الشاعر جواد الحطاب

التبر والتراب ونثارهما

في تجربة الشاعر جواد الحطّاب

      من سبعينات القرن الماضي بذر الشاعر جواد الحطاب أولى حروفه الشعرية في أرض وإن لم تكن بكرا إلا أنه حرثها بمحراب الكلمة الحرة، والرؤى المحدثة التي تخطت حاجز القافية مبتعدة عن سحر العمود، وطربية إيقاعه الغنائي الرتيب، وقيود قوافيه. بذرها في تراب قدّ من رحم أرض العراق، فأنبتت له ثماراً من ذهب محض. وحين خصبت الحروف نفسها تحول التراب الى تبر شعري ببريق دونه أي بريق آخر، وقد ظلّ الحطاب، في بداية الأمر، محافظاً على ما وصل جيل الرواد إليه، ملتزماً بوزن التفعيلة وإيقاعها الداخلي المغري الذي قيّد من حريته، وانطلاقه لتوسيع رؤاه، ومع هذا قدم لنا خيرة ما كتبه آنذاك من القصائد الشعرية في مجموعة كاملة أولى عام 1978 تحت عنوان مثير لشهية القارئ في تلك الحقبة التاريخية المحكومة بالحماس، والرومانسية الثورية، والانحياز التام لفئة الفقراء والمعدمين (سلاما أيها الفقراء).

الحطاب إذن ظلّ ملتزماً بما وصل الرواد إليه: السياب ونازك ثم البياتي والحيدري وغيرهم، وأمينا لمبدأ التطريب في الشعر وكأن التجديد قد بلغ غايته القصوى بالتخلص من القافية حسب، وكأن القافية هي حجر القداسة الذي خشي الشعراء، قديما، مسّ حرمتها فلم يطوروا العملية الشعرية إلا ضمن حدودها، ولعل (أبا نواس) خيرُ مثال للشاعر المجدد الذي استبدل الوقوف على الأطلال آنذاك بافتتاح قصيدته بالخمر على خلاف ما عرف عن الشعر من تقليدية الوقوف والبكاء على الأطلال، لقد عُدّ عملَه تجديدياً، وانقلابه على تلك الوقفة ثورياً، ولم تواجه ثورته الاحتجاج الكبير مثلما كان الحال مع بدر شاكر السياب الذي ثارت حوله الثورات وأشهر التقليديون في وجهه سيوف دفاعهم، وبياناتهم المناوئة للتجديد بسبب كرههم للجديد، وحبهم المفرط ورغبتهم العارمة في بقاء القصيدة العربية كما هي عليه دون تغيير أو تطوير على مر العصور. لقد ظلّ الشعر محتفظا بصرحه وهيكله الممتد عمودياً وتقليدياً حتى اتقدت شرارة ثورة الشعر الحديث فهدمت القيود، وكسرت الأغلال (القافية) ولكنها مع ذلك لم تتجاوز حدود التفعيلة وإيقاعها الطربي وظلّت الحرية التي اندلعت الثورة من أجلها محدودة ومقتصرة على بعض القيود التقليدية.

الرواد إذن لم يقدموا الكثير للشعر العربي الحديث أكثر من إيقاد جذوة الثورة لأنهم ظلّوا أسرى لأغلب قيوده، وبعد رسوخه في الوجدان الجمعي الثقافي فان عددا منهم استسهل الأمر وراح يكتب قصيدة حرة، ولكن بلبوس الشعر التقليدي وكأن الأمر مقتصر على التخلص من قيد التفعيلة حسب، ولم يحسبوا أن جوهر المعاني قد تغير وان الظرف قد فرض على الشعر نفسَهُ، وان كلّ ذلك حدث بحكم الضرورة التاريخية وليس بحكم الرغبة الفردية. لقد صارت القصيدة المحدثة تبنى على أساس وحدتها خلافا للشعر القديم الذي بني على أساس استقلالية البيت الشعري الواحد عن بقية الأبيات الأخر. وقد شهد الشعر العديد من التجارب المختلفة والمنوعة التي كسرت قيد القافية الشعرية وحررت الشعر من جبروتها ومارست انفلاتها الإبداعي منها، وعلى الرغم من هذا كلّه ظلّت الحرية مقتصرة ومحدودة وراضية بالشعر الحر بديلاً موضوعياً للشعر العمودي. ومن تلك التجارب المحدثة في سبعينات القرن الماضي تجربة الشاعر جواد الحطاب التي تجلّت ثمرتها بهيئة مجموعة شعرية تحت عنوان (سلاما أيها الفقراء).

 لقد جاءت عنونة هذه المجموعة بمفرداتها الثلاث ممثلة للوضع الاجتماعي والاقتصادي المتردي حين فقد الناس الشعور بالأمان، والاطمئنان، والعيش الكريم، وحتمت على الشاعر أن يطلب لهم ما فقدوه من السلام ففرض على نفسه أن يبدأ معهم بالسلام (سلاما) كما فعل الشاعر فاضل العزاوي في قصيدته (سلاما أيتها الموجة.. سلاما أيها البحر) وكما فعل الجواهري من قبل في قصيدته (مفاتيح المستقبل) والتي يقول فيها مكررا مفردة السلام في كل بيت من أبياتها

 (سلام على جاعلين الحتوف.. جسرا الى الموكب العابر)

(سلام على نبعة الصامدين.. تعاصت على معول الكاسر)

(سلام على مثقل بالحديد.. ويشمخ كالقائد الظافر)

(كأن القيود على معصميه.. مفاتيح مستقبل زاهر)

لقد اختص سلام الجواهري بالمناضلين والثائرين والمدافعين عن الحق والسلام، أما سلام الحطاب فقد اختص بفئة من الناس (الفقراء) دون غيرهم. ولهذا وبسببه نجد مفردة الفقراء تتكرر على لسانه كثيرا في هذه المجموعة وحتى مجاميعه اللاحقة أيضا. وقد استأثر الحطاب بهذه العنونة كثيراً حتى أنه جعلها عنونة مركزية لسائر قصائد المجموعة ليس لأنها تمثل القصائد كلّها، ولكن جريا على عادة بدأت من الخمسينات، وربما قبلها واستمرت الى سبعينات القرن الماضي، وجوهرها مبني على اختيار واحدة من عناوين القصائد لتكون الثريا لهن جميعاً، وهذا هو عين ما فعله كتّاب القصة القصيرة أيضا، والأمثلة في هذا الشأن كثيرة جداً لا يغفلها القارئ/ المتابع. ويمكن القول هنا إن هذه العنونة المقصودة هي في الحقيقة عنونة منبرية انبرى فيها الشاعر بالنداء الذي اختص بفئة معينة من الناس، ولكنه أخّر النداء مقدماً عليه (سلاما) لجر تركيزنا الى السلام الذي قدّمه وميّزه عن المنادى.

لقد وضع الحطاب ملاحظات سردية للقارئ قبل الشروع بقراءة القصيدة وفيها يؤكد على نوع التفعيلة التي استخدمها في القصيدة (فاعلاتن) مشيراً الى ما وقع في القصيدة من علل العروض (الزحاف المفرد والمركب فضلا عن النقصان والزيادة بمعنى نقص سبب أو زيادة سبب) وهذه الملاحظات العروضية الهامشية تبيّن كما أسلفت نوعية القيود المفروضة على الشعر والشعراء والتسهيلات التي قال بها الخليل الفراهيدي في بحور الشعر العربي. وهي تسهيلات موجودة في الشعر أصلا وما فعله الخليل هو انه أشار إليها ضمن البحور التي حدد تفاعيلها لغرض دقة ميزان الشعر العربي. ومما أشار إليه الحطّاب أيضا أن القصيدة تضمنت مقطعاً من بحر الهزج اقتضته الضرورة على حد زعمه، والحقيقة أن جواد الحطاب بدأ بإضافة الجديد الى القصيدة المحدثة، وما الهزج فيها إلا لتختص القصيدة في نقل إيقاع الغناء إليها والهزج كما هو معروف عند العرب مختص بالغناء. وسنتخذ من هذه القصيدة (سلاما أيها الفقراء) أنموذجا لهذه المجموعة.

تبدأ قصيدة الحطّاب (سلاما أيها الفقراء) بنبوءة المطر إذ يقول:

ينبئني..

المطرُ الساقط على قمر الأكواخ

بأن رجال المباحث في العشب

في هذا المقطع الافتتاحي جمع الشاعر محمولات القصيدة من نبوءة المطر بنقائه وطهره، ومن فقراء الأكواخ كطرف أول في عملية الصراع المرتقب، ومن رجال المباحث المتسترين بالعشب كطرف ثان نقيض ومتسلط على رقاب الكادحين. وقد أدى جمع النقيضين في خانة واحدة الى فرض الصراع على الطرفين مقرباً القصيدة من الدراما ومصعّدا فيها عملية الصراع الدرامي. ومن هنا يمكننا القول إن القصيدة وضعت أمامنا القدرة على التنبؤ ووقوع أثره على (الأكواخ) كرمز مكاني من رموز الفقراء، وهم المطارَدون دوما، ورجال المباحث كمطارِدين ومهيأة كمائنهم للإيقاع بالفقراء واعتقالهم أو قتلهم على حد سواء.

الشاعر في هذه القصيدة وفي قصائد أخرى يروم مجاورة الشعر للدراما مجاورة فنية تخدم نصه الشعري من حيث المعنى، وتعزز فنيته من حيث المبنى، وهنا أود أن أذكر أن الحطّاب أرسل لي ذات مرة قصيدة مدورة أو غير مقطعة كما هو شكل قصيدة النثر وكأنها قطعة سرد أدبي واحدة، وفي أسفلها كتب عبارة (مونودراما موجعة) ولم أعرف ما مراده من هذه الإشارة وعلى الفور طلبت منه تزويدي بأشعاره فأرسل الي مشكورا نسخة (PDF) تضمنت أغلب إن لم تكن كلّ مجاميعه الشعرية. وقد صدق ظني أن تلك القطعة كانت قصيدة شعرية حاول فيها التجاور مع المونودراما شعرياً والتي سأفرد لها مساحة في هذا المبحث لأهمية تجربتها.

المقطع الثاني من القصيدة كان توضيحياً أراد الشاعر منه بيان حالة هروبه خوفا من الوقوع بقبضة المباحث والإيقاع به بين فكي الموت، يقول في هذا الشأن:

وبين رجال المباحث..

ودخان الحضارة الأمريكية

كنا نموت..

الحطاب هنا لا يريد التصريح المباشر الذي لا يخدم القصيدة المحدثة ولهذا يلجأ الى السكوت حتى لا تكون القصيدة تقريرية ولهذا نراه يستخدم النقاط كدال على مدلول توارى خلف السطور، ولكننا عثرنا عليه بحاسة القراءة العضوية. ينتهي هذا المقطع بمفردة مهمة للغاية في شعر الحطاب (نموت). قادنا الفضول لتتبعها والتوغل الى جوهرها وإشكالاتها في قصائد المجموعة كلّها وفي هذا المقطع أيضا نجد أن الحطاب يهيئ القارئ دراميا لخوض عملية الاكتشاف في القراءة ففي المقطع الثالث من القصيدة نفسها يبرز لنا صوته وهو ينادي المرأة بطريقة شبه درامية:

يا امرأة..

علمتني البكاء والمرح المر

-: انتصف الليل..

هل تأتين معي؟

-............

يعود ثانية الى الاستخدام الفعّال للنقاط وما تخفيه من الدلالة فشخصية المرأة المناداة ترد عليه بصمت مشوب بـ(البانتومايم) ويبدأ الموقف بالتصاعد الدرامي حين يعيد السؤال عليها أكثر من مرة ولا يحصل على الإجابة إلا في ذروة الموقف حين تقول:

-.. سيدي

لا..

هذه الـ(لا) شكلت ذروة هذا الموقف الدرامي الخطير، وسنرى بعدها كيف أعطت لنا تفسيرا مقنعا لرفضها أذ تقول بثقة كبيرة: (البرجوازية تغادر الآن أوكارها) لتقوم باصطيادهم الواحد تلو الآخر وهذا يذكرنا بزمن مطاردات البرجوازية المتسلطة لقوى اليسار الثورية في سبعينات القرن الماضي. ومن الجديد الذي أدخله الحطاب في هذه القصيدة هو استخدامه للإضاءة والأصوات، وهما عنصران دراميان، فضلاً عن استخدامه لفعل التوصيف الدراماتيكي الصامت ضمن الإضاءة نفسها في الصوتين الأول والثاني إذ يقول: (مر المفوض) و(مر الجنود والفقراء) الفعلان هنا يصفان حركة مرور الشخوص وعبورهما مساحة القصيدة وكأنهما عبرا مساحة الخشبة ثم يأتي الصوت الإذاعي على شكل بيان ذكر فيه أن الفقراء عوقبوا جميعا لأداء التحية باليد اليسرى وفي هذا الأداء تركيز على انتمائهم اليساري. ثم تأتي النقاط ثانية (.....) للتعبير عما سكت عنه الشاعر تاركا أمر تأويله لنا كمتلقين للقصيدة. الحطاب إذن لم يترك أداة فنية ممكنة إلا واستخدمها في هذه القصيدة وتجدر الإشارة في هذا الموضع الى انه وبالأسلوب السردي لكتّاب القصة قدم لنا وصفا للأشجار والشرفات وأصحاب الياقات البيض وهم يدلفون الى البار وصولا الى نزفه الذي تحول الى (سبارتكوس) جديد ينهض من زهرة حمراء. وفي هذا وضوح شبه تام لانتماء القصيدة الى اليسار ثانية معبرا عنها بالزهرة الحمراء فيقرر أن الجراح تفيق الآن وأن الصرائف مهمومة:

لحد الـ................!!

لحد اختيار القارئ ما يتلاءم وتعجبه مما رأى، أو شارك، أو تشاخص، أو تناهى مع معاناة وشقاء الشخوص المرير، وتنتهي القصيدة بأغنية عادت لاستخدام اللون الأحمر مرة أخرى، ولكن هذه المرة ليكون اللون برزخاً، أو مانعاً بين الرغيف والفقراء. ومن الجدير بالذكر قبل أن ننتهي من هذه القصيدة الإشارة الى أننا اخترنا هذه القصيدة تحديدا لأنها ابنة ظرفها ومكانها وقدرتها على تمثيلهما أفضل تمثيل. وبعد هذا كله لا بد لنا من التأكيد على ما استنتجناه منها وتضمن النقاط الآتية:

·        جواد الحطاب بدأ قصيدته بالفقراء (الأكواخ) وانتهى منها بالفقراء أيضا مع عدد من علامات التعجب والاستفهام لوجود معنى مضافا للقصيدة ترك لتأويل القرّاء بعد نهايتها.

·        كرر مفردة الفقر والفقراء ست مرات كتأكيد مباشر على استئثارهم بأغلب مساحة القصيدة وفضائها.

·        استخدم اللون الأحمر بقصد دعم التوضيح.

·        استخدم الأساليب الدرامية (الإضاءة، الصوت، الصراع، الشخوص) في بناء القصيدة ليعزز جانبي المعنى والمبنى ولتكون قصيدته مجاورة فنياً للدراما.

·        تحكم بالعروض وأوزانه بما يخدم القصيدة المحدثة.

·        استخدم علامات الترقيم (علامات التعجب، الاستفهام، النقاط المتتابعة) لاستكمال بعض بوحه الذي سكت عنه لأسباب فنية.

·        خرج عن قيود الشعر القريض والمحدث ليغرد بحرية خارج السرب. وستكون قصائده اللاحقة أكثر تحررا من السابقة.

وبهذا الاستنتاج نكون قد انتهينا من المجموعة الأولى ووصلنا الى المجموعة الثانية (يوم لإيواء الوقت1991) ومن عنونة هذه المجموعة وبسملتها وجدنا أنها اشتغلت على يوم تميز بإيواء الوقت ولا ندري بعد إن كانت قصائد المجموعة قد اشتغلت عليه كهدف مركزي شامل لها وممثل لأفكارها وتطلعها وما أرادت الوصول إليه، أم أنها اقتصرت على كونها ثريا المجموعة حسب.

تبدأ المجموعة بـ(مفتتح) ربما هو بمثابة ضوء مسلط على مطباتها وفيه ما يفسر نفسه بنفسه إذ جاء فيه:

جئنا

نغسل أنفسنا بالنسيان

فأصيب النسيان..

بداء الذكرى!!  

ثمة إشارة خفية لما قبل المجيء، وثمة أمور شتى، ومصائب وبلوى مسكوت عنها في زمن سابق لزمن الافتتاح الذي عُطِفَ عليها، وجاء كمحصلة لها، فهل أصيبت القصائد في هذه المجموعة بما أرادت الشفاء منه به؟ سؤال سنؤجله الى وقت المعاينة فلربما تحتاج العملية الى مبضع جراحة من نوع ما.

 لقد سبق لنا الإشارة الى اشتغال الحطاب على مفردة الموت (نموت) في الأنموذج السابق. وأشرنا الى أننا سنتابع هذه المفردة في قصائد جواد الحطاب لأهميتها ودلالة فعلها ووقعها وأثرها النفسي والاجتماعي، وتقبلها واستقبالها بقدر كبير يفوق قدرة تحمل مرارتها وألمها الممض. ومن هذه المفردة وبشكل تلقائي قفزت إلينا مفردة أخرى ربما هي أحد مسبباتها (مسببات الموت) ألا وهي مفردة (الحرب) ربما بسب عدد ما خضنا من الحروب وما حصلنا عليه من أشكال الموت الكثيرة والتي جعلتنا نرى أشكاله وإشكالاته المختلفة. حروب داخلية وأخرى خارجية بوقت قصير، وزمن واحد، وموت مجاني.

في قصيدة (لتكن قبلاتك آخر إطلاقاتي) تضمن عنوانها على الإطلاقات كرمز، وواحدة من دلالات الموت المختص بالحروب، وكيف ولماذا سيحوّل الحطاب قبلات حبيبته الى إطلاقات قاتلة! الى فعل حارق وخارق! لا ندري، ولكن لندخل الى عالم القصيدة أولا وقبل كل شيء لنرى سبب أو أسباب هذا الفعل الخطير.

لم نطلب غير نهار

عادي

وبسيط

تتنزه فيه عصافير عراق يعنينا

إذن هذا هو الطلب والسبب والنتيجة في آن واحد. الحرية للعصافير في التنزه الحر داخل الوطن وطننا تحديدا والحرية في الطيران بلا قيود أو أغلال تدمي المعاصم، وتقيّد الأرواح المطمئنة باضطراب وارتباك دائمين. طلب غاية في البساطة، والتواضع، والقبول، والممكن، وما دام سهلا ومتواضعا وممكنا فلماذا إذن لا نحصل إلا على الموت قادما راكبا ظهور الدبابات؟!! أليس في هذا السؤال ما يدعو الى التعجب فعلاً؟ أليس الحطاب الفنان بارعا مبدعا في استخدام علامات الاستفهام والتعجب معا (؟!!) في النهاية الختامية لهذا المقطع؟ مرة أخرى إذن يتكئ الحطاب على أدوات الترقيم لتعميق الدلالة. وهذا بحد ذاته يعد من مقتضيات القصيدة المحدثة التي لم تتوقف عند هذا الحد، بل تجاوزته الى حدود الرسم بحروف الكلمات عن طريق بعثرتها وبالأحرى إعادة ترتيبها، وللحطاب في هذا المجال تجارب كثيرة نذكر منها ما جاء في قصيدة (ياسمين) على سبيل المثال:

أل.. أم.. ها.. ت.. مطر

والقنابل طين

وكذلك البعثرة الآتية:

إح.. ذ..ر..وا..أل..طا..ئ..را..ت

  وله في قصيدة (حصار) ما يثبت ذلك بجدارة عالية حين اشتغل على الخنق وفعله فصور لنا عملية الاختناق البطيء الذي يشابه في الواقع خنق الحصار للناس في أرجاء البلاد مشكلاً أفضل صورة للحصار وأدق وأكثف معنى من مئات الكلمات التي قد تقال في الحصار وفعله الجهنمي. ولصغر حجم القصيدة وأهميتها أضعها في أدناه للاطلاع عليها:

مختنق..

مختنق

م..

خ..

ت..

ن..

ق

عشر رئات

لا تكفيني!!

أردت من وراء وضعها أمامكم أن تروا بالعين وتشعروا بالذهن كيف تدرجت عملية الخنق بطيئا جدا حتى أن عشر رئات لا تكفي المختنق لاسترداد أنفاسه. هكذا فَعَل الحصار بنا وبالبلاد جميعها، وكان للحطاب شرف النهوض بمسؤوليته كشاعر درامي منحنا تصورا، بل مشاهدة الكيفية التي اشتغل فيها على تمثيل الخنق لحظة بلحظة، ثم منحنا النتيجة النهائية والختامية للموقف الدرامي المتصاعد نحو ذروته الكبرى، من دون أن ينسى أبدا ما للدراما من سحر التأثير على المتلقي سواء أكانت تلك الدراما ناطقة أم صامتة. إشارتي لهذه البعثرة الحروفية التي وردت هنا قبل شيوعها وقبل أن يستخدمها الشعراء بشكل اعتيادي إذ صارت فيما بعد من الطرق المألوفة في القصيدة المحدثة. ومع هذا لا أدعي أسبقية استخدامها من قبل جواد الحطاب حصراً فثمة من استخدمها من جيل الشعراء المعاصرين له، بحسب القدرة الشعرية، والمكنة الأدائية والأدبية لكل واحد منهم. ولا بد لي من الإشارة هنا الى الشاعر والت ويتمان الذي كان يرسم بكلماته شكل الحالة المعطاة في القصيدة فعندما يريد رسم صورة التقدم التدريجي خطوة بخطوة فانه يرسمها هكذا:

(ولسوف نتقدم

             أكثر

                    فأكثر

                           فأكثر.)

فالتقدم هنا جاء تدريجياً (تصاعدياً من حيث الكم والكيف) في الشكل والمعنى، وهو ما أراده الشاعر فعلاً وقاله بطريقة مختزلة، عميقة، مزاوجة بين الذهن القارئ والعين المبصرة في آن واحد. وتلك مهمة لم يستطع أي شعر غير محدث السيطرة عليها آنذاك. وبالعودة الى القصيدة موضوع البحث نقول إن الأسئلة العميقة المثيرة للتعجب تترى خلف بعضها بعضا سواء منفردة أو متخذة شكل مقطع شعري كامل كالمقطع الثاني عن (القنبلة العانس) والمقطع الثالث عن اتجاه المسير (الى أين أروح بهذا الفجر المستيقظ في بيتي؟) الشاعر لم يحصل على الإجابة، فالظلام تفشى، والأمل توارى، والنجوم لا يرى منها غير واحدة سقطت سهوا من ديجور مهيمن على فضاء البشر. وقرر أخيرا أن يوافق على خوض الحرب من أجل النور والحرية ومن اجل حبيبته المقيدة بأغلال الاحتلال. ومن اجل هذا كله فانه يتحدى الموت وهو لا يعرف حدودا لها سوى تلك التي تمتد من أعماق روحه الى قمم نهديها:

من أخمص روحي

حتى مرتفعات نهودك

تمتد بلادي

وما كان عليه إلا أن يتحدى اثنتين: القنبلة العاهر، والموت المترهل ليحفظ وجه حبيبته وابتسامتها السمراء. الموت إذن صار أكثر تحدياً، وأكبر هيمنة على حياة الشاعر ودروبه المقفرة. وصارت الحرب واقعا ماثلا قادما من (شرق البصرة) ولا مفر منه الى غربها. وقبل بدئها يترك لنا الشاعر ملاحظة سردية هامشية هي الأخرى تقول: (عبر كل تاريخ العراق، كان مهاجموه يبتدئون- أول ما يبتدئون- بالبصرة لكنهم- دائما – يعودون منها بالهزيمة والخسران) وكأني به يريد زرع روح الأمل في النفوس المضطربة الوجلة المستسلمة لقدر الحرب ونيرانها الرهيبة. الملاحظة تركت ضمنا الإشارة الى احتلال الأمريكان للعراق ودخولهم إليه من البصرة تحديدا ثم التوجّه الى بقية مدن العراق. وبالصورة الشعرية المكثفة يرسم الحطاب صورة الغزو على هيئة حيوانات وحشرات: أسراب من الجراد وأرتال من النمل يقودها الخنزير نحو المدن الآمنة. فما هو شرق البصرة في عرف الحطاب؟ إنه الأهل، والأحباب، والأصدقاء، والسياب، والشعراء، والأهلة، وأظافر الأطفال التي تشق بطن الخنزير من السرة الى السرة: شرق البصرة طريق الشاعر الى إيقاظ الناس والأبواب والحجارة، هو صوت السياب ينادي (عراق) وهو عزم الفقراء البصريين على الاجتماع ليلة بدء الغزو الساحق لمقارعتهم وهم العارفون بأصابع العدو السود وبنادقه الآلية. الحطاب شاعر درامي باقتدار، والحرب، بل الحروب كلّها لا تُعْرَف بغير الدراما. إذن أحسن الحطاب اختياره فقصص الحرب وأشعارها لا تحتاج الى جهد كبير كي تجاور الدراما. لقد عرفنا البصريين فماذا عن الشاعر واي دور سيلعبه في هذه الدراما الحربية؟ يقول في هذا:

شرق البصرة

إني جمعت لهذه الليلة كلّ شبابي

وتجمّلت بأجمل أثوابي

فأنا "الزين"

وفجر الليلة موعد عرسي

الله..

ما أوسع هذا الليل وما أضيق نفسي

هو الشاعر الحكيم والعارف الصابر والعريس المنتظر صبحه لتجيء إليه عروسه مع جوق نساء يتمنطقن صف رصاص وبنادق برنو. ويجيء الأحبة من كل أقاصي العراق: من الأهوار والجبال ليشهدوا عرس (الزين) وهم يحملون صرر الطعام الى العراق، وفتياتهم يحملن البنادق سراً ويرتدين ثياب الشبان واليشاميغ الحمر تخفي زلوفهن المحنّاة، وتترى صور القصيدة بهذه الطريقة الشعرية المختزلة وصولا الى أغنية سمعها من امرأة عابرة تصف فيها فتيان (سفوان) بقاماتهم النارية، واتقاد الجمر في عيونهم البصرية. ثم تمتح القصيدة من أغنية عربية تراثية (ضرب الخناجر ولا حكم النذل فينا) لتصل الى نظرة الشاعر للموت ولنفسه بعد مغادرة الغزاة وهو يقول:

أنا أمتهن الموت، أمام الموت

وضد الموت أعاشر موتي

قلت عراق كم موت يعرفه القلب

لقد عرف القلب العشرات، بل المئات منه، فهو فاكهة الحروب، وغذاء البطون التي لا تشبع أبداً، وطريق المحارب نحو الجنة ببطاقة تأمين، أو بترشيح قدري مكين. ثمة موت معلب، وآخر مغلف بالسلوفان وثمة الكثير الكثير في ذاكرة العراق من أيام سومر وحتى حروب الخليج وشرق البصرة. لقد غادر الغزاة وهذا يعني أن الشاعر والناس سينامون الليلة من دون انفلاق القنابل، أو انفجار المفخخات التي تهدهد أرصفة الطرق وتبعثر أجساد المشاة عليها. لقد آن لي أن أقرر أنْ لا شيء أكثر درامية من الموت. أليس هذا ما صرح به شكسبير؟ وحظيت به قصائد الحطاب؟ لكن الحطاب ليس كشكسبير فأبواب الأمل لم تغلق في وجه شخوص قصائده، بل ظلّت مفتوحة ليل نهار وظلّ كورنيش البصرة وشاطئها مليئين:

بزوارق من سوسن

ونوارس بيض..

وثمة شكل آخر للموت عرّج على ذكره الشاعر في قصيدة (فخ) نصب لفتى كان يحلم بلقاء ساخن مع أنثى غانية وفي غفلة منه يشق الشيخ/ الموت صدره لينام الفتى عميقا جدا فيترك الحطاب لنا نقطته التوضيحية الأخيرة:

·        بانتظار (الفتى)

ينصب الموت مرآته في الطريق!!

قصيدة قصيرة جدا لكنها طويلة بما يكفي لتتضمن على الفخ والإغراء والموت المؤدي الى جسد الغانية. ولا بد من الإشارة ونحن بصدد هذه القصيدة أن الحطاب أعاد نشرها ضمن مجموعته اللاحقة الموسومة بـ(شتاء عاطل 1997) لغاية في نفسه.

في قصيدة (الإسطبل) ثمة موت آخر لسائس خيل يعمل جاهدا دون انقطاع، ويسهر دون كلل على رعاية خيل الإسطبل وخدمتها لكنه في نهاية المطاف يموت داخل الإصطبل دون أن ينتبه الآخرون لموته، وتوقف حركته اليومية الرتيبة. وفي قصيدة (الكلب) ثمة موت أيضا جاء على لسان الكبش الذي اضطجع الى جوار الكلب:

تعبا..

سقط الكبش جوار الكلب

وقال.. نموت!!

وفي قصيدة (الزهرة) يأخذ الموت شكل فجر قتيل تنعكس عليه (أنا) الشاعر جواد الحطاب:

غافلني الفجر.. ومات

حدقت به، وصرخت

: رأيت أناي

لقد تداخلت الشخصيتان (الفجر والحطاب) وتوحدتا معاً، وانفصلتا كتوأمين يرى أحدهما ما يحدث لكليهما في آن واحد وكأنهما جُبِلا من (أنا) واحدة. في كل هذه الأشكال المختلفة ثمة أمر واحد متشابه هو اعتماد هذه القصائد على قصة وان كانت قصيرة جدا إلا أنها مع ذلك تشير الى أن الحطاب مهتم بالجانب السردي وأيضا ببناء حبكة درامية في هذه القصائد، وهذه ميزة أخرى من مميزات شعر جواد الحطاب التي لم نغفل بيانها. ومع أن الحطاب اشتغل على فكرة الموت أو الموت نفسه إلا أنه لم يقدم لنا فهما محددا لكينونته حتى ولو اضطراريا: (ما أصعب أن تضطرّ لشرح الموت) وهو محق طبعا فالموت لا يحدد بشكل ما أو هيئة مجسدة، بل يفهم على انه قائم بذاته ومحدد بجوهره.

في (شتاء عاطل) توحي العنونة بإضفاء صفة بشرية على الأشياء، فالعطل عن العمل ميزة بشرية ارتباطاً بطاقة العمل الخلاقة. ووجدنا أن الحطاب في هذه المجموعة اشتغل على هذا الجانب المهم والمدهش ومما ميّز هذه المجموعة أيضا هو اشتغال الشاعر على الأسئلة المختلفة حتى تكاد توجد في أغلب قصائد المجموعة فضلا عن استخدامه لأداة الاستفهام (؟) بطرق مختلفة أيضاً.

(شتاء عاطل) هو في الحقيقة عنوان مأخوذ من قصيدة وردت في الثلث الثالث من هذه المجموعة وفيها تكثيف للأسئلة التي أراد الحطاب اجتراح أجوبتها المنفلتة. غير أن الأسئلة كلّها بنيت على غير الممكن أو بمعنى آخر جردت نفسها من الواقع لتضع ثقلها في واقع مختلف أحيانا ومتناقص في أغلب الأحايين. وبما أنها على درجة عالية من التجانس الداخلي في كلياتها لذا وجب فصلها عن بعضها بعضا لتكون كل واحدة منها (موتيفاً) بأنماط مختلفة ومتعددة:

بماذا.. يفكر الهاتف

حين لا يرن؟

.......

سؤال سهل أو هكذا يبدو للوهلة الأولى. ترى كيف يمكن للقارئ أن يجيب عن هذا السؤال ببساطة؟ من المؤكد انه سينفر من الإجابة ويتهرب منها فلا طاقة لأحد -غير الشاعر- الوصول إليها. إذن هل يمتلك الشاعر إجابة محددة؟

نعم، لكنه يسكت عنها ويترك بدل ذلك مجموعة من النقاط (.......) التي تخفي كلماته أو أن كلماته تختفي وراءها أملاً في جعل القارئ يفكر بها ويستنبطها أو يجترح كنهها وبهذا يدفعه نحو المساهمة الجادة في فعل القصيدة. في الموتيف الثاني يطلق السؤال الآتي:

في الصيف

هل يبقى الشتاء

عاطلا عن العمل؟

.........

وكما في الإجابة الأولى يكتفي الشاعر بالنقاط أيضا بهدف الحصول على مشاركة المتلقي الذهنية. إن سر هذه الأسئلة يكمن في نوع من التناقض الضمني الغريب بين الشيء وصفته الجديدة فالهاتف لا يفكر أصلا، ولكن الشاعر يفترض ما يفكر به حين يظل صامتا بلا رنين والشتاء لا يعمل بالطريقة التي يعمل بها البشر فهو إذن يتعطل عن العمل بحلول فصل الصيف في المقطع الأول نجد التعارض الفني بين رنين الهاتف (صوت) وبين عدم الرنين (صمت) وفي المقطع الثاني ثمة زمنان متعارضان أحدهما مرتبط بزمن البرد والآخر بالحرارة أو لنقل بالفاعلية والخمول وهكذا تتكرر هذه (الموتيفات) وتغطي أسئلتها مساحة القصيدة، ومقاطعها التسعة.

الحطاب في هذه المجموعة اشتغل على إثارة الدهشة، دهشتنا عندما نكتشف الجديد فيها أو ابتكار كلمات محددة لها أو تركيبة جديدة لكلمات قديمة ففي قصيدة (وحدة قياس) على سبيل المثال يبتكر الحطاب وحدة أخرى غير شائعة وغير معروفة من قبل هي (السنت/موت):

هذه الأرض

: سعر "السنت/ موت" الواحد منها

خمسون شرطياً!!

والسؤال هنا يتجلى في معرفة ما نحتاج إليه بطول مترين:

ماذا نفعل

نحتاج الى "موت/ مترين"

لندفن أصواتنا

ثم يأتي السؤال الأكثر أهمية:

هل يمكن

 تقسيط

 الشرطة

للوطن

القادم؟!!

انظر الى عملية التقسيط وكيف رسمها الحطاب من أجل تكثيف دلالتها كلمة تحت أخرى وكان من الممكن وضعها في بيت واحد (هل يمكن تقسيط الشرطة للوطن القادم؟!!) عملية الرسم هنا واحدة من مقتضيات القصيدة المحدثة والحطاب لا يخلو من قدرة مميزة في هذا الجانب فضلاً عن قدرته اللغوية وإمكانية التلاعب فيها بفنية وابتكارية عالية. قد لا نتفق معه أحيانا في عملية الرسم حين لا يتلاءم تشكيل الصورة ذهنيا مع قدرة الإبصار ولنأخذ هذا المثال من قصيدة (اختناق):

ما من غيمة

إلا وأصيح بها:

يا.. توأم روحي

ضيقة، هذي الأرض، عليّ

فا..

نت..

ش.

لي..

ني..

ترتيب الحروف هنا جاء تنازلياً وكأن الشاعر انتشل الغيمة، والمعنى المطلوب خلاف هذا فالغيمة هي التي انتشلت الشاعر وليس العكس، وحين تنتشل الشاعر فإنها تسحبه من الأسفل الى الأعلى، وعليه كان على الشاعر أن يقلب ترتيب الحروف كي تتلاءم الصورة مع المعنى ذهنيا فتكون على الشكل الآتي:

ضيقة، هذي الأرض، عليّ

ني.

لي..

ش..

نت..

فا..

ولكنه فضل الرسم الأول لتعميق صورة الاختناق كما فعل - من قبل - في قصيدة (حصار)،

 وفي قصيدة (المصابيح 1997) استخدم جواد الحطاب شكل المثلث الذي تكون زاويته القائمة في أسفله:  وهو عكس المثلث الذي استخدمه الشاعر فاضل العزاوي في (القصيدة التي تأكل نفسها 1966) والتي تكون زاويته القائمة في أعلاه: الفرق بينهما أن العزاوي استخدم جملة واحدة فقط في قصيدة بدأت تأكل كلماتها واحدة تلو الأخرى حتى انتهت بمثل ما ابتدأت به (أنهم) لتكون المفردة نفسها ماثلة في البداية والنهاية:

انهم لا يجيئون لا في القصائد ولا في كلمات السفر

انهم لا يجيئون لا في القصائد ولا في كلمات

انهم لا يجيئون لا في القصائد ولا في

انهم لا يجيئون لا في القصائد ولا

انهم لا يجيئون لا في القصائد

انهم لا يجيئون لا في

انهم لا يجيئون لا

انهم لا يجيئون

انهم لا

انهم

أما مصابيح الحطاب فقد جاء ضمنها:

و:

حفنة.. حفنة

حفنة.. حفنة.. حفنة

حفنة.. حفنة.. حفنة.. حفنة

يسلمون كل ليلة حصتها من العتمة!!

لم أضع النموذجين السابقين هنا إلا بدافع المقارنة الشكلية لبيان مدى التجديد الذي وصل إليه شعراؤنا على صعيد شكل القصيدة المحدثة. علماً أن مثلثة الحطاب بينيّة ضمن القصيدة الواحدة وغير مستقلة مثل قصيدة العزاوي، أما قصيدة الشاعر العراقي الكردي الكبير شيركو بيكس فقد جاءت بينية أيضا ضمن مطولته الموسومة (مضيق الفراشات 1997) وكان مثلث قصيدته التآكلي مشابها لمثلث العزاوي:

لا اعرف عما اتحدت لكم أنا

لا اعرف عما اتحدت

لا اعرف عما

لا اعرف

لا

قلنا إن الحطاب يكثر من إلقاء الأسئلة في قصائده لأسباب تتعلق بجوهرها وهي كثيرة في هذه المجموعة وسنبدأ من قصيدة (فضاء داخلي) والتي نقتطع منها ما يأتي:

متى يأتي الليل بعينه الكريمة

ونقتسم الظهيرة بالتساوي

فمنذ انبلاج المدافع

والبومة المتأملة في البعيد بزوغ القمر

تحرس:

جماجم الجنود المعلقة على الأغصان!!

 

لماذا صارت الببغاء

تتقن جيداً..

تقليد أصوات الرصاص...؟

 

لماذا الأرملة الشابة

جسدها، المحقق المنشور بطبعته الجديدة

لم نعد نشهد قرب فصوله: العشاق

..

..

لماذا...

؟؟؟؟؟؟.......

وفيها جَمَع الحطاب النقيض الضمني أيضا: الليل والظهيرة (الضوء والظلام) والمدهش هنا هو اقتسام الظهيرة بالتساوي ومبرر هذا أن البومة ظلت تحرس (جماجم الجنود) وبما أنها لا تظهر إلا في الليل كجزء من حالة شؤمها لذا يريد الشاعر اقتسام الظهيرة بالتساوي كي لا ينال الشؤم من نهارهم المرصود بالموت. في المقطع الآخر يتعلق السؤال أيضا بجوهر القصيدة، والجوهر هنا يتعلق ضمنيا بشراسة الحرب القاتلة التي أدمنت صوت الرصاص، والببغاء كما هو معروف تقلد الصوت الذي يتكرر عليها باستمرار وفي هذا إشارة الى استمرار لعلعة الرصاص بشكل دائم أو شبه دائم في حرب لا يراد لها أن تضع أوزارها، ويأتي ثالث الأسئلة في مقطعها قبل الأخير داعما فكرة القصيدة وجوهرها، فترمل الشابة هو نتاج الحرب الضروس، وبقاؤها وحيدة هو المصير الذي دفعته الحرب إليها فهي مثل كتاب قديم تم التحقق منه، ولكنه ظل بعيداً عن متناول القرّاء (العشاق) أما المقطع الأخير والأكثر أهمية والذي جاء بعد سكتتين طارحا أداة السؤال (لماذا,,,) فهي ونقاطها تشير الى وجود أسئلة ربما لكثرتها لا يستوعبها حجم القصيدة، وربما لقلتها لا يمكن النطق بها جهاراً لسريّتها والدليل على هذا علامات الاستفهام الستة في نهاية أداة السؤال فضلاً عن مجموعة النقاط التي تعزز المعنى المضمر غير المصرّح به لأسباب لا مجال لذكرها لأنها تركت لتأويل القارئ بالتأكيد.

في مجموعة الشاعر (إكليل موسيقى على جثة بيانو) ثمة مركّب عجيب من مفردات متنافرة، بعض الشيْ، جمعها الشاعر في بوتقة واحدة فصهرها مع بعضها بعضا وخرج بمركب جديد مكون من (إكليل موسيقى) ويبدو التضاد فيه من حيث المعنى واضحا قليلاً فالإكليل عادة - وليس دائما - يوضع على قبور الموتى أو على أجساد سجيت ويتم تكريمها. و(على جثة بيانو) ربما تكريما لما قدمه لنا من عذوبة الصوت، ورقة تجسيد المشاعر، وتمثيل الروح الظامئة للمحبة والسلام. الحطاب أخذ العنونة من عنوانين مستقلين لقصيدتين مستقلتين: (إكليل موسيقى) وقصيدة (جثة بيانو) ثم جمعهما في عنونة واحدة كما رأينا ليكونا معا عنونة لقصيدتين في المجموعة الشعرية وليس للمجموعة كلّها، وهذا يعني انه لم يصل بعد الى اختيار ما يتلاءم والفحوى العام للمجموعة الواحدة. وإذا عاينا قصيدة (جثة بيانو) سنجد أن العنونة بشكل كامل قد أخذت منها، وتحديداً في النصف الثاني من المقطع الأول:

الريح: شك

والكلمات..

إكليل موسيقى

على جثة بيانو

في (إكليل موسيقى) يطرح الحطّاب سؤالا مهما آخر:

أما كان يمكن..

أن ينتهي الدرب في منتهاه..؟؟؟

وهو سؤال يطرح بإصرار مؤكد بثلاث نقاط وثلاث علامات استفهام فثمة ثلاث طرق مختلفة لطرحه وإجابة واحدة فقط (يمكن أو لا يمكن) ولا يجوز أن تكون الاثنتان معاً ففي يقين الحطاب كينونة واحدة صرح بها لشكسبير حين قال: {(تكون.. تكون).. ليست الـ(لا) سوى موقف في الظنون)} وفي (جثة بيانو) يطرح سؤالا مختلفاً: (أكان على الخريف أن يشكل وفدا من العشب، لمحاورة المناجل..؟) وفيه تكمن مأساة الشاعر من خلال لا مبالاته وأخطائه التي تفتح الطريق أمام الكلاب لتتناهب أخطاءه فتصاب بسعار النباح عليه. وفي كل هذا يكمن التلميح الى حالة عصية عن التصريح.

الحطاب لا تتوقف أسئلته عند حد معين فعالمنا المخرب هو من يحمّل الشاعر رسائله المتخومة بالأسئلة، والشاعر يوافق على حملها، وقد أوكله الشعر طرحها نيابة فلا تتوقف عند نقطة ما ففي قصيدة (حيزبون) ثمة أسئلة تكشف عن قبح الوجه الأمريكي من خلال مسؤولة أدمنت الرقص على الجثث والانزلاق على نهر من الدم وهي تشير من خلال رقصتها وبيديها المضرجتين بحقد دفين الى المقبرة، فمن هي هذي الحيزبون التي يعرّفها لنا الحطاب من خلال أسئلة يقفو بعضها على بعضه الآخر: أهي الناقمة على حضارات العالم القديم في بابل ومصر أم هي الحاقدة على (خيبر) وبابها الذي خلعه علي؟ أهي خطيبة (بن ملجم) التي أشعلت في نفسه نار الانتقام، أم هي زوجة الذباح الذي قطع رأس الحسين؟ أهي عاهرة تيمورلنك؟ أهي من وضع السيف في يد قاتل بوشكين، ومن خضبت سانتياغو بالدم النازف من أصابع فكتور جارا المقطعة، أم هي من قتلت وتقتل مليون طفل عراقي؟ أهي الموتور من أيام السبي البابلي، وموقعة خيبر، وأعمال السخرة في بناء أهرامات مصر؟

إنها الحيزبون نفسها التي تنال من أهلنا في القدس وحيفا فيسقطون وقوفا ولا ينحنون إلا لالتقاط الحجر. إنها الحيزبون الأمريكي التي تلتهم كلّ شيء ولا تدركها التخمة.

هكذا قالها الحطاب في قصيدته وصدق قوله فيها، فهي لا تزال كما هي غولا مفترسا للجميع. في الجزء الثاني من هذه المجموعة (استغاثة أعزل) يجعل الحطاب قصائده وقفا على الغزو الأمريكي الشرس وما جره على العراق من الويلات، والانتكاسات، والأزمات. وفيه يبدو أكثر سلاسة وأقل رمزية فالواقع الذي تناوله لا يحتاج الى ترميز كثيف فهو محمول في الأغلب على طاقة ترميزية لا يستهان بها ومع هذا فان الحطاب اشتغل على إثارة الدهشة وفاجأنا باستعارات غريبة منعت القصائد من السقوط في تقريرية الحرب التي سقط فيها حشد كبير من الشعراء ومن أنصاف الشعراء. ونموذجنا في هذه المجموعة (استغاثة الأعزل) وهي من قصائد الحطاب المدججة بالرثاء والتي ينتصر فيها لواحدة من شهيدات الكلمة التي اغتالتها الأيدي الآثمة ذات يوم من أيام ما بعد الغزو المقيت. القصيدة تغلب عليها سلاسة التعبير، ومرونة اللغة، وتشويق المعنى، وإثارة الدهشة، وتجلي الحكمة. يقول الحطاب:

ما أنتن الرجولة

حين تنفرد الرشاشات بامرأة..

كلام سهل، وبسيط، ومتواضع جداً، ولكن فيه من الحكمة ما يجعل المعنى أدق في دلالته، وأغزر في عمقه الإنساني، وأكثر من هذا انه أيقونة شعرية لقصيدة استغاثة تطلقها امرأة على شفا حفرة من الغدر، هي الرقة والجمال والأنوثة في مواجهة الغادرين من أنصاف الرجال وحثالة أيام الغزو المتنمرين على البشر وهم الجبناء بامتياز. هي الكلمة النابعة من القلب والمرأة المدججة بدعاء الأمهات في مواجهة أنصاف الرجال المدججين بالأسلحة وأدوات القمع وخنق الكلمات الحرة المنفلتة من قيود ظلمهم، وجورهم، وظلام أنفسهم الخبيثة. يقول الشاعر من لا يعرف الفرق بين المذيعة والمراسلة هو قاتل بالتأكيد. هو الجهل إذن مستشرياً منتهكاً جمال الحياة، وأنوار كلماتها، وحروفها المبهجة. هي البهجة في أطوارها وهم الشؤم في أطواره المارقة.

 وهنا نعود لنسأل هل انتهت أسئلة الحطاب عند هذه النقطة أم أنها ستظل في توالد دائم، وتناسل لا يوقفه عقم، أو عقر عندما يتعلق الأمر بسدرة الشهداء:

أورقت أصابع الشهداء

بتربة قلبي: علامات استفهام!

إذن ما دام القلب مورقاً بهذه العلامات فلا توقّف لأسئلته مهما تقادم الزمن.  ومن الأسئلة أعود الى الدراما والفن ثانية والى اشتغال الحطاب عليهما في قصيدتين: الأولى (... ما كتبه الحطّاب للأخضر بن يوسف)

والثانية (... ومن يأبه).

في الأولى سبقت العنونة فيها ثلاث نقاط في إشارة أو دلالة على وجود ما سبق القصيدة، وهي عطف لاحق على زمن سابق تبدأ باسم الشاعر الصريح (الحطّاب) وما كتبه للأخضر بن يوسف. الاسم الثاني يحيلنا الى الشاعر سعدي يوسف ومجموعته الشعرية (الأخضر بن يوسف ومشاغله) ويفاجئنا الحطاب هذه المرة باشتغاله على اللقطات السينمائية وانتظامها في سيناريو شعري خاص يحدد طبيعتها الفنية بطريقة إرشادية تحدد أداء الكاميرا لإعطاء أفضل صورة لفكرة يراد إيصالها للمتلقي، الحطاب لم يشتغل على السيناريو بشكل تام، بل أخذ منه ما خدم قصيدته حسب، واضعا إياه في أربعة مقاطع شعرية حمل كل واحد منها حرفا من حروف اسم الشاعر(سعدي) فكان السين أولها وقد جعله الشاعر على ستة مقاطع بأرقام متسلسلة:

س

(1)

كلاكيت

(منظر خام)

خارجي/

لقطة (ماستر شوت)

:

ممر طويل في حديقة

ممر طوييييييييييييييل في نهايته تابوت

ما يهمنا في هذا المقطع ليست المصطلحات الواردة فيه، بل الصورة التي سجلتها كاميرة الحطاب ببلاغة لافتة للانتباه، فالممر الطويل جدا هو في الواقع مسيرة حياة الشاعر العراقي سعدي يوسف المورقة شعرا وجمالاً واللقطة حسب تصوري الفني كانت مدعومة بلقطة أخرى لم يفصح عنها الشاعر بشكل مباشر (الترافيلينج) ولكنها وردت ضمناً وتمثل حركة الكاميرا من بداية الممر الطويل الى نهايته، الى حيث وضع تابوت الشاعر في نهاية الممر. تتصل بهذه اللقطة لقطة أخرى قريبة close up shot للتابوت متبوعة بلقطة zoom shot ويظهر فيها طائر أبيض وهو يحوم حول التابوت. ويستمر الحطاب بتحديد اللقطات الموحية (من قريبة ومتوسطة وبعيدة وقريبة جدا) ليجر انتباهنا إلى سقاطة التابوت على سبيل المثال والتي تتحرك مضطربة وكأن الروح التي حبست داخل التابوت تريد الانفلات من فضاء ضيق جدا الى فضاء واسع جدا. وتلك هي روح الشاعر سعدي التي تهفو دوما إلى الطيران في سماوات لا يحدها حد. لقد استكانت أنفاس سعدي لكن قصائده ظلت تتنفس تحت الرخام. هذا فيما يخص الرحيل وما بعد الرحيل يعبر عنه الحطاب هكذا:

لا نخاف عليه من النسيان

ما نخشاه غدا..

شكل تذكرنا له!!!

وتأتي المقاطع التالية بعناوينها الحروفية محملة بوصف الحطاب ومواصفات الشاعر الراحل فتلقي بعض أضوائها على حياته قبل الأفول الأخير، من الطفولة (الطفل الجامح في السيبة) إلى الشيخوخة: (شاخت النقاط في بيانك الشيوعي) مع أن الطائر لا يزال يطرق السقاطة وهو العارف أن داخل التابوت ثمة قصائد تتنفس، وتنتهي القصيدة بتعالق مكاني مع مرثية الشاعر مالك بن الريب وهو يرثي نفسه بعد أن دنت ساعة رحيله بوادي الغضا في قصيدة أصبحت أشهر من نار على علم: ألا ليت شعري هل أبيتنّ ليلة.. بجنب الغضا أزجي القلاص النواجيا.

"ليت الغضا".. والغضا: حمدان والبصرة

ومن السيناريو وفنه إلى المونودراما وفردانيتها ينتقل بنا الحطاب في قصيدته الموسومة (... ومن يأبه) القصيدة معطوفة أو مكملة لما قبلها بدلالة النقاط التي سبقت العنونة (...) وكذلك تسلسلها بالرقم (2) في تأكيد على وجود واحدة سبقتها بالرقم (1) وهي تبدأ بالسؤال عمن يأبه للحدث الحالي وهو الدخول إلى السجن. والشاعر هنا يقرر في جملة تمهيدية (Prologue) مؤكدا على بعض العناصر الدرامية في المونودراما:

ما كان عليّ أن سجن في يوم كهذا

الأول افتراضي تمثل في السجن (المكان/ الحدث) وافترض وجود من يأبه بهذا الحدث (الشخصية الغائبة) والثاني اقترح الزمن (في يوم كهذا) كإطار خارجي للحدث هذا فضلاً عن وجود الشخصية الوحيدة (مونودراميا) والتي تروي وتمثل الحدث عبر سلسلة من الأفعال الدراماتيكية (اعتقدت، رأيت، اقتنعت، أوشكت، كنت، توقفت، كدت، فعلت.. إلخ)

إذن توفرت لدينا العناصر الآتية: المكان، والزمان، والحدث، والفعل الدرامي، والشخصية الوحيدة الحاضرة، والأخرى الغائبة. وما علينا سوى تتبع سير النص لمعاينة هذه العناصر من داخله. ومع أن الشاعر لم يمنحنا المزيد من المعلومات في جملته التمهيدية إلا أنه كشف لنا في جملة توضيحية لاحقة عما اعتقده:

اعتقدت _ في البدء – أن الشرطة جاءوا لإلقاء التحية

حتى أني أوشكت أن..

في هذه الجملة ثمة أمران الأول عبّر عن نوايا الشخصية البريئة حين اعتقد أنهم جاءوا لتحيته والثاني حالة وقوع الشخصية في تصديق الأمر وقد قطع الشاعر سلسلة الوقوع في الوقت المناسب مما منح الشخصية قدرة على كبح جماح نفسها عن الاستمرار فيما ذهبت إليه، ولك أن تتخيل كيف أتمت هذا الفعل بطريقة دراماتيكية غاية في الدقة حتى يبدو لي أن الحطاب قد مارس التمثيل من قبل وخبر آفاقه الفنية. بعد القطع مباشرة يستدرك ب(لكن) فيأتي بعدها ما ثبته قبلها لإقرار حقيقة أخرى مختلفة طاردة لغيرها بواسطة اليقين الذي توصل إليه الإدراك:

لكن اللحظة التي رأيت فيها المفرزة، أيقنت أنهم جاءوا لإلقاء القبض

 هذا من ناحية اللغة ومن الناحية الفنية فإن عمل الاستدراك يمثل انتقالاً في عملية التمثيل تتغير معها طريقة النطق (الإلقاء) وأداء الحركة والإيماءة وحتى الملمح النفسي (التعبير بملامح الوجه) لبيان الفارق بين الحالتين وتضادهما. في الجملتين اللاحقتين يمكن التعرف على المغايرة في الإلقاء بين الشك والتردد وقطع حبلهما بنقطتين وفارزة (..،) من اجل الانتقال الى فعل جديد مختلف:

مع أني أوشكت أن..، حسنا فعلت الشرطة

الحالتان إذن مختلفتان تماماً من حيث المعنى والدلالة وهذا التحول من واحدة إلى أخرى هو ما يغري الممثل على أدائهما بشكل تفاعلي خلاق. ثم تأتي الجملة الأخيرة في المقطع مختلفة أيضا:

وإن كنت غير مهيأ لأسجن في يوم كهذا

مما تقدم نجد أن الحطاب قد استوعب مقتضيات الدراما ليس بشكل عام، بل بدقة وعناية لم يغفل فيها صغيرة ولا كبيرة في التمثيل، والإلقاء، والتعبير بالإيماءة أو الحركة. طبعا لسنا هنا لتفكيك النص على وفق المقررات الدرامية وحتى إن فعلنا فان إشاراتنا السابقة ستظل كما هي، ولذلك لا نود إرهاق القارئ، وإزهاق درجة تشويقه بالإفاضة التي من شأنها أن تفيد طلبة الدراما وأهل الاختصاص. ومما تجدر الإشارة إليه هو أن الحطاب في هذه القصيدة المونودرامية لم ينس استخدام أدوات الترقيم من خلال المقاربة بينها وبين قرائنها في الواقع ولم ينس أيضا بعثرة الحروف، ومدى الخدمة التي تقدمها لقصيدة كهذي القصيدة:

كان كتابي: من دون فوارز، ونقاط، وهزيل الديباجة

إلا أن الضابط شاورني "ومن يأبه"..

وحسنا فعل بالتأكيد

فالفارزة ستذكرني بـ "المفرزة" والنقاط بـ"نقطة التفتيش"

وعند هذه الإشارة أعود إلى عنونة القصيدة (...ومن يأبه) لأن معناها الخارجي تجلّى في عمق معناها الداخلي وأكدها أربع مرات على مدى مساحة القصيدة، وهذا موقف انتقادي صارخ لمن لا يأبه بشيء مع أن الأشياء من حوله مضطربة، وهزيلة، ومربكة حتى النخاع.

بهذا المعطى البحثي نكون قد تناولنا تجربة الشاعر جواد الحطاب الشعرية ولا ندعي أنها جاءت على أكمل وجه وأشمل مساحة لأن تجربة الحطاب الشعرية ثرة وثروة لا يمكن الإحاطة بكل ما لها وما عليها، وسيظل الباب مفتوحا أمام سيل الدراسات التي نتوقع صدورها لاحقا.

 

أستراليا 2022

www.sabahalanbari.com