السحر المتحقق فيه لكنها لا تقوم بذلك حتى يظلّ وجوده الذهني المتجدد أعلى مرتبة من وجوده الواقعي الرتيب. هذا كلّه في نصف اللوحة السفلي أما في نصفها العلوي فثمة سماء وإن بدت ملبدة إلا أنها تشعّ علينا بضوئها السحري، وبياضها المثير للتأمل، بهدوء لعمق دلالته، وبقوة لصخب أشعته فهي تثير فينا تفاؤلاً من نوع خاص يرجّح في نفوسنا الهدوء والسكينة والراحة المطلقة. هذه اللوحة التي اسميها قصيدة هي من وحي طاقة سعاد الإبداعية التي تحاول بها مجاورة شاعرية أثيرها رياض محمد في قصائده الأنيقة. إنها مصنوعة من الأكريليك وبعض المواد الأخرى التي لم تفصح عنها سعاد وهذا شأنها فقط ولا فرق عندي حين أتأمل هذه اللوحة أو أية قصيدة مميزة تحرك في داخلي رغبة التفاعل معها والكتابة عنها، وهي كمثيلتها رقم (2) من حيث الجمال وكم الإبداع المتحقق فيها وان اختلفت ألوانها، وهيمنت عليها زرقة أرادت سعاد أن تبثّ لنا من خلالها دفق الحياة، ونبضها، وديمومتها التي لم ولن تتوقف أبدا فالزرقة أبدية هذا الكوكب الذي ننتمي إليه بكيلتنا. وهو خالق الحياة والنافخ فيها من روحه الشفافة النقية والذي حل فينا وسيظلّ الى ابد الآباد. أما السماء فهي ذات السماء التي تعرّفنا على ألوانها وأضوائها وألقها في اللوحة الأولى فجمال الوجود منقسم على أثنين: الأول متأت من الطبيعة وسحرها وما جادت به علينا من الإبهار والدهشة، والثاني من فرشاة سعاد هندي التي لم تبخل علينا بما جادت به عليها شاعريتها اللونية الساحرة.

إننا أمام كرنفال من الألوان والأضواء والأحاسيس المتفجرة قلما نجده في لوحات أخر.

في لوحة رقم (3) يتسع ساحل البحر ويلتقي البحر بالسماء في تجانس فريد ومبهر هي السماء نفسها بلا تبدل أو تغير لكنها تتداخل أفقياً مع البحر والأرض الغريبة وإنْ فرّقهما سديم أفقي أو غيم سابح ممتد مع امتداد الأفق. أقول غريبة لأن عليها من الأحجار الكريمة وغير الكريمة التي تثير الدهشة والغرابة وكأنها من كوكب آخر لم نتعرف عليه إلا من خلال هذه اللوحة التجريدية التي ابتكرت مادتها من ذات الأدوات التي تألقت بوساطتها اللوحتان السابقتان.

ولم تكتف سعاد كفنانة تجريبية من الأسلوب التجريدي، بل طرقت أبواب أساليب مختلفة أجادت فيها أيضا أيما إجادة فقدمت لنا لوحات انطباعية تمثلت فيها نظرتها الفريدة للجمال الكلي أو تركيزها على جزء مهم يحقق مع الكلّ تكاملاً جمالياً هائلاً وجلّها من الألوان المائية التي تسيح على مساحة اللوحة مشكلة رأياً أو انطباعاً للفنانة عن ذلك الجزء من الطبيعة. إنها تنقل لنا وجهة نظرها وانطباعها حسب، وهي محقة في هذا فما نفع أن تكرر محاكات ما موجود في الطبيعة منذ الأزل! نحن نريد من اللوحة أن تعطينا ما ليس لنا القدرة على مشاهدته بعيوننا المجردة، وما لم يكن بمستطاعنا الوصول إليه، أو تحسس نبض الحياة فيه.

 

اعتقد - وهذا اعتقاد شخصي بحت - إن الألوان المائية هي الأقدر على نقل انطباع الفنان وهي لهذا اعتبرت أفضل الأدوات لتجسيد الانطباعات على مساحة اللوحة. وعدد المائيات التي جادت بها علينا أكثر من بقية اللوحات الأخرى فهي ميالة لنوع خاص من الجمال والأناقة والسحر الفني الذي يجعل اللوحة غريبة بعض الشيء عما هي عليه في واقع الحال. عيونها المبصرة المجربة وتفكيرها الخالص طالما امتزجا معا ليصنعا تركيبة فنية جديدة لها قدرة الإبهار، وتحريك الشعور الداخلي للرائي فيبدأ رحلة تأمله والغور في أعماقه أو في أعماق اللوحة وصولاً الى ما خفي عنه في نفسه، وحركت الرغبة في اكتشافه فرشاة سعاد هندي المذهلة. ومن خلال تجربتي وفهمي المتواضع لإحدى لوحاتها الفنية وأعني لوحة رقم (4) (وحشة الموت والرحيل) والتي جسدت فيها روح الفنان الراحل غانم بابان برموز لونية وضوئية تجلت لي صورة الحياة فيها كما رأيتها أنا وكما وثقتها سعاد فحركت في داخلي رغبة الكتابة المستوحاة منها فكانت مسرحيتي الصامتة (الرحيل نحو ضفة الصمت) والصمت هنا متأت من أكثر من رافد أو مصدر واحد فرحلات غانم بابان في الأعم حركات صامتة وإن كانت في جوهرها صاخبة، وصائتة، ومدوية. ولأن ألوان سعاد هي الأخرى تلوذ بصمت عبقري لذا فجّرت هذا الصمت المدوي في وحشة الموت والرحيل، ولأن الموت اقتنص في غفلة من الزمن روح صديقنا غانم لذا تحققت النبوءة التي صارت نذير شوم علينا وان كانت واقعية مجردة. وهكذا استطعت من خلال تفاعلي مع رموز اللوحة خلق نص صامت قال لي أحد الأصدقاء من الفنانين أنه رأى ملامح غانم وسلوكه فيه. وهذا منتهى ما أردت الوصول إليه فحققته أنا في المسرحية وسبقتني الفنانة سعاد الى تحقيقه في اللوحة.

 

سعاد هندي عُرِفَت بهدوئها الكتوم منذ تجاربها الأولى في أكاديمية الفنون الجميلة، وهذا يفسر لنا سبب ميلها الى الألوان المائية والأكريليك والأحبار الشفافة، وندرة استخدامها للألوان الزيتية ذات الكتل الثخينة والثقيلة والكثيفة. وعلى الرغم مما اتصفت به من الهدوء إلا أنها تفجّر غضبها وصخبها أحيانا من خلال غضب الطبيعة وتفجيراتها القوية المهلكة كما رأينا ذلك في لوحتي (عواصف1 و2) وسنجد العصف عندها يمتاز بالهدوء أيضا ولا نكاد نلمس له أثراً تدميرياً فهي راعية الجمال ومن واجبها الحفاظ على ذلك الجمال مهما ازدادت قوة الغضب وعنفه المدمر وهي لم تنس أبداً وضع حد فاصل بين غضب الأرض والسماء لأنها تدرك بفطرتها ووعيها أيضا إن اللقاء بين الغضبتين لم تبقِ ولن تذر. ومع معرفتها الدقيقة بوجود الأفق إلا أنها تبحث عن وجوده أو تريد لمتابع لوحاتها إن يجده بنفسه وان يستبصر قيمة الجمال فيه، وقد جسدت هذا من خلال التشكيل الفني في لوحاتها الموسومة بـ(البحث عن الأفق) والتي يبدو فيها الأفق متماهيا مع امتداد الطبيعة السحري.