جلجامش وقصائد أخرى*

Gilgamesh and Other Poems

 

بترجمة ناقد أدبي معروف هو د. صالح الرزوق قدم لنا الشاعر الأمريكي سكوت ماينار مجموعة شعرية جذرها الأساس ملحمة جلجامش وثمارها (ماينارية) خالصة. وقبل الدخول إلى عالم المجموعة وتجلياتها نود أن نلقي نظرة متأنية على اسم بطل هذه الملحمة الرافدينية الخالدة الذي كتب في العربية بحروف مختلفة فمنهم من كتبه بحرف الكاف فكان كلكامش، ومنهم من كتبه بحرف الجيم والمترجم منهم فكان جلجامش، ومنهم من أضاف ياءً بعد الميم فكان الاسم جلجاميش على الرغم من أن الآثاري الراحل طه باقر وهو أول من ترجم الأسطورة بشكل دقيق عن السومرية ذكر في تحشيتها:

"تلفظ الجيم في اسم جلجامش كافا فارسية" *

وعليه يكون الاسم الصحيح في نطقه (گلگامش) وهو نطق مماثل لنطق الاسم باللغة الإنكليزية Gilgamesh)). ويعد جلجامش هو الاسم الأقرب والأَحْوَط كتابة باللغة العربية ولذا نجد الأستاذ طه باقر يستخدمه في متن الملحمة ولم يستخدم اللفظ الفارسي إلا على وجه الغلاف فقط.

تبدأ المجموعة بمقدمة للشاعر سكوت ماينار الذي لم يكن مشروع كتابة أشعاره، التي بين أيدينا، متوقعاً لديه لكنه بدأ به استجابة لمقولة محرر عراقي حول ضرورة استلهام الملحمة غربياً. فكان رد الشاعر أن كتب هذه المجموعة كاستجابة إبداعية للدرس الذي تعلمه من المحرر. قال ماينار معترفاً باعتزاز:

"إنني أحد تلاميذ جلجامش "

وأشار إلى انه قام بتدريس الملحمة لطلابه في نيويورك سبع سنوات كاملة وهذا يعني أن صلته بالملحمة وشخوصها وثيقة جدا وقائمة على أساس الفهم التام لأجواء الملحمة وأسلوب كتابتها. وان ارتباطها بالشعر جاء من باب أن "الأسطورة شعر، وهي استعارة... ولها معنى خلف الكلمات. وخلف الصور. وخلف الإطار المحيط بدولاب الوجود"

لقد استلهم ماينار مادته الشعرية من الملحمة وبنى رؤيته على استعادة شخوصها وأصواتهم المتفردة منذ فجر السلالات. ليبث فيها روح الحياة على حد زعمه. وسنجد أبعاد هذا عندما نتناول قصائد هذه المجموعة. ومما أشار إليه في معرض مقدمته أن في الملحمة شخصية فهمت بشكل خاطئ على أنها عاهرة وقد نبهته إلى ذلك زوجته بطرح السؤال الآتي: "هل يمكن لمن له علاقة بدار للعبادة أن يفعل ذلك؟" ولنا في هذا ملاحظتان:

الأولى: إن الأستاذ طه باقر قد أشار إلى الخطأ الذي ورد في ترجمات الملحمة عام1971 وهو عام صدور ترجمته لها ففي ص 57 يقول:

"المرجح أن هذا الاسم هو اسم البغي وليس صفة لها، حيث ترجمها البعض (البغي المومس)"

وهذا دليل على خطأ المترجمين لا الملحمة. والملاحظة الثانية وهي جواب السؤال الذي طرحه ماينار أن دور العبادة لم تكن تخلو من العهر المقدس أنا لا اقصد هنا (شمخة) تحديداً وفقط أشير إلى وجود هذه الظاهرة في المعابد وقتذاك، فلكل دار عبادة ثمة بغي أو عدد من البغايا اللائي يهبن جسدهن لزوار المعبد من دون مقابل وقد عدّ هذا الفعل مقدساً. جاء في مفتتح قصيدته الموسومة (شمخة):

الناس يسمونني عاهرة،

ولكن أنا قديسة إله الشمس

ويعدُّ هذا تعديلاً في سياق الملحمة وتأويلاً لحقيقة العهر ووقوعه داخلها.

في خاتمة مقدمته يذكر لنا الشاعر ماينار وجهة نظره بالقصيدة الأخيرة (انليل) حيث تعامل معها تعاملا مختلفاً عن بقية قصائد المجموعة وكان الأحرى أن يدع لنا أمر اكتشاف ذلك التعامل بأنفسنا كقراء.

في القصيدة الأولى (Shamhat) آثر المترجم الاحتفاظ بالتسمية الإنكليزية دون العربية وهو نفس ما فعله مع قصائد المجموعة كلها فمن هي شمخة أو شمخات؟

يبدو لي أن الشاعر أراد أن يقدم لنا شخصيات الملحمة بطريقة تعريفية ولكن عن طريق سبر أغوارها ومشاعرها والتوحد معها وصولا إلى معرفة الكيفية التي تنطق بها معبرة عن ذاتها. يقول الشاعر:

 "لقد سمحت لهذه الشخصيات الاستثنائية التي وردت في جلجامش أن تتكلم عن نفسها"

ومن المؤكد أن عملية الاستنطاق خضعت لرؤية الشاعر وكيف رأى تلك الشخصيات الاستثنائية فقام بتقوليها من داخلها وهذا هو جوهر عمليته الشعرية بعيدا عن اعتباراته الأخرى مثل:

"كان دوري محصوراً بإضافة الملاحظات الأخيرة"

ولم يحدد طبيعة تلك الملاحظات ولا ماهيتها، أو مدى علاقتها مع الصوت الناطق في كل قصيدة من قصائده. في Shamhat)) يتناهى لمسامعنا صوتها الأسطوري العميق، وإيحائها الدفاعي المناقض لما رسخ في الذاكرة التراثية/ التاريخية مبددة حقيقة كونها البغي التي أغوت انكيدو فغيَّبت فيه الجانب الحيواني ليستحضر في داخله جانبه الإنساني الحضاري الذي بدا أكثر فاعلية وأشد التصاقاً به من جانبه الآخر. وعليه اتهمت تاريخياً بقوة الغواية تهمة هي من وجهة نظرها حب كبير للطافته وفرقه عن سائر الأشداء، وبهذا قدمت لنا وبالأحرى قدم لنا ماينار صورة للزمن المحكوم بطغيان الأقوياء الأشداء الذين لا حدود لبأسهم وظلمهم. القصيدة استحضرت أيضأ روح (ننسون) المقدسة وهي والدة جلجامش لتخبر شمخة عبر الرؤيا أن القادم الجديد هو من سيطهر المكان من الرزايا والأوبئة، وان عليها أن تحبه ليعرف طعم الهوى للمرة الأولى. صوت شمخة إذن يروم تغيير ما دونته الذاكرة التاريخية عن حقيقة كونها بغي. والشاعر سكوت ماينار يتدخل بشكل مؤثر في تغيير مسار المدونة الرافدينية بنطاق محدود ولكن بتأثير كبير.

في القصيدة الثانية ننسون (Ninsun) نعرف فقط لماذا بشرت ننسون شمخةَ في الرؤيا بمجيء أنكيدو الذي سيحرر العالم من ظلم ابنها جلجامش وعبثه وتسلطه على البلاد والعباد. إنه وليدها الجديد، ابن الرغبة العشقية الذي سيتحدى جبروت جلجامش ذلك الكائن الخرافي المجبول من نور الآلهة وطين البشر والذي بدأ بالنمو:

مثل مخلب ينمو في يد شبل

صورة تبدو غاية في الدقة والكمال تجعل من ׅ جلجامش كائنا لا حدود لقوته، وشراسته، وقسوته المفرطة. ولقد أدركت الآلهة بحكمتها أن لا بد من قوة ما تشكل مصدرا للتوازن مع هذه القوة الإلهية/ البشرية. قوة تتناظر معها ولا تقل عنها بأساً. قوة حيوانية/ بشرية معادلة لها وقادرة على تحديها. حملت بها ننسون ذات حب وأنجبتها ذات ولادة ليكتمل توأم الوجود. هنا يتجاوز الشاعر حدود الخرافة ليمنطق حالة الولادة وليكون لننسون الشقية ابن آخر من صلبها الإلهي. لقد نجح الشاعر كمبدع أن يستنطق ننسون ويستغور أعماقها فيكشف عما يمور في جوانية قلبها الحنون وفي هذا خروج مدروس عن الأسطورة أو تناص معها أو بمعنى آخر كتابة المسكوت عنه والمضمر داخل شخوصها. وهو عين ما فعله ماينار في قصيدة عشتار (Ishtar) إذ التقى مع الملحمة ليفترق عنها بما صرحت به عشتار فبدت وكأنها تلبس لبوس الآلهة العظام، وبدا جلجامش وكأنه أخطأ في تحديد رغباتها وميولها العنيفة للجنس والمجون. تلك الرغبات لا يفهمها البطل الأسطوري كما تفهمها وتشعر بها بطريقة أنثوية وهذا هو جوهر اختلافهما في الرؤية الملحمية:

أنت لا تعرف شيئا عن الرغبة

طوف ينغمر ببطء في مياه الفرات

ثم يغوص مثل طيور الماء حين تقفز

وتنسى كيف تنجو بنفسها

الشاعر يبتكر الدهشة بوصفه الشعري الدقيق للرغبة التي تنغمر وتغوص وتنسى كيف تنجو، أو تحقق بنفسها ما تريده لنفسها وهذا بطبيعة الحال وصف باهر لجوانية الرغبة.

ومن عشتار ينتقل بنا الشاعر إلى انكيدو ليلقي على مسامعنا ما ألقيَ على مسامعه فيرد مفضلا:

الأفضل أن تسألني هل الحب يصرع أحداً،

وسأرد عليك:

الهدف هو أن نبقى على قيد الحياة

حتى بعد الممات، وحتى أثناء عبورنا منها

وهذا ردٌّ في غاية الأهمية لأنه يحيلنا إلى جوهر ما سعت إليه ملحمة جلجامش في البحث عن الخلود ومقارعة عظمة الموت وهيمنته المطلقة. وهو ما شغل جلجامش بعد موت انكيدو خله وصاحبه الأثير، وما جعله يتحرر من لعنة احتقار الآخرين ويعدُّه عاراً على من يرتضيه. نقطة التحول إذن تبدأ عند جلجامش بعد موت انكيدو مباشرة أي من الصدمة التي أيقظت في نفسه الخوف الذي لم يتعرف عليه من قبل. لقد تحول إلى كائن آخر مختلف جداً ولهذا لم يكن واثقا من وجود أحد يصدقه فيما ذهب إليه من الحقائق. وقبل يوم من الطوفان يصرح بحقيقة ألوهيته مؤكدا أن:

الجزء المدفون في عظامي،

غير مطمئن وليس له اسم

فهو فكرة وتخيل فقط.

وأما المدفون في ذات الإلهة ارشكيجال فهو كم من مشاعر رمادية، ورؤية ضبابية، وفكرة معتمة عن دورها في العالم السفلي والتي تشبِّه عيشها فيه كالعيش أبدا في غرفة فارغة.

وتترى شخوص الملحمة بعضها وراء بعض، وينجح الشاعر في استنباط المكنون في ذواتها والمسكوت عنه في ملحمة كلكامش. وترقى المجموعة الشعرية (جلجامش وقصائد أخرى) إلى مصافي الإبداع الإنساني الراقي.

·        (جلجامش وقصائد أخرى) مجموعة شعرية للكاتب الأمريكي سكوت ماينار ومن ترجمة د. صالح الرزوق. صدرت المجموعة عن دار ليندا 2018.