فن الســــــــيلويت أو رسوم الخيال

لوحات الفنان المغترب لطيف الخطيب أنموذجاً

 

 

بقلم: صباح الأنباري

البدايات والريادة

فن السيلويت من الفنون المستحدثة التي ظهرت في المشهد الفني العالمي في القرن الثامن عشر في باريس عندما صرح به وزير المالية الفرنسي آنذاك ايتيان سيلويت (Étienne de Silhouette) كرد فعل على طبقة النبلاء الأرستقراطيين الذين كان دأبهم منحصراً في شراء اللوحات الفنية بأسعار طائلة مما حتم عليه دعوتهم الى (الاقتصاد المعقول) مشجعاً الجميع على شراء لوحات (رسوم الخيال) كما كانت تسمى والتي كانت رخيصة الثمن في ذلك الوقت، وربما أطلقوا على هذا الفن تسمية السيلويت تيمنا باسم ذلك الوزير.

والسيلويت كما عرّفه أحدهم:

(هو نوع من الفنون يعتمد على استعمال اللون الأسود على خلفية بيضاء لإظهار الحدود الخارجية للشكل، ويطلق عليه أحياناً التصوير التضادي لأنه ينفذ بطريقة عكسية للإضاءة أو الرسم، يعتمد هذا الفن في الأساس على الرسم لذلك يجب أن يكون فنان السيلويت رساماً حتى يجيد فيه.)

ومن هذا التعريف نحدد النقاط الآتية:

السلويت يمثل نوعاً خاصاً مستقلاً عن بقية أنواع الفنون المعروفة والشائعة-1

2-السيلويت يشتغل على الورق المقوى الأسود والأبيض، وليس على (canvas) الكانفاس أو المسطحات التقليدية.

3-السيلويت يعتمد على المقص كأداة فاعلة في تحديد (قص وتقطيع) مؤثثات اللوحة.

4-السيلويت كفن يشترط أن يكون الفنان رساماً قبل أن يكون سيلويتياً.

5-السيلويت يعتمد أساساً على التضاد الضوئي فتكون خلفيته مضاءة (بيضاء) بينما تكون مادة اللوحة معتمة (سوداء).

 ولم يقتصر هذا المصطلح على فن (رسوم الخيال) حسب، بل تعداه الى التصوير الفوتوغرافي الذي تحدث عنه بشكل ريادي متقن الأستاذ المصري عبد الفتاح رياض في واحد من كتبه التي تناول فيها التصوير الضوئي وكنت قد قرأت الكتاب أيام مراهقتي ولم اعد أتذكر عنوانه بالضبط (1). ولا بد من الإشارة هنا ونحن نتحدث عن فن السيلويت أن نشير الى ريادة هذا الفن عربياً على يد الفنانة المصرية فتنة رشاد التي أدخلته الى مصر بحدود عام 1968 والتي تأثر بها الفنان المصري محمد القاضي صدفة بعد مشاهدته معرضاً زراعياً ضم جناحاً خاصاً بالفنانة فتنة رشاد. أدهشه هذا الفن وراح يتوق الى تقليده وإتقانه حتى دخل، بعد فترة وجيزة، المجال الاحترافي فكان رائد هذا الفن عربياً أو هكذا اعتبره بعض الصحفيين والمتابعين لحركة الفن التشكيلي. يقول معترفاً بتأثير الفنانة فتنة رشاد عليه إنها منحته الفرصة ليشتغل على السيلويت في جناحها الخاص بمعرض (نقوسيا الدولي 1970) بعد أن طلبت منه الاشتغال عليه مباشرة داخل جناحها أمام زائري ذلك المعرض ليتعرف الجميع على وجود من تأثر بها وبفنها، ومن هنا كانت انطلاقته التي تبعتها عدة سفريات وعدة معار ض على مدى أكثر من خمسين عاماً.

هكذا يبدو لي أن حال الخطيب كحال القاضي تماماً، وأن ما حدث للقاضي صدفة  حدث للخطيب أيضا ففي إحدى زيارات الخطيب لمعرض بغداد الدولي اطلع على الجناح المصري وكانت الفنانة فتنة قد تبوأت فيه مكاناً خاصاً بفنها الجديد الذي أدهش الخطيب وأنبهر بأدائها المباشر وبطريقتها الفنية الملفتة لأنظار زائري المعرض، ومن تلك اللحظة راح يتدرب على تقليدها مبتدئاً بوجوه عائلته، ومثابراً على الوصول لأفضل حالة ترضي طموحه، وتطلّعه نحو الرقي والإبداع، ولما كان الخطيب رساماً بارعاً، وصانعا ماهرا للزهور الورقية لذا سهلت مهمته في ارتقاء درجة الإبداع في السيلويت، وحين عرض بعض نتاجه على فتنة في يوميات معرض بغداد الدولي انبهرت به وشجعته على الاستمرار، وهذا هو ما حصل معه بالضبط.

*

بدايات الخطيب الفنية

عندما التقيت بالفنان الجميل لطيف الخطيب في الحرم الجامعي داخل مبنى أكاديمية الفنون الجميلة وفي قسم المسرح تحديداً في سبعينات القرن الماضي وجدته كتلة من الفاعلية والنشاط الفني فالخطيب فضلاً عن دراسته المسرح كان يمارس فن الرسم ويتدرب على إتقان أساليبه المختلفة ولقد أدهشتني بعض أعماله وقتذاك، وفي جلسة خاصة في نادي الكلية عرض عليّ بعض لوحاته السيلويتية وكانت متقنة بطريقة لا تصدق، وأعربت له عن إعجابي بها فراح يحكي لي عن كيفية أدائها بالورق الأبيض والأسود والمقص فازددت إعجاباً به وبفنه ولم يمضِ وقت طويل حتى فاجأنا بقيام معرض له في الهواء الطلق تحت عنوان رئيس (وطني وراء الأسلاك 1973) على سياج حديقة الأمة في وسط مدينة بغداد العاصمة. وكان للمعرض صدى محبباً في نفسه وجمهوره وقد تناقلت أخباره بعض الصحف البغدادية وقتذاك مثل صحيفة الثورة وصحيفة الجمهورية والعراق أيضاً، لكن أعماله لم يتناولها ناقد ما، ولم يكتب عنها ربما بسبب حداثتها أولاً، وكونها غير مألوفة في المشهد الثقافي العراقي ثانيا، وعدم وجود مرجعيات لها ثالثا فلم يسبق للحياة الفنية العراقية أن طرحت مثل هذه اللوحات في المعارض التي أقيمت في بغداد أو في بقية المحافظات العراقية. على الرغم من أن بعض الصحف أجرت مع الخطيب لقاءات مختصرة تحدثَ فيها عن هذا الفن الوافد الذي أسس له ريادياً مكانة خاصة من خلال معارضه الاثنا عشر التي أقامها داخل العراق وخارجه.

في لوحته التي أخذ عنوانها من العنوان الرئيس للمعرض (وطني خارج الأسلاك) استطاع الخطيب - على الرغم من محدودية فضاء السيلويت واقتصاره على لونين فقط (الأسود والأبيض) - أن يتجلى بأفكاره التجديدية من خلال هذا الفن متجاوزاً حدوده (مساحته) الضيقة، وعابراً الى آفاق أوسع وأشمل، ولعل خير مثال على هذا لوحته الموسومة (وطني وراء الأسلاك) ومع إنها كانت من اللوحات التي شكلت بدايات الخطيب وخطوته الأولى على طريق هذا الفن الصعب إلا أنها لاقت استقبالاً جميلاً من زوار معرضه الأول سواء داخل العراق أو خارجه، وقد تناولت أخبارها عدة صحف منها: القبس الكويتية التي نشرتها مدعومة بقصيدة الشاعرة الفلسطينية فدوى طوقان التي تقول فيها:

كل ما املكه من ميراث جدي وأبي

          

أن أتحدى 

                                                                                                                                                                         

كل ما يسكنني من أعين الأطفال في المنفى المدمى

كل ما اسكنه في وطني الغائب

اسما ومسمى

صرخة تجرشني.. أن أتحدى

فما الذي ميّز هذه اللوحة عن غيرها؟

اعتقد بداية أن موضوعها هو ميزتها الكبرى لارتباطه بالضمير الجمعي العربي، وقدرته على بث روح الحماس والتحدي في نفسية المتلقي، ولقد أحسن الخطيب إذ جعل شخصية المتحدي امرأة وبالأحرى أماً تحمل طفلها مما جعل فعل التحدي أعظم أثراً، وأكبر تأثيراً فعلى الرغم من أنها تنوء بثقل وليدها إلا أنها قطعت السلك الأول لتفتح لها ولطفلها طريق العودة الى أرضها التي هجّرت منها قسراً. أما الخيام التي ظلّت وراءها (مخيم اللجوء) فهي الموازنة القسرية بين المسكن الأول (الوطن) ومسكن اللجوء (الخيام) التي تركتها سائرة نحو الأسلاك الفاصلة بينها وبين أرضها التي تقع وراء الأسلاك ومن هنا جاءت عنونة اللوحة والمعرض (وطني وراء الأسلاك) ومن الجدير بالإشارة أن المرأة رفعت طرف السلك الشائك بيدها اليسرى بينما رفع طفلها الطرف الآخر للسلك الشائك بيده اليمنى فبدا لنا أن فعل التقطيع والرفع جاءا بشكل مشترك بين الأم (حاضر الوطن) والطفل (مستقبل الوطن) مما أعطى اللوحة بعداً تجلى في عملية الفعل البطولي الناجز.

   قلنا إن النقد لم يواكب أعمال الخطيب الفنية، ولكن مما أثار انتباهنا أن أديباً كبيرا مثل جبرا إبراهيم جبرا قد كتب بخط يده في فولدر معرض الخطيب الموسوم (تنويعات عراقية بالظل والضوء) الذي أقيم في بغداد عام 1994 وهو العام الذي توفي فيه الأديب الموسوعي جبرا إبراهيم جبرا ما يا يأتي:ي:

(ما أروع ما تتواصل الحضارات!

وما أجمل أن ترى فنا ابتدعه أديب وسياسي فرنسي، هو اتيان دي سيلويت، قبل أكثر من مئتي سنة في باريس، يجد له تطويرا وإبداعا له في بغداد، على يد فنان عراقي، هو لطيف الخطيب استطاع أن يمازج بين قدرات التعبير بالأسود والأبيض وبين الحس الحركي الذي ملأ به لطيف الخطيب لوحاته السيلويتية.

وقد جازف الفنان بإضافة اللون الرمادي، الذي ما هو إلا مزيج الأسود والأبيض، فأوحى بتدرجات لونية تزيد من حس الغزارة في كل صورة.

      هذه اللوحات الدقيقة الصنع، بتفاصيلها البارعة جعلت هذا الضرب من الكولاج فنا منمنماً آخر، لنا أن نضيفه الى فن المنمنمات العربية ومهارات لطيف الخطيب إنما هي ثمرة أخرى من ثمرات المخيلة العربية الناشطة في إبداعات الفنانين العراقيين في هذا العصر)

وأهم ما أشار إليه الأستاذ جبرا في هذه الكلمة المكثفة والموجزة هو أن الخطيب قد أضاف اللون الرمادي للوحاته والذي أضفى عليها مسحة جمالية جعلت التدرج اللوني ذا أداء تشكيلي انسيابي جميل. وبما أن الخطيب جاء من أصول مسرحية لذا حفلت لوحاته بالتدفق الحركي الدرامي. وهذا هو الذي جعل لوحاته ذات قدرات حوارية ديناميكية انطلاقاً من موضوعاتها الأثيرة، ولا غرابة أن يقيم لهذه الحركات معرضاً تخصصياً كاملاً أطلق عليه (لغة الجسد 1991) وفيه صور رقصات عديدة من ثقافات مختلفة عربياً وعالمياً مركزاً بشكل دقيق على رقصة الباليه لما فيها من قوة حركية تعبيرية تعكس بشكل درامي جوهر موضوعاتها المطروحة للعرض. وبمناسبة الحديث عن المسرح لا بد لي أن أشير الى فن (خيال الظل) الذي يتشابه في أسلوبه مع فن السيلويت.

*

 نقلتا الخطيب الإبداعية

الخطيب إذن قام بنقلتين مهمتين في فن السيلويت: الأولى هي استخدامه اللون المحايد بين الأسود والأبيض والمقصود هنا اللون الرمادي الذي يحسب ضمن تدرجاتهما اللونية، والثاني هو الخروج من دائرة السيلويت الضيقة المحصورة في البورتريه وبعض حركات الجسد المحدودة الى فضاء أوسع وأشمل لموضوعات حياتية مختلفة مثل المرأة، والوطن، والعمال، والتحرير، والتراث.. إلخ. وبنظرة سريعة على لوحاته نكتشف حقيقة قدرته على إبداع مادته الفنية البسيطة من بيئته المحيطة. فباعتباره ابن مدينة بغداد فقد تأثر بمناظر شناشيلها المبهرة في شكلها العام، والدقيقة في تفاصيل أجزائها الصغيرة ونظرة عامة على لوحته الموسومة (شناشيل بغدادية) تكشف عن ذلك الولع المتأصل فيه منذ وقت مبكر من وعيه بحقيقة الأشياء. في هذه اللوحة ثمة عناصر مهمة أكد الخطيب من خلالها على عراقية المكان وشعبيته سواء من خلال أزياء الشخوص مثل: العباءة العراقية السوداء ودشداشة الصبي الذي يلعب على الشارع لعبة تحريك اطار منزوع من دراجة قديمة مستهلكة تم الاستغناء عنها، أو بعض الإكسسوارات الشعبية مثل السجادة وطريقة تنشيفها على سياج البيت، وطريقة نشر الغسيل على سطح المنزل هذا فضلاً عن طراز البناء البغدادي مثل الشبابيك ذات الأقواس العربية وشكل الباب الرئيس وما حفر أو نقش عليه، وشبابيك الطابق السفلي القريبة من الأرض عادة، وهيمنة مادة الخشب على واجهة البيت البغدادي. ومن المهم في هذه اللوحة أيضا الإشارة الى أشكال الشبابيك وطريقة تزجيجها وتخريمها ووضع القضبان (الشيش) عليها. اللوحة في العموم كانت دقيقة في اختياراتها التي تعمّق عراقتها وبغداديتها مع تحفظنا على ملاحظة شكل الطابوق المستخدم في عملية البناء والذي يشبه الى حد ما بلوك البناء الذي استخدم في وقت لاحق متقدم قليلاً على استخدام الطابوق العادي والطابوق الجمهوري الشائع في ذلك الوقت.

وفي السيلويت أيضا جمع الخطيب بين طراز البناء المعماري للمساجد العراقية الإسلامية، والطراز المعماري للكنائس المسيحية العراقية ففي لوحة (جامع أم الطبول) نشاهد الرموز الآتية: ملابس الشخوص الشعبية: العباءة والعقال والشماغ للشخصية المتقدمة نحو المسجد ومن ورائها شخصية الرجل المسن بسترته الطويلة (البالطو) ودشداشته البيضاء وعمامته السوداء أما الشخص الثالث فيرتدي الطاقية والعقال والدشداشة العراقية السوداء يلحق بهم متوجها الى المسجد أيضا الرجل الذي يبدو انه يرتدي الملابس المدنية (الأفندي) وبهذه التشكيلة الرباعية جعل الخطيب لوحته تعكس الملامح الاجتماعية لذلك الزمان وهويته فضلاً عن الحركة واتجاهها والتي تشير الى إسلامية موضوعها العام. أما المسجد نفسه فقد وضعه الخطيب فوق عدد من الدرجات ليعلو على سائر موجودات اللوحة بقصد منحه درجة قصوى من القداسة. ولم تفت الخطيب جعله – معمارياً- يعكس الطابع الإسلامي الشائع في المعمار العراقي الإسلامي من حيث شكل المآذن والقباب التي تعلوها الأهلّة. ومما يشار إليه في هذه اللوحة هو الآية التي تعلو واجهة المسجد وهي تدل على مدى الدقة التي برع فيها الخطيب في فنه الجميل هذا.

في لوحة (كنيسة القديسة تيريزا) اشتغل الخطيب على الرموز نفسها وكأنه يريد عمل موازنة أو مقاربة مقصودة بين طرفيهما وأولها الأزياء فالمرأتان ترتديان الملابس التي يمكن القول إن فيها توصيف أدق للمرأة العراقية/ المسيحية التي ترتاد الكنيسة مع ابنها الصغير، وما قلناه عن معمارية المسجد يمكن أن نقوله عن معمارية الكنيسة على الرغم من أن الكنيسة بنيت على وفق الطراز الفرنسي فكلاهما ذو طابع شرقي واضح. ومن رموز معمارية الكنيسة: الصليب الذي يعلو البناء المثلث وهو من الطراز الغربي البحت وشباك التهوية الدائري وهو منفذ دخول وخروج الهواء من والى الكنيسة، مع بقاء الشبابيك ذات الأقواس العربية على حالها.

 الخطيب بطبعه يحب الجميع، ويقف على مسافة واحدة من الجميع ويتجسد فكره في الجمع بين الأطراف الدينية والمذهبية والعرقية ولهذا فانه يعطي للكل المساحة نفسها في فكره وفي لوحاته أيضاً.

بقي أن نقول في نهاية المطاف إن الفنان لطيف الخطيب أقام معارض له في كلّ من ألمانيا وتشيكوسلوفاكيا وبولونيا وكان النجاح حليفه أينما حط الرحال، وحيثما أقام معرضاً من معارض السيلويت الاثنا عشر....

...................................

(1)  أما كتاب آلة التصوير وهو المرجح أو التصوير الضوئي.