فرات إسبر

رأس الأيام الحافية

أن نبدأ من العنونة فذلك أقصر الطرق الى ما وراء القصد. ثلاث كلمات شكلن عنوان القصيدة الجديدة للشاعرة فرات إسبر (رأس الأيام الحافية) جاءت الكلمة الأولى بصيغة المفرد (رأس) متربعة على قمة مثلث بنيت قاعدته على الموصوف (الأيام) وصفتها(الحافية) وجاءت الثانية بصيغة الجمع (الأيام) متعارضة مع المفرد (رأس) تعارضا مقصودا لتأكيد تفردها وقيادتها لمركبة العمر الأخيرة. ومن اجل هذا لم تستخدم الشاعرة الرؤوس جمعا بدلا من الرأس مفردا فللأيام رؤوس زادت أم تقصت ستوصف بـ(الحافية) في دلالة لهربها من دون أن تثقل كاهلها بمداس قد يؤخر سرعة الوصول الى آخر الضوء الذي تهدف الشاعرة/المرأة للوصول إليه دون أن تحيطنا علما بماهيته الغامضة.

منذ الدخول الى عالم القصيدة تستبدل الشاعرة الأيام بالمركبة كناية عن رحلة مقررة في زمن الهجرة ثم تستبدل المركبة بالقطار

السائر على سكة العمر بعجلات تسحق الذاكرة في محاولة مستمرة للوصول الى الضوء المتلألئ في آخر نفق الحياة أو كما تقول الى المحطة الأخيرة أو لنقل إلى أن رحلة كهذه تستهلك قوت الذكريات وتعجنها تحت عجلات السفر الحديدية على الرغم من شيخوخة السفر الذي أنهكته المحطات الكثيرة.

في المركب الأول للهجرة

القطار صوب الضوء يمضي

ذكريات تتسابق تحت عجلات القطار.

في هذا الوقت العصيب العصي على التمدد هل تتحدث فرات إسبر عن رحلتها هي أم عن رحلتنا نحن؟ أم أنها تصهر ذاتها بذواتنا فيتوحد عندها المفرد بالجمع والـ(هي) بالـ(نحن) فالإنسان ذلت واحدة سابحة في الكون باضطراب وارتباك على الرغم من وجود الفوارق والعوازل وما الى ذلك من حدود وحواجز وجدران. هي تسحبها عجلات الزمن من شعرها حتى المحطة الأخيرة ونحن مسحوبون تحت العجلات المهاجرة نفسها.

هي تنادي السفر المسن كي لا يطيل الوقت وكي لا يترهل في آخر العمر ولتخبره يقينا عما نحن عليه فقطار العمر يسحق ذكرياتنا من غير أن يأخذ في اعتباره أية منزلة نحن نازلون. هي تعرف أنها مهاجرة وأن هجرتها تقودها نحو الضوء في أول المشوار ولكن هل نعرف نحن سببا لتلك الهجرة البعيدة؟

 وما زلت أقرأ في أسباب هجرة الطيور

نحن نطلب من الطبيعة عونها في سبر أغوار هذا السفر الاضطراري الطويل. أو الهجرة الاضطرارية الى منابع النور. هي تتوقف في هذه المحطة متأملة عمق ما رأت وما تكشف لها وهي ترى أصيص زهرة هي نفسها وقد سقطت على رأس الأيام الحافية. هي تحتمل غيابها الطارئ الذي سيثقل عجلات السفر التي تجشمت عسرها عبر كل المحطات أو موتها المفاجئ الذي يسلبها حرية الحراك والاندفاع نحو تلك المنابع القصية. في هذه اللحظة الدامية تفترق طرق الشهوة فيما تريد ومت لا تريد وبين تصفيقها على عجل للحياة وتصفيقها لذاكرة تطل عليها أو تمد رأسها مثل شمس الصباح مشعة على الشجر الصيفي

تتوقف ثانية في انتظار القرار الأخير. هل تعلن الخاتمة، أم تؤجلها بعد حين، أم تضيفي سبيلها وهي تسير على جثث الأيام مصغية لطقطقة عظامها المهروسة ومن أعماقها يندلق سؤال محير:

إلى أين أنت ذاهب أيها الطريق؟

لقد أضاءت بوصلة الرحلة ولم تعد مركبة الأيام الجريحة قادرة على اجتراح المسافات المجهولة أو منابع النور البعيدة في آخر مشوار العمر وهي لهذا وذاك تعلن انسلاخها حتى من الشهوات لأن شهواتها فقط هي تلك التي تتدلى مثل أغصان شجر دون ثمار دانية. هي تسير على طريق العودة باتجاهات معاكسة لا تصل بها الى ما تريد. والذكريات السحيقة وطريقها يسيران على هدي بوصلة الهجرة نحو أقاص شاسعة بعيدة وقريبة في آن واحد. اتجاهان متضاربان متعاكسان يمتحان من تعارض قائم منذ أول القصيدة وحتى لحظة مثولها للسفر الاضطراري، ومثل

"ضوء النجوم كلما اقترب ابتعد

أو

"شعاع شمس ناقص في الظلام

مكتمل في النور!"

وقد ظلت معلقة بين نصفين لا يكمل أحدهما الآخر قدر ما يتعارض معه وكأنه لصيق به بلاصق قدري خارج عن تحكم الذات وإرادتها المرتبكة. تحية للشاعرة فرات إسبر وهي تتحفنا بجديدها من القصائد الشعرية المتفردة.