تناسل الأسئلة وتواترها في قصيدة (معنيٌّ أنا)

للشاعر أفضل فاضل

(معنيٌّ أنا) عنونة لا أقول إنها عتبة القصيدة، ولا بسملتها أو نافذتها لأنها ببساطة شديدة هي جزء لا يتجزأ من القصيدة وفيها نلاحظ أمرين: الأول هو أنها مأخوذة من مفتتح القصيدة، على طريقة الشعر العمودي الذي ألفنا فيه مثل هذه الطريقة في العنونة. والثاني أن الشاعر أراد أن يقدم لنا إفادته عن نفسه في (زمن يابس ومهترئ مثل عظم ديناصور قديم) هذه العنونة نجدها ماثلة في أول أبيات القصيدة المعنية بتناولنا لمادتها الشعرية:

مَعْنِيٌّ أنا بكِ أكثر،

بل أكثر بكثير، من أيّ شَيْءٍ آخر .....،

لقد قطع الشاعر عنونة القصيدة من جملة كاملة ليلفت الانتباه الى المعنيّ الغائب المقصود على امتداد القصيدة، وليوجّه عنايتَنا معه إليه، وليوقد نيران الشوق شوّقنا لنعرف من يكون هذا المعنيُّ، وما كنهه؟ وما سره؟ وما سر وله الشاعر وتعلقه به إلى درجة قصوى من المحبة الخالصة. وهنا تعترضنا أسئلة كثيرة تتناسل بلا توقف في محاولة جادة للمعرفة التامة، ولكن هل هذا ممكن مع شاعر عمد منذ البدء الى إخفاء صورة المحبوب لتظلّ مجهولة بلا ملامح يصعب من دونها التعرف على جوهره، إذ ليس سهلاً في حب خالص لا يحدّ بحدود، ولا يقيّد بأسماء مجردة، أو صفات محددة أن يكون ذلك ممكناً على الإطلاق إلا إذا كانت القداسة هويته المطلقة؟ وإذا كان تجسيده داخل القصيدة يقترب من حالة التأليه المقصود لغاية قائمة على المبالغة التي تعني قوة الحب وقدرته العالية على الهيمنة المطلقة على حياة الشاعر.

إن أول ما لفت انتباهنا في هذه القصيدة هو اعتماد الشاعر على بنية تكرار العبارة لغرض تأكيد عنايته بمحبوبته أو محبوبه لا فرق بعد اكتشاف الهوية الجنسانية التي اضطرته على تقديم إفادته طوعاً قبل بدء القصيدة وفيها حدد زمنها الذي منحها مبررها فجاءت بعد يباس وتهرئ نافِذٍ لتكشف عما فيها من المحبة الخالصة التي لا تشوبها شائبة. إنها تذكرنا ببنية التكرار المعتمدة ميثولوجيا في الملاحم والأناشيد القديمة. وقد تقدمت المقطع الأول كما ورد في أعلاه: (مَعْنِيٌّ أنا بكِ أكثر) وتكررت ضمنه أيضاً: (مَعْنِيٌّ، وبشدّةٍ) وتقدمت المقطع الثاني: (مَعنيٌّ أنا، ويا ليت تعرفينَ كَمْ؟) ولما لم يكتف الشاعر بما عنته ابتداءً فانه لجأ الى الوصف الذي يعطيها ملمحاً أوليا للتجسيد:

مَعْنِيٌّ، وبشدّةٍ،

بفَيْض المَطَرِ العارِم،

ذاك الذي يَهطلُ بلا انقطاع

عند تُخوم شَفَتيكِ

هذه الصورة الشعرية الدافئة تنبؤنا بعظمة المحبوب، وقدرة شفتيه على احتواء المطر الذي يهطل مدراراً بلا انقطاع، ويضيف ما من شأنه تأكيد هذه العظمة إذ جعل من عينيها ملاذا لعصور من الربيع وهي تداعب عينيها أملا بقطر من مطر يعيد له نضارته وجماله الساحر. ويستمر الشاعر ببث معاناته وشكواه المبنية على أسئلة تنتظر الإجابة ولا إجابة يمكن الحصول عليها فالأسئلة هنا لم يطرحْها الشاعر بغرض الإجابة عليها بل لبيان ما صار عليه حاله جراء هذا الحب وما تركه في نفسه من آلام شهية، وأنين ممض مكتوم. هذا من جهة ومن جهة أخرى فانه أراد من أسئلته أن تكون دالا على عظمة حضورها الذي أصبح الوجود كلّه موضع توسل واستجداء له. حضور بلغ درجة التأليه وربما فاق التأليه بدرجات ودرجات. ويستمر هطول الأسئلة المتناسلة حتى تبلغ مبلغ الصمت وسماع ذلك الصمت. يقول الشاعر في هذا السؤال تحديدا:

