للشاعر عبد الأمير مراد

أنموذجان من صَحِيفَةُ الْمُتَلَمِّس

 

صَحِيفَةُ الْمُتَلَمِّس: عنونة حددت أفاق مجموعة الشاعر عبد الأمير خليل مراد، وحصرتها بحادثة خسيسة تعلقت بالشاعر جرير الضبعي الذي حمل بنفسه صحيفة عمرو بن هند والتي فيها هلاكه لكن جريرا المتلمس فتح تلك الصحيفة وعرف أن المطلوب فيها هو قتله والتخلص منه نكاية وكيداً، ويبدو أن مرادا أراد أن تستظلّ قصائده بفيء هذه العنونة الأثيرة لديه، وربما لوجود بعض الشبه بينه وبين جرير الشاعر الجاهلي. وربما ستفصح قصائد المجموعة عن هذا أو تتجاهله وليس لنا إطلاق حكم سابق لأوانه. ولكننا نشير قبل الدخول الى عالم المجموعة الى (مفتاح الصحيفة) التي اختارها لنا الشاعر مراد عبد الأمير لفتح مغاليق القصائد من النفري ومن أبي الطيب المتنبي. والإشارة أيضاً الى أن المتلمس المعني بهذه المجموعة هو الشاعر عبد الأمير مراد فالمتلمس هو البديل الموضوعي أو الشخصي الذي اختاره الشاعر وتستر به بقصد لم يتضح بعد أو هو القناع الذي (اختفي خلفه الشاعر عبد الأمير لأنه وجد فيه ذلك التطابق، والتماثل، في المواقف المأساوية التي مر بها) (1) ويظل التساؤل قائماً ومشروعاً هل حدث لمراد ما حدث للمتلمس من قبل، أم حدث هذا لإعجاب ظاهر من مراد بشخصية الضبعي لما اتصفت به من صفات نادرة مثل استهجانه الأصنام وسخريته منها وشاعريته التي جعلت منه واحدا من فحول بني ربيعة؟

ومن اجل الإجابة الدقيقة سنبحر في أنموذجين من نماذج المجموعة علّنا نجترح منهما غايته المركزية:

أولاً – (احتمالات)

عشر احتمالات شعرية فيها التماهي (التعالق) مع شخوص شعرية مثل أبي الطيب المتنبي والمعري، وصوفية مثل الحلاج والنفري، وفلسفية مثل التوحيدي وسقراط.

أخذ مفاتيح الصحيفة من النفري، ومن أبي الطيب المتنبي أخذ ما وسم نفسه به من المصائب والشدائد، ومن هذه الكوكبة الراقية وما اخذ منها وعنها تشكلت رؤية الشاعر مراد عبد الأمير وانطلقت في أول احتماليات الشعر والفكر والتصوف. ففي الاحتمال الأول ينتهي الى التوحد مع الآخر على ذات الطريقة التي قال بها الحلاج في قصيدته التوحيدية (أنا من أهوى ومن أهوى أنا) أذ جاء في القصيدة مأ يأتي:

أنا ... أنتَ

وأنتَ ...  أنا ...؟

وَكِلانا ‏مَأخوذٌ بحُلْمٍ لمْ يَنتَهِ ...

                                بَعدُ ...!

 وفي الاحتمال الثاني يكشف لنا بطريقة النقيض المقصود انه لم يهمْ بشيء همَّ به المتنبي من قبل. فهو يتفرّد في فقره وزهده، وهذا هو ما يميّزه عن نقيضه وحتى في حلمه يبدو زاهداً أيضا ولا يستهلك من ضوئه حتى ولو قدراً يسيراً. في ثالث الاحتمالات تنصب الفكرة في محدودية القدرة وضعف قابليتها فمن الصعب وربما من المستحيل توزيع البرتقالة على من هم بحاجة إليها ولذلك تقتصر معرفته دون بلوغ حجم المعرفة الكلية. ورأى لزاما عليه أن يلحق بذاته صفة العته ليبرر بها مقدار ضعف الكائن البشري.

الاحتمال الرابع يضعه الشاعر خارج دائرة احتمالاته الشعرية طالبا من الآخر أو من ذاته، لا فرق، أن يتركه لحاله أملاً في الوصول الى زواياه المليئة بالأسرار العِلّية:

أتملّى في الدَّوحِ المَليءِ بالأحْجارِ الكَرِيَمةِ

وأقيمُ أَعْراسي في بَعْضِ زَواياكَ

‏الحُبْلى بالأسرارِ العِلّية

وتتوالى الاحتمالات وتقفو، وفي كل واحد منها تزداد اللحمة بينهما ويتأكد التوحد اليقيني بين الاثنين، بين الحبيب والمحبوب، بين الجزء والكل، وبين الأصل وