منعم الحيالي

طقوس منعم الحيالي السومرية

 

منعم الحيالي فنان مثابر عمل بلا كلل أو ملل، وبدأب وصبر كي يحقق حلماً طالما راوده، وهو حلم المبدعين جميعاً مهما اختلفت وسائلهم الفنية، وأساليبهم التعبيرية، وأدواتهم التقنية. الحلم بسيط ومتواضع جداً ولكنه في الوقت نفسه معقد جداً يصعب الوصول إليه كصعوبة مطاردة المبدع لحدوسه المنفلتة بغية الوصول إليها وإمساكها وتطويعها لتقنية فنية تلامس فكرته، وتحوّل حدسه الى واقع داخل عمله الإبداعي. والسؤال، أو الأسئلة التي تطرح نفسها هنا: هل كانت لوحات الحيالي تمتح من أسلوب الواسطي ومنمنماته على سبيل المثال بغية التأصيل والعصرنة؟ أم إنها تحاول مجاورة بعض الأساليب الغربية الابتكارية؟ وهل ثمة رموز تم اجتراحها من هنا وهناك للدافع نفسه؟ وأخيراً هل عمل الحيالي على التأصيل كرابط حضاري، وعلى المعاصرة كمقوم أساسي؟

ومن خلال معاينتنا للوحات عديدة وجدنا (عند الحيالي) ثمة ما هو مشترك بينها وبين تلك اللوحات بشكل عام، وانفصالاً عنها بشكل خاص فضلاً عن استقرائه واشتغاله على بعضِ رموزٍ من الحضارة السومرية وما لها من دلالات فنية وإيحاءات فكرية. وبشكل عام يمكننا القول إن أعمال الحيالي الأخيرة (18 لوحة) قد ارتكزت على ثلاث بنى أساسية هي: الماء والمرأة والطبيعة المغمورة.

وبالعودة الى الواسطي (يحيى بن محمود) نجد أن المشترك في أغلب لوحاته هو الجمل والحصان وهما الحيوانان المرتبطان بيئيا بالحياة الصحراوية البدوية العربية ويقابلهما، عند الحيالي، السمكة وهي الحيوان المرتبط بيئيا بالحياة المائية سواء أكانت نهرية أم بحرية. وهي عند الحيالي تتعارض مع مبتكرات الواسطي وتختلف عنها وأن كانت تجاورها. ويتجلى هذا الفارق في اختلاف البيئتين بيئة الصحراء وبيئة الماء، ونتاج كل منهما. وإذا كانت الأسماك هي الأثيرة في رمزية الحيالي فما هو السر الذي منحها كل هذا الاهتمام؟ تقول أخبار بلاد ما بين النهرين أن الكهنة والملوك كانوا يضعون على رؤوسهم جلود الأسماك حتى غدت مقدسة لديهم ولدى عامة الشعب. كان ذلك قبل أن تتطور حضارتهم وتبتكر الشماغ بديلاً عن جلد الأسماك ثم اخذ شكله ولونه المعروفين في وقتنا هذا

والدليل على ذلك تمثال الملك جوديا (في متحف اللوفر) وهو يعتمر شماغا ملفوفاً حول رأسه.

البنية الأولى لم تفارق لوحات الحيالي الثمانية عشر لكنّها في كلّ لوحة تمنحنا بعداً مختلفاً بالتجاور مع بنية المرأة والرموز التي تترك عادة انطباعاً في ذهن الفنان والمتلقي وهي رموز ذات تكثيف عال أو لنقل إنها دالات لمدلولات واسعة تعكس مراياها حياةً بأكملها: فالأقواس العربية، والمحاريب الإسلامية، وأشباح الآلهة عشتار وثورها السماوي والمزمار (الزرنة) والدف وأشجار النخيل كلّها تعكس روحاً شرقية بشكل عام وعراقية بشكل خاص. لقد جاءت عشتار راكبة ثورها السماوي الى الأرض لكن كلكامش ورفيقه أنكيدو الجبار مسكا به وطرحاه أرضاً (اللوحة الأولى) فأنزلا الحزن على قلبها المتيم المكلوم. وهكذا وضع الحيالي الثور وعشتار في ثلاث من لوحاته الأخيرة: في الأولى تجلس عشتار على ظهر ثورها - نازلة به الى الأرض – كما أسلفنا - وعلى رأسها سمكة وعلى يدها اليسرى سمكة أخرى. والحيالي ينظر الى هذه الموجودات من خلال الماء الذي يغمر اللوحة كلّها، ويمكننا تخيل هذا الأسلوب أذا افترضنا أنفسنا ونحن ننظر، من وراء زجاج الحمام المشبع بالبخار وقطرات الماء السائحة عليه، الى خارجها فنراه مشكّلاً على هيئتها، وبهذا تجتمع البنى الثلاث التي مرّ ذكرها في لوحة واحدة. ويضيف الحيالي ما يمنح اللوحة الثانية طابعاً سومرياً بحتاً بوضعه خطاباً مسمارياً يمتد فيتلاحم مع رأس الثور، بينما لا تزال عشتار تمسك بأحد قرنيه. وفي الثالثة يظلّ رأس الثور على ما هو عليه بينما تتحول أجزاؤه الأخرى الى بياض نوراني مشع، وكذلك عشتار التي تحولت الى كتلة ضوء أبيض مشع وهي تعود الى السماء حزينة لفقدها ثور الآلهة، وراكبة صهوة سمكة جامحة. ولن ينسى الحيالي وضع سمكة على رأسها بل أن شعرها المسترسل الجميل قد تحوّل الى سمكة وتداخلت خطوطه بخطوطها وكأنهما صنعا من مادة واحدة.

في هذه اللوحات جسد الحيالي الشخوص بطريقة سحرية أثيرية لا حدود واضحة لها وكأن هذا من متطلبات الأسلوب الذي ابتكره لنفسه ليكون خاصاً به ومتفرداً عن غيره وجوهر هذا الأسلوب يكمن في مد الفرشاة على الكونفاس محملة باللون على هيئة خطوط (سرب) صغار الأسماك التي تشكل ما يشبه الموجة الأفقية الممتدة داخل الماء وتموجاتها التي تشبه خيطاً متقطعاً ومتواتراً أو خيطاً عمودياً أحياناً (كما ورد في قصيدة مظفر النواب: مثل خيط السمج روحي) إشارة الى الماء المتساقط من خاصرة السمكة بعد إخراجها من الماء، ومن مجموعة هذه الخطوط تتشكل اللوحة بطابعها المميز والمبهر ليس هذا وحسب بل أضافت عليها الألوان التي اختارها الحيالي/ الفنان ألقاً ورونقاً وانسجاماً مدروساً (Harmony).

لقد اشتغل الفنان منعم الحيالي على قصة عرفناها من خلال مطالعتنا لملحمة العراق القديم (كلكامش) وشاهدنا جزءا منها أو بعضَ أجزائها في لوحات كانت القصة فيها رمزية، إيحائية، ومرئية بتموجاتها السمكية السابحة في فضاء اللوحة المائي، وسحرية بأجوائها الخلابة. وضمن هذه الفضاءات أيضاً يطلع علينا الحيالي بلوحة ذات نكهة عراقية نرى فيها امرأة بعباءة سوداء، من تلك العباءات التي شاع لبسها في العراق، جالسة على متكأ ومتداخلة فيه لتتشابك خطوطهما معاً ولم ينسَ الحيالي وضع رؤوس المسامير أو المثلثات التي صنعت منها حروف الكتابة المسمارية كهمزة للوصل بين الحاضر والماضي. التموجات هنا جعلها طولية في جزء اللوحة الأيسر وعرضانية في جزئها الأيمن والسمكة تتجه بشكل رأسي نحو أعماق اللوحة بعد أن تداخلت خطوطها مع خطوط وجه المرأة. اللوحة بشكلها العام تشبه مادة حلمية يمكن تأويلها من عدة زوايا كلّها تتخذ من السحر والفتنة مادة أساسية لها. في لوحة أخرى طاب لي أن أضع لها (الطوفان) عنوانا وهو طوفان عجيب أذ لا تتجاذب مادتها الحلمية بواقعها الوحشي الملموس أو المحسوس فهل ثمة طوفان يحدث للماء داخل الماء؟ في عالم الحيالي نعم يحدث لأن عالمه في الأصل عالم مائي وان رؤيته لا تتجلى إلا من خلال الماء. فالمدينة بكل ما فيها قد غدت غائرة ومغمورة بالماء داخل الماء. إنها حياة أخرى ماثلة في مخيال الحيالي وغائرة في ذهنه ومغمورة حتى آخرها بالماء. ولكن أي المدن تلك وما علامتها ودلالتها وهل هي سومرية فعلا؟ اللوحة توحي لنا بذلك من خلال رموزها الواضحة الآتية: نافذة وباب بأقواس شرقية معروفة، نخيل باسق ومتعامد على قاع اللوحة، أسراب من السمك النهري، بُسُط بألوان وحياكة سومرية الأصل، كوخ جنوبي صغير، ورؤوس مسامير سومرية.. إلخ.

لقد ملّ الحيالي من الحياة الواقعية وماديتها فراح يبحث عن حياة أخرى فوجد ضالته في الماء حيث النقاء والطهر والخلاص من الرجس الذي غمر الحياة الواقعية وبث فيها سمومه القاتلة.

مما تقدم نخلص الى أن الفنان منعم الحيالي قد أصاب هدفه عندما أطلق على لوحاته الثمانية عشر عنونة دقيقة تمثلها من حيث الانتماء (طقوس سومرية) فقد كانت سومرية فعلاً بما احتوت من رموز وعلامات وشخوص وأجواء. وإن كنا نميل الى تسميها (إضاءات) بدلا من طقوس ( (Ritual لأن الطقوس هي ما يمارس من إجراءات معروفة من قبل عدد من الشخوص وغالبا تكون ذات طابع ديني. وبهذا كله حقق الحيالي الترابط الفعّال بين المادة التراثية وأسلوبه المعاصر في تناولها وهذا ما أشرنا إليه تحت مسمى (الاتصال) ولكنه في الوقت ذاته لم يقع أسير مادته التراثية ولم يستمر في المراوحة على مكانها، بل ابتكر بريشته ما يجعل مادته الخاصة موضع اهتمام المتلقي المعاصر وهذا ما أطلقنا عليه تسمية (الانفصال) ومن هاتين العملتين (الاتصال والانفصال) خلق الحيالي مادته الفنية والفكرية التي ترقى الى مستوى العالمية بمعنى سهولة تلقيها وتقبلها من لدن المتلقي الغربي. في اللوحة الخامسة ثمة رموز سومرية أيضا: قرنان موسومان بمثلثات سومرية، نوافذ ذات أقواس شرقية (روازين) سمكتان تلصقان فمهما على ثديي المرأة التي تشبه عشتار، وسمكة أخرى مستعدة للافتراس، القرنان يخترقان بقوة وشراسة كتل الألوان التي وضعت أمامهما وهما معا خلف رأس الآلهة التي استحال لونها الى اللازورد وهي ترى الحياة بما أوتيت من رغبة واشتهاء وتكرار ولاداتها وفي عالمها الهادئ هذا ثمة من يفترس الوجود من أبنائه أنفسهم ممثلون في اللوحة بالسمكة التي تحاول افتراس ما موجود أمامها بفطرة ربما تقودها الى ذلك، وربما أراد الحيالي هنا القول: إنه حتى في هذه الفضاءات الراقية النقية ثمة من يخرّب الحياة ويملأها رعباً ودماراً وهذه ميزة بشرية عامة وشائعة بين بني البشر. الحيالي إذن يذكرنا دائما في لوحاته بكل ما يجعل الحياة على الأرض بائسة لا تطاق ولا تستحق العيش، وان كان ذلك برموز صغيرة عابرة داخل عالمه المائي. ويرينا في لوحة أخرى كيف أن القوة الغشوم تمزق المرأة وتنهشها فتشوه بذلك صورة الجمال السحري المتمثل بها أو بعشتار لا فرق فالضحية واحدة في كل الأحوال. وأدوات التشويه واحدة في كلّ العصور. وان عمود الدم الهائل يحيل الجسد الإلهي الجميل الى مزق ملطخة بالدم وهو يرتقي صعوداً الى الأعلى وهذا هو هدفه الأكيد. الذي سعى الحيالي الى فضحه أمام أنظار مجتمعنا البشري الكبير (انظر وتأمل في اللوحة الخامسة).

في اللوحة السادسة وبعد طغيان القوة الغاشمة يلوذ البشر وحتى الحيوان بالهرب من عالم الظلام الى عالم النور والحياة المشرقة النقية ففي جانب اللوحة الأيمن تتكاثف الألوان خاصة البرتقالي والأحمر لتصنع عالما من الخراب، والتهديد، والموت، والدمار، والفناء وعلى يسار اللوحة يشع اللون الأبيض متوهجاً على الرغم مما فيه من الألوان الدخيلة الباهتة. وللحركة في هذه اللوحة قيمة جمالية كبيرة فالكائن البشري يترك منشآته (بيوته) هارباً قافزاً نحو جهة النور، والسمكة تترك وسطها المائي قافزة مبتعدة عنه الى جهة النور أو فسحة الأمل المتبقية الوحيدة للكائنات المائية جميعها.

لقد استطاع الفنان منعم الحيالي ابتكار أسلوب نتمنى عليه تطويره أكثر وأكثر بمدّه بالأفكار الحرة، والرؤى المتقدمة من أجل ترسيخه كعلامة فنية بارزة في عالم الفن التشكيلي المعاصر محليا ودولياً. ولا يسعنا إلا أن نقول في نهاية مقالنا هذا شكرا يا منعم لأنك منحتنا كل هذا الجمال، والسحر، والفتنة، واعدت بمقدرة ومكنة فنيتين رسم تراثنا بأدوات وأفكار فنية حداثوية.

اديلايد 2022