هل تُراكِ تُلقينَ السَمْعَ،

ولو لمرّة ٍ أولى،

وأخيرة

لدُعاء الصلاةِ الصامتة

تلك التي تَنبُتُ كالقيامةِ،

بين صَمتي أمامكِ، ولَفح النار

وما الصلاة الصامتة إلا نجوى يبثها الشاعر فتستلم شفرتها الحبيبة بدقة نادرة ولشدة نجواه فإنها تنبت كالقيامة بين سكوته في محرابها وبين مس النار لوجهه المتطلع إليها بانبهار ودهشة. وتأكيدا على هذه النجوى الخفية المكتومة يعيد السؤال بصيغة أخرى:

هل لكِ مَرَّةً،

أن تُنصتي مليّا إلى ما لا أقولُ

وأن تُصْغي، الى ما لا أبوحُ به ِ؟

ومن سيقدر على استلام مثل هذه الشفرات غيرها ويفهم مأربه منها وبينه وبينها لا حدود لمسافة سوى الأثير والموجات والذبذبات الصامتة، وقدرتها الفائقة الحكمة وغير المحدودة بحدود أو المحصورة بين تخومين؟

ويصل الى ذروة الشعور القاتل بين اثنين: الصمت والسكوت وكلاهما يمتحان من اللغة الخرساء. شعور يرتقي الى مستوى لم يبلغه أحد من قبل سوى الآلهة العظام، وهي عنده ليست بأقل شأنا من رفعة الآلهة ولهذا نراه يتوسل إليها سائلاً:

هل لكِ أن تكوني أكثر أُلفةً معي،

أن تتنحّي عن رفعة الآلهة

وحين لا تجدي توسلاته نفعاً فانه يبدأ البحث عن طريقة أخرى للتعامل معها غير النزف ووجع الكلمات الذي يضاعف الألم، ويكدس المرارة، ويغرق القلب بأمواج من المعاناة المتدفقة.

القصيدة احترفت الأسئلة فتناسلت مرة بعد أخرى، ومقطعا بعد آخر، وكلّها غير معنية بالبحث عن إجابة قدر ما تُقدم من اللوعة والمرارة والإحساس بالفقد الذي رافق الشاعر على امتداد حياته حتى بات يسأل عن فسحة لالتقاط الأنفاس وهو العارف أن لا شيء له في أي شيء بعد أن حلّت هي في كل شيء. وهنا تتغير طبيعة الأسئلة فيسألها عما تريده بعد أن سألها عما يريده، طالباً منها التحديق في وجهه المتعب لتقرأ عليه خسائره وهزائمه في حروبها التي لم تنتهِ بعد، وفي هذا ملمح مهم يمنحنا إشارة البدء بتشكيل كينونتها المبهمة ثم يعزز هذا الملمح بملمح شرطي آخر حين يقول:

إفعلي،

وسأدُلّكِ فوراً على مواضع النَزف في جَسَدي

وخرائب ما تبقّى مِنّي في حَربكِ الأخيرة .....

و(الأخيرة) هنا لا تعني انتهاء الحروب كلّها فقد ترك وراءها عدداً من النقاط التي تشير الى أن وراءها ثمة حروب لم يحن أوانها، ولم يتّقد أوارها. هل انتهت الأسئلة عند هذه النقطة، وأغلقت الباب دونها بينما الشاعر لا ينفك يطرح سؤاله الأخير في آخر القصيدة؟

هل هذا ممكنٌ؟

أَمْ أنّ عنائي (سِيْزِيْيف)

وصَخْرَتي ثقيلة،

يا أنتِ،

يا قطرةَ الندى!

......... ؟!!

عند هذه النقاط (......... ؟!!) انتهت الأسئلة في القصيدة، ولكنها لم تنته في ذهن الشاعر فهي عنده مثل صخرة سيزيف الثقيلة ومعاناته المستمرة من دحرجتها صعوداً الى قمة الجبل كلّما سقطت الى أسفل الوادي، فهو لم يتوقف عن تدوير الأسئلة وتواترها، ولم يكتف بالنداء عليها حسب، ولكنه ترك لنا تلك النقاط التي ألحقت بالنداء لتشير الى ما خفي عنا من أمرها، وسرها، وكنهها، وكل ما يتعلق بها. نقاط متبوعة باستفهامٍ متواترٍ وتعجبٍ مكررٍ في إشارة الى أن ثمة أسئلة لم تطرح بعد، وثمة الكثير الكثير من العجب العجاب لأثيرته التي أطلق عليها تحبباً وتكريماً (قطرةَ الندى) وصرنا نعرف كل شيء عنها ونعرف حتى كنيتها وما ألحقت بها من الصفات فمن هي هذه المعشوقة الناعمة القاسية؟

نحن عرفناها بالتأكيد فهل عرف القارئ ذلك أيضاً؟! هذا ما نأمله بقوة، مع شكرنا للشاعر العذب أفضل فاضل الذي منحنا هذه المتعة الجمالية الراقية.

*