" المخطوطة اليومية" بين العرض وإشكالية المصطلح

صبـاح الأنباري

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

        لابدّ قبل الدخول إلى " المخطوطة اليومية" أن نشير إلى إشكالية المصطلح الفني في عروض تأخذ من المسرح صفاته الدرامية، ومن الرقص صفاته التعبيرية، ومن البانتومايم صفاته الإيحائية، وقدراته الأدائية موحدة هذه الصفات جميعا، ومركزة على صهرها في بوتقة واحدة هي العرض الجديد الناجز على الخشبة. ومن البديهي أن تتغلب بعض الصفات على أخرى فتطبع العمل بطابعها وتملي على المخرج أو مؤلف العرض اصطلاحها. فمرة تقدم على أنها " رقص درامي " كما هو الحال مع العرض العراقي (نار من السماء) ومرة كعرض مسرحي راقص كما هو الحال مع " المخطوطة اليومية " التي قدّمت مؤخراً من على خشبة المسرح الدائري في المعهد العالي للفنون المسرحية. فهل كانت هذه " المخطوطة "، حقاً، عرضاً مسرحياً راقصاً؟

        المسرحية دراما لها شروطها وعناصرها، فهل تضمّن العرض هذه العناصر والشروط بما يضمن، لنا تسميته عرضاً مسرحياً راقصاً؟ وهل يمكننا أن نستخدم كلمة مسرح أو عرض مسرحي لمجرد إننا نقدم فعالياتنا على الخشبة؟ هذا ما سنحاول الإجابة عليه ونحن نتناول مفردات العرض الراقص " المخطوطة اليومية".

        لقد اقتنص الأستاذ معتز ملاطيه لي، بمهارة المبدع ومقدرة الفنان، فكرة بسيطة متواضعة من الواقع المعيش، لكنها تحمل، بالرغم من بساطتها، معان كثيرة أو أننا نستطيع تحميلها معان مختلفة نظراً للاختلافات الكبيرة والكثيرة التي تمس جوهر إيقاع حياتنا اليومية. اشتغل على هذه الفكرة في محاولة منه عرض أفعالنا اليومية الرتيبة بطريقة تستبعد الرتابة لأنها تعتمد، أساساً، على طريقة تعبيرية محكوم عليها بالاختزال والتكثيف والتركيز وتحويل الأفعال إلى حركات والحركات إلى صور بتجميعها يتحقق المعنى العام للعرض. ولأنها " مخطوطة يومية " فقد بدأها مع صياح الديكة الذي يعلن عن انبلاج صباح جديد في مظهره ورتيب في جوهره. ومع ضجيج السيارات وزعيق أبواقها وأصوات الإعلان عن بعض السلع بواسطة الطرق أو النقر أو الزعيق تدخل مجموعة من الشباب والصبايا تؤدي كما في كلّ صباح رياضتها الصباحية بينما يتوسّد مزبلة المدينة رجل متسوّل ربما نصب نفسه ملكاً للقمامة التي تتحول، عنده، إلى عالم حيوي ينام فيه عليها ويأكل منها ويجد مفاتيح حياته فيها مع زقزقة العصافير ينهض ليغسل وجهه بقنينة ماء يحتفظ بها تحت ملابسه ويدحرج برميلاً من براميل القمامة ليجلس أو يتكئ عليه. ثم تدخل المجموعة مرتدية زياً رصاصي اللون تؤدي حركات كثيرة بعضها غير واضح وبعضها مشوش المعنى كان الأحرى بالمخرج أن يقنن وأن يهتم بتشكيل صورها الموحية. وحسناً فعل إذ جعل المجموعة ترتدي الملابس الرصاصية الباهتة وهي تؤدي استعراضاتها لأعمال ومهن مختلفة أمام خلفية المسرح السوداء مما أعطى المشاهد إيحاء بحياته الباهتة الداكنة. لكن اختفاء الألوان في هذا المشهد وفي مشاهد أخرى، في لحظات مرح المجموعة وإيقاع حياتها المتسارع أعطى انطباعاً ناقصاً فكانت الفرحة المتحققة التي يثيرها الرقص باهتة أيضاً، وفي هذا مغايرة لطبيعة الإنسان الداخلية، إلا إذا كان المخرج قد فعل هذا بقصدية لم تتضح أهدافها بعد. لقد عطف الفنان معتز ملاطيه لي هذا المشهد، الطويل نسبياً والصاخب الضجاج بكل أصوات الضجيج اليومي، على مشهد تمثيلي صامت هادئ كسر بوساطته رتابة الإيقاع كسراً متناغماً تماماً كما يتناغم القرار والجواب في ملحنة موسيقية.

        وأصّر، عبر مشاهد مختلفة من العرض على توضيح بعض الجوانب اليومية التي لا تحتاج إلى توضيح بينما خلت مشاهد أخرى من ذلك التوضيح خاصة مشاهد الرقص الجماعي. فمشهد الشارع المزدحم بالبشر المكتظين على قارعته وإلقاء التحية بعضهم على البعض الآخر وما إلى ذلك من حركات وتكرارات أعطت صورة جلية واضحة عن حالة الشارع اليومية. وكان يمكن في هذا المشهد من العرض، الاقتصاد بالحركات بدل التكرارات أو استبدال الحركات بأخرى تعمل على تعميق المعنى وتكسب المشهد دلالة وقوة وإيحاء. لقد أدت الحركات الكثيرة إلى التشويش على مشفّرات العرض وطبعها بالطابع التعبيري المشوّش وهذا بدوره أبعد المشهد عن الدرامية وقرّبه إلى عفوية استبعدت النسق و الائتلاف و التشكّل بينما أضفت المشاهد الصامتة، التي ضمّنها المخرج لوحات راقصة كمشهد الرجل و المرأة وهما يعاقران الخمرة ، ومشهد المتسوّل الذي يحاول اغتصاب المرأة ، درامية كبيرة على العرض خاصة إنها كانت مبنية بناء محكماً متضمناً على الفعل و الحركة و الصراع وهذه كلها عناصر درامية تمنح المشهد صفة درامية مسرحية كان يفترض بالمخرج أن يشتغل عليها وهو يصمّم رقصاته الدرامية لنستطيع ، في النهاية ، الحكم على عمله كونه عرضاً مسرحياً راقصاً.

        لقد نجح المخرج في ملء مساحات المسرح الخالية وفضاءاته بكتل بشرية وأجساد شفّر بها دلالات كثيرة سهل استلامها على المشاهد في كثير من الأحيان. فالمساحة الدائرية كانت مسرحاً للأحداث الصاخبة العنيفة يدور عليها الراقصون كما يدور الناس في دوائر حياتهم اليومية ودّواماتها المغلقة. والمساحات الخلفية للخشبة كانت مسرحاً لأحداث أقل ضجيجاً، ولكن لم تكن بالضرورة أقل عنفاً وصراعاً كمشهد الرجل والمرأة في المشرب وما دار بينهما من عناق وفراق وإغراء واشتهاء ومضاجعة وخلاف تجلّت محصلته في ضرب بعضهما بعضا الآخر بالصحون. ومشهد الشارع الذي أشرنا إليه سابقاً. وفي كل هذه المشاهد أجاد الممثلون والراقصون التعبير، بأجسادهم، وملأوا المساحات الخالية بإتقان الفنان المجرّب وحماسة طالب الفن الطموح. وإذ قارب العرض على الانتهاء وبدأ الراقصون بالاسترخاء والاستسلام للنوم بعد قلب آخر صفحة من صفحات " المخطوطة " ظلّ المتسوّل يقظاً ينظر إليهم من فوق المسرح، من نافذة مطلة على الأحداث اليومية وبذا يكون المخرج قد أستثمر كل بقعة وكل مساحة من مساحات المسرح الدائري، خشبة وفضاءً استثماراً ناجحاً. ولم يقلْ عنه نجاحاً وإبداعاً المؤلف الموسيقي ومخرج المؤثرات الصوتية الفنان رعد خلف التي كانت موسيقاه موحية ومشكلة خلفية موحية للحدث. والأكثر من هذا أنها كانت تسبغ على بعض الأحداث جواً درامياً مؤثراً عمل على تصعيد الحدث الدرامي في المشاهد كلما أراد المؤلف الموسيقي ذلك انسجاماً مع طبيعة ما يقدم آنياً على الخشبة. وتجدر الإشارة، هنا، إلى استخدام المؤلف الموسيقي بشكل مبدع لصوت الصافرات من قبل الراقصين أنفسهم استخداماً مبدعاً أصم الآذان وكأني به يريد أن يؤكد على عبثية الحياة اليومية وضجيجها القاتل بشكل كبير وبرمز خاطف.

        إن ما يقال عن المؤلف الموسيقي هنا يقال على الفنيين جميعاً والراقصين جميعاً الذين بدت جهودهم متظافرة ومثمرة في عرض أمتعنا كثيراً وذكرنا طوال ثلاثة أرباع الساعة بصخب حياتنا اليومية وضجيجها الفارغ لتخلق في نفوسنا إيقاعاً مغايراً لهذا الإيقاع الرتيب.