دقة التنقيط والرموز

في لوحات الـ(الابوريجينال) سكان أستراليا الأصليين

 صباح الأنباري

   الفن التشكيلي في أستراليا يعود تاريخه الى الأيام الأولى التي وصل فيها السكان الأصليون (Aboriginal) قبل (60.000) عام من الآن. وان أول الأدلة تشير الى وجود الكثير من الآثار التي تعود الى (30.000) عام وتنحصر بكمية الصخور المكتشفة التي تحمل رسومات السكان الأصليين الموجودة في الحدائق الوطنية على امتداد أستراليا، والمصنفة من قبل منظمة اليونسكو كمواقع للتراث العالمي. مثل اولورو وحديقة كاكادو الوطنية في شمال البلاد، والرسومات الموجودة على صخرة (برادشو) في منطقة كيمبرلي في الجزء الغربي من أستراليا أما عمر النقوش في مدينة سدني لوحدها فتعود الى (7000) عام تقريباً هذا فضلا عن الرسوم المكتشفة على جدران الكهوف، ويعتقد أن التقاليد الفنية الخاصة بالابوريجينال هي من أقدم التقاليد التي لا تزال مستمرة حتى يومنا هذا. لقد نهل الابوريجينال موادهم الفنية من الطبيعة الغناء التي تحيطهم فرسموا مناظرها الخلابة، واستخلصوا منها مواد الرسم كلّها من النباتات والأعشاب البرية وأجادوا رسم الكائنات الموجودة على الأرض الصحراوية من زواحف، وسحالي، وحيوانات برية مثلما برعوا في رسم الدروع والسلال وكل هذه الموجودات تعد جزءا من حياتهم المرتبطة بالأرض بشكل مباشر فهم يعتقدون أن هذه الأرض هي أرضهم وان لهم الحق فيها كسكان أوائل، وكمالكين شرعيين انتقلت لهم ملكيتها من الأجداد الأوائل الذين سكنوها واستوطنوها منذ آلاف السنين. وقد بينت احدى الدراسات الموسعة للحامض النووي للأبوريجينال أن جذورهم ترجع إلى أكثر من خمسين ألف سنة مما يعزز القول إنهم أقدم حضارة مستمرة على وجه الأرض. ومن الجدير بالذكر أن سكان أستراليا الأصليون استخدموا المغرة وهي صبغة تصنع من الطين الأحمر فضلاً عن الفحم والأصداف المطحونة التي يتم مزجها مع الدهانات الحيوانية، والراتنجات النباتية وكلّها صالحة للاستخدام على الورق والقماش والصخور. وتختلف هذه المواد من الناحية الأدائية من مكان الى آخر بحسب ثقافة المكان وتقاليده الفنية المختلفة. يقول أحد الباحثين في هذا الشأن:

       

                                                                                    

(إن بعض المواد الشائعة التي يستخدمها الفنانون الأصليون يشملون:

- الألوان الطبيعية الزيتية التي تستخدم في الرسم، والتي تشمل الألوان المستخرجة من النباتات والحجارة، والطين، والحجر الجيري، والفحم.                                                                                                                                                                        

- المواد النباتية التي تستخدم في النسيج، والتي تشمل الألياف المستخرجة من النباتات مثل الشجيرات وأشجار الصنوبر والنخيل.

- الخامات التي تستخدم في صنع أدوات الصيد والأسلحة، والتي تشمل الخيزران والخشب والحجر والعظام)

ومن خلال زيارتي لبعض المشاغل الأسترالية (Studios) الخاصة بالابوريجينال وجدت أنهم لا يستخدمون طاولة الرسم، ولا حمال اللوحة (ستاند (stand بل يفضلون الجلوس على الأرض، والشروع باستخدام الألوان بطريقة خاصة تماماً. ولعل أبرز تلك الخصوصية تتجسد في استخدامهم أسلوب التنقيط الذي يبرعون فيه براعة متفردة. عندما كنت في العراق حدثني أحد الفنانين انه أول من استخدم التنقيط في الرسم، ونال شهادته في ذلك من بولونيا التي أكمل دراسته فيها. وفوجئت أن سكان أستراليا الأصليون سبقوه بآلاف السنين. ترى هل اطلع ذلك الفنان على المنجز الأسترالي ونسي حقيقة ذلك فنسبه لنفسه دون قصد؟ أم تراه لم يطلع فعلاً على هذه الأسلوب التقليدي لسكان أستراليا الأصليين؟ لقد غادرنا وتمنيت لو كان على قيد الحياة ليجيبنا عن شكنا هذا.

من خلال مشاهداتي للمنحوتات واللوحات الخاصة بهذه الفئة الاجتماعية العريقة من الشعب الأسترالي دهشت من قدرتهم على تجسيد أحلامهم بلوحاتهم الفنية والتي اعتادوا على وضع عناوين لها تتضمن مفردة حلم مصحوبة مع مفردة أخرى لبيان حقيقة ما يريدون الوصول إليه عن طريق تجسيده بفرشاتهم أو أي أداة للرسم يستخدمونها لهذا الغرض مثل: حلم الموت (Death Dreaming) وحلم الماء (Water Dreaming) وحلم الحيوانات مثل: حلم والابي (Wallaby Dreaming) وهو حيوان صغير الحجم يشبه الكنغر.. إلخ. هم يعتقدون انهم يجسدون في لوحاتهم وقت الحلم (Dreamtime) وهذا امر في غاية التعقيد بالنسبة لنا لكنه ممكن جدا بالنسبة لهم فهم يتبعون فطرتهم من دون تدخل للحضارة والمدنية التي تفسد تلك القدرة على الاستخلاص والاستنباط والاجتراح.

 في لوحة حلم الموت ثمة تجسيد لرؤية الرسام الحلمية من خلال:

العدد الهائل لكم النقاط المستخدمة بإتقان.

 

الألوان المحاكية للطبيعة.

 التصوير من زاوية شاقولية (فضائية)

 

ومن خلال نظرة عامة (عن بعد) لهذه اللوحة نرى الكائنات الأرضية التي تعيش في بيئتهم مثل: السحالي، والطيور، والأسماك، والضفادع، والتماسيح، يتوسطها هيكل عظمي لأنسان عاش وسط هذه الكائنات المفترسة وانتهت حياته بالموت ومن ثم تحول الى هيكل عظمي لم يعد يغطيه اللحم البشري الحي، وعلى جانبيه وضع ما يشبه نعشين أحدهما كبير ربما هو من أجل الرجل وأخر صغير ربما هو من اجل المرأة، وثمة عيون دائرية منتشرة على أرجاء اللوحة توحي أن الإنسان محاصر بها ومراقب طوال الوقت من قبلها. وأنها -مهما طال الوقت أو قصر- ستقضي عليه فهي لا تزال الأكثر والأقوى هكذا يتحول حلم الموت الى كابوس يؤرق إنسان الابوريجينال، ولا يجد فكاكاً منه مهما فعل فهو لم يمتلك بعد أدوات القتل والدمار التي ستخرب البيئة، وتقضي على الطبيعة وفطرتها الديناميكية يقول باحث في شأن سكان أستراليا الأصليين:

(لقد أكسبتهم فلسفة الأحلام رؤى تجاوزت ما يصفه الأبوريجينال باضطهاد المستعمر الأبيض من مجازر وقتل ومحاولات التخلص كليا من العرق الأسود، واستعباده وطمس معالم هويته على مدى قرنين من الزمن.)

   في لوحة حلم الماء نجد أن اشد ما يخيف الرسام هو أعماق المياه المجهولة وما فيها من الكائنات الغريبة، كلّها جاءت على هيئة نقاط مرصوفة على وفق مهمة الحلم ولم تختف الدوائر في هذه اللوحة التي ترتبط ارتباطا مباشرا مع معتقدات السكان الأصليين وروحانياتهم وقداستهم.

الماء شفاف ونقي ويمكن الرؤية من خلاله، ورؤى الرسام تخترق الماء لتصل الى أعماقه القصية وعجبت من هذه الرؤيا التي لم تقتصر على ما تحت الماء، بل أنها يمكن أن ترى الأرض من الفضاء وكيف تبدو للرسام وان اعتمد كلياً على فطرته وإحساسه وحدسه أيضاً والا كيف تسنى له أن يرى ما ليس بإمكانه في ذلك الوقت. وكيف أدرك اللغة البصرية الفريدة ووصوله الى التصاميم المعقدة والجريئة باستخدام الألوان!

النقاط التي استخدمها السكان الأصليون لم تأتِ بشكل عبثي أو على وفق رغبة عابرة أو شعوذة مقصودة أو مرتبطة بالسحر لأنها لا توضع بشكل عشوائي، وفقط تحاكي الطبيعة التي ألهمت الابوريجينال بعض إن لم اقل كلّ لواحاتهم المتفردة.

ولم يكن الرسم الابوريجينالي منغلقا على نفسه مثل انغلاق بعض القبائل على نفسها في مناطق محددة من الكرة الأرضية مما أدى الى زوالها وانقراضها، بل منفتحا- في سنواته الأخيرة- على الفن العالمي، وقد أخذ من الفن الأوربي ما دعم به ألوانه وعالميته، وكان أبرز رسامي السكان الأصليين ألبرت ناماتجيرا (ِAlbert Namatjira) الذي تأثر به عدد من أسلافه فصاروا يستخدمون الألوان المائية بطريقة احترافية جعلت العالم الغربي ينتبه لفنهم الجميل ويقتني أبرز لوحاتهم التي صار بعضها يباع بملايين الدولارات. لقد خرج الكثير منهم من عزلته وصار يعرض لوحاته في المدن الأسترالية، ولم يعرفوا بعد القيمة الحقيقية للوحاتهم مما جعلهم عرضة للاستغلال والابتزاز.

في رسومات ألبرت ناماتجيرا للطبيعة يمكن أن ترى فيها مزجا لأساليب عديدة منصهرة في بوتقة اللوحة منها ما هو غربي ومنها ما هو أصيل حقق تجريباً ناجحاً، وأصالة فائقة ما كانا ليكونا على هذه الشاكلة لولا الانفتاح على الفن الغربي. وبالمثل تأثر رسامو الغرب بلوحات سكان أستراليا الأصليين ونذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر ماركريت بريستون (1875-1963) وهي ليست من السكان الأصليين لكنها تأثرت بفنهم وأنتجت العديد من لوحاتها باستخدام أسلوبهم الخاص.

وبرعت الفنانة سوندا في استخدام أسلوب التنقيط بمجموعة لوحات فريدة تميزت من بينها لوحة تمثل تمساحاً محاطا بعدد هائل من النمل المجسد بهيئة نقاط بل آلاف النقاط المتناهية الصغر التي تراها بهيئتها الحقيقة عندما تنظر الى اللوحة من مكان قريب وتتلاشى وتتماهي مع الموضوع عند النظر إليها من بعيد وتلك قدرة فنية عالية، ومكنة أدائية راقية حفظت لفن الابوريجينال روحه وقداسته المبنية على الاستحضار الدائم لروح الأجداد وكل من سار على أرض الابوريجينال المقدسة.