دائرة أمير الحلاج الشعرية

 

    إذا أخذنا عنوانات مجاميعه التي أعقبت مواجيده (مواجيد الحلاج): نقطة فوق هامش التوضيح، من النقطة الى الدائرة، وأخيراً الدائرة خارج الشرنقة سنجد إنه آثر أن يكون ثمة حضور متميّز للدائرة في هذه المجاميع التي ابتدأت بنقطة صغيرة كبرت وخرجت من الهامش لتتحول الى دائرة تتسع نقاط الحلّاج كلّها، فبداية كلّ دائرة نقطة، ومركز كلّ دائرة نقطة، ومن هنا تبدو العلاقة بين الدائرة ونقطتها (مركزها) علاقة جدلية تجترح ذات العلاقة بين الأرض كدائرة ونقطة في آن واحد، فهي في علاقتها مع الكون لا تشكل غير نقطة صغيرة على هامشه بالرغم من أنها تحتفظ بقيمتها كدائرة كروية هائلة. وسنجد إن أمير الحلاج بدأ منذ مجموعته الأولى ينثر بذور نقاطه داخل دائرة الشعر التي وسعتها وتجلَّت بها ثم منحتها صفة فيها بعض تصوّف مشوب برمزية مكثفة.

الدائرة عند أمير الحلاج إذن هي حاوية كونية لها مدارها وهو لهذا يحاول أن يتمثّلَها في قصائد يكون هو فيها المركز الذي يسعى إلى ملء الاتجاهات بذبذباته الشعرمغناطيسية وهو القائل:  

كلٌّ له نقطةٌ للتنقلِ ومدارُ

فأنت نقطة في الحياة ولنقطتك مدارها كما هو حال أغلب إن لم نقل كلَّ الكائنات بدءا بالنطفة وانتهاءً بآخر المجرّات الحيَّة. الدائرة عند أمير الحلاج تختزن قوة الحماية الفاعلة فدودة الحرير حالما تشعر بتهديد ما فانها تتكور على نفسها وكذا تفعل الأفعى والقنفذ والجنين داخل الرحم والانسان كبيراً كان أم صغيراً فالدائرة تخفي أجزاءنا المرهفة الرخوة التي لا طاقة لها على تحمل الضغوط الخارجية. ومن هنا يمكننا القول إن النقطة دائرة صغيرة جداً تدور في فلك يتسع تنقلها ضمن مدار لها يحدد ذلك التنقل، والمرأة وهي تحتفظ باستداراتها ونقطتها (نطفتها) الجوهرية المنتجة دائرة ونقطة هي الأخرى. إنها إذن تتمثل الحالتين: النقطة والدائرة. النقطة بداية الحياة والدائرة مدارها الأزلي. ومن النقطة الى الدائرة مسافة مدارية شاسعة تختزل بنقطة أيضاً هي نهاية التدوير وبدايته إذا أخذنا بنظر الاعتبار زعمنا أن النقطة بداية الدائرة، وبداية المدار الأزلي ونهايتيهما.

 

في مجموعته الأخيرة (الدائرة خارج الشرنقة) تتضح العلاقة بين الدائرة، والمرأة، ودودة الحرير حين يستعين بالفن التشكيلي. إن صورة الغلاف (الحامل لهذه العنونة) تسعى إلى بيان تلك العلاقة من خلال شبكة الحرير التي شرنقت المرأة بها استداراتها الساحرة وهي تحاول الاستيقاظ من دائرة الحرير والخروج إلى دائرة الحياة مستخدمة أصابعها الرقيقة لما لها من القدرة المرهفة على اختراق نسيج عزلتها الحريري الباذخ في ترفه ورقَّته. الأصابع في الصورة إذن تشير إلى بداية ذلك الفعل الذي سيرمي بها خارج بيئتها كعذراء وهنا يتجلى الفرق بين العذراء داخل الشرنقة (دودة القز) التي تتخلى عن عذرتها حالما تغادر الشرنقة وبين المرأة كعذراء داخل أو خارج الشرنقة. وربما هذا هو الذي فرض على الحلاج أن يعلن عن عنوان مجموعته اللاحقة (العذراء خارج الشرنقة) بعد أن انتهى من مجموعته الثالثة (من النقطة الى الدائرة) لكنة سرعان تراجع عنه لتحل (الدائرة) بديلاً عن العذراء (الدائرة خارج الشرنقة) مع احتفاظه بالعنونة السابقة لتكون عنواناً لأولى قصائد مجموعته الجديدة. ومن وجهة نظري فان ما فعله من تغيير المفردتين كان أكثر دقة وأشمل تعبيراً عن مضمون المجموعة الجديدة كلّها.

عنونة المجاميع عند الحلاج بشكل عام تستأثر باهتمامه الكبير فهي عنده ليست الجزء المهم من أجزاء القصيدة حسب، بل إنها الجزء الأول فيها وهو لهذا ينتقيها بصبر وأناة لتكون مساهِمة في فعل القصيدة لا مجرد بوابة للدخول إلى عوالمها الغامضة. ولنا في قصيدة (عذراء خارج الشرنقة) خير مثال على هذا وقد رأينا كيف تجلّى ذلك من خلال ايحائية العنونة وتمثّلها لحالة القصيدة واسقاطها على حالة المرأة. إن غالبية قصائد المجموعة تشكّلت عنواناتها من مفردة واحدة حسب، إذ بلغت العشرين عنواناً مقابل تسعة عناوين مزدوجة بمفردتين، وخمسة عناوين بمفردات ثلاث وكلّ هذه العناوين اقتصرت على تناول الاجزاء الحيوية من الدائرة التي يدور حولها أو يتنقل في داخلها أمير الحلاج، والتي يمكن إدراجها على الشكل الآتي:

أولاً. عنوانات المفردة الواحدة: 

ضرع، صراخ، هدوء، تجاعيد، طقوس، تحذير، عتمة، قشعريرة، لماذا، الممحاة، محاق، اصفاد، نيزك، الجندي، أجراس، تصفيق، الإياب، المسطر، سرقة، مقاتل.

ثانياً. عنوانات المفردتين:

لعبة سوط، كرسي العائلة، حروب ملونة، ملاحظة عابرة، عامل مشترك، قناع... أقنعة، غبطة... ولكن، حوار الكؤوس، إنهم يعبرون.

ثالثاً. عنوانات بمفردات ثلاث:

عذراء خارج الشرنقة، رقصة على الجليد، حين ينسى المهاجر، حينما يدلهم الصباح، لحظات مسلسل قبلة.

فاذا تأملناها كلّها سنجد أنها تشير إلى حالات الكائن الداخلية والخارجية، الذاتية والموضوعية وهي محبكة بنسيج حروف الشاعر الذي يميل للتكثيف والتركيز وانتقاء المفردة الغنية الوافية، ولا يميل إطلاقاً إلى الثرثرة أو ترك انثيال الكلمات الحرِّ دون أن يوقفه عند المغزى الذي يريد. إنه يختار الكلمات الهادئة لا الهادرة، فهو في حياته رجل هادئ بل شديد الهدوء، مقلٌ في الكلام/ مصغ باهتمام تام، ولا يجيب الا باقتضاب شديد ولكنه واف على أية حال.     

*

عام 1995 كتب قصيدته (عذراء خارج الشرنقة) مستنطقا فيها رؤية دودة الحرير. تلك الدودة التي تهب أفضل ما لديها من جمال بهيئة خيوط براقة ثمينة تقضي فيها أيام عذرتها، وهي قرينة المرأة وشبيهتها في العذرة والجمال. من هنا يبدأ الرمز سبيله (كيفيته) إلى القصيدة أو القصائد كلّها معلناً عن نفسه كأداة ملازمة لشاعرية أمير الحلاج. ولعل افضل طريقة لقراءة شعره هي أن تبحث عن جذر الرمز أو إنْ شئت أكثر عن بذرته التي خرج من رحمها المظلم حرفُهُ أو حروفُهُ لتواجه نور الحياة. في هذه القصيدة تتوحد عنده المرأة مع دودة الحرير فتصبح كلُّ واحدة منهما ظلاً للأخرى أو مرآتاً لها في أغلب الأحيان. هذا الجذر وتلك البذرة تتيحان لك أن تحلَّ إحداهما محل الأخرى وصولاً إلى جوهر ما تريد القصيدة:

حين رأتِ الحائكَ يُطعِّمُ بالقطنِ الحريرَ

انتحرت بفضِّ بكارتِها دودة القزِّ،

من الطبيعي أن تفضَّ الدودةُ بكارتها (شرنقتها) لتتحول إلى المرحلة المقبلة، ولكن ليس من معقولِ الكلامِ القول إنها انتحرت إلا إذا أسقطنا انتحارها على كائن يعقل ما في الانتحار من موقف وإرادة فريدتين. عند هذه النقطة تتوحد الاثنتان وتتداخل خيوطهما في نسيج جديد يجعل ذلك الفعل مقبولاً ومعقولاً. هكذا تتشيأ الرموز عند الشاعر أمير الحلاج وتأخذ شكلها النهائي بهيئة قصيدة شعرية بلغة معقدة تمنحها قوة أن تكون نخبوية. إن سحر الصورة في هذين البيتين تكمن في فعل الحائك وردة فعل الدودة وهو فعل حددناه بالموقف والإرادة: الموقف من عملية التطعيم المبنية على التحوير المتعمَّد، والارادة التي يستنهضها الموقف لقطع الطريق أمام فيض التحوير بالانتحار.

يا لجرأَتها بممارسةِ الاحتجاج،

انظر كيف يبسّط الحلاج متعجباً فعل الانتحار، بوصفه عملية احتجاج أو ممارسة للاحتجاج، تبسيطاً يستفزنا بطريقة انعكاسية ولكنه في حقيقة الأمر يضعنا في منطقة الغموض وهذا هو ديدنه الشعري ولكن ثمة مسوغ لا بد وأن يكون أكبر من هذين الفعلين معاً لتكتمل الصورة (الرؤية) لديه.

علَّها

تمنعُ امتلاءَ العيونِ الماطرةِاستجداءً للشفقةِ

لاحظ إن الحلاج لا يبقيك حائراً في منطقة الغموض بل يفتح أمامك بوابة تأويل الرمز فثمة موضوعة ثانية (الشفقة) تقفو خلف الموضوعة الأولى (الانتحار) لتبرره وتجعل غايته الوصول إلى استهجانها ورفض استجدائها واستعطافها عن طريق العيون الماطرة. إن هذه الموضوعة تدَّخر معان كثيرة وشرح طويل يختصره ويكثفه الرمز بخبرةِ ودرايةِ الشاعر بكيفياته المختلفة ومن هنا يبدو لنا الغموض غير المتعمد أداة طيّعة أخرى من أدوات الشاعر الحلاج فهو لا يأتي عنده إلا بشكله الطبيعي. وهذا يذكرني بكلمة مشهورة قالها لوتريمون: "تصدر عنا أقوال قوية حين لا نتعمَّد أن تصدر عنا أقوال غامضة".  وإذا اتفقنا على حقيقة كون الغموض أداة ملازمة للشاعر أمير الحلاج علينا إذن الوصول إلى كنهه من خلال المعطى الشخصوي وبنيته وهذا يفرض علينا التماهي مع الكائن في القصيدة لشخصنته أولاً والتعرّف على تفاصيله من خلال تماهينا معه ثانياً. بمعنى إنه يفرض علينا اكتشاف طريقة ما لتفكيك بناه الأسلوبية وصولاً إلى جوهر ما يريد التركيز عليه داخل القصيدة.

نفترض الآن أنها استطاعت منع العيون من استجداء الشفقة فما الذي سيحدث؟ والى أين سيأخذها مثل هذا القرار؟ يقول الحلاج:

ان بعض القراراتِ لحظةَ الختامِ

تُلْصقُ لافتةَ التأبين،

وهو المصير الذي رسمته لنفسها بجرأة منذ ابتدأ احتجاجها على تحوير طبيعة مفردات الحياة، وتردي قيمها، وانهيار مبادئها. لقد رأت عبر مسيرتها وجوهاً راضخة للتخمة، وعيوناً تستجدي الشفقة، وتلوثاً لأسفلت الشوارع، واستشراءَ أبواب الغرائز، وخللاً في الموازين و..و..إلخ. إن كلَّ مفردة من مفردات ما رأت تحتاج إلى أن نقف عندها قبل العبور إلى غيرها من المفردات إن نحن أردنا الامساك بمغزى القصيدة التي لم تبخل علينا خاتمتها بنتيجة تلك المجريات:

كلُّ هذا رأتْ

وهي تُدْرِكُ

ما تولّدُهُ من الناصعِ باسمِها

تلطّخُه ماكنةُ التحوير.

ختاما يمكننا القول، بعد سياحتنا في أجواء القصيدة: إن كلَّ ما توصلنا إليه إن هو إلا بعض ما تضمنته دائرة أمير الحلاج الشعرية التي نأمل أن نكون قد هيأنا لغيرنا الأرضية التي تمكنه من الوقوف عليها، والأطلاع على مخزون تلك الدائرة المتفردة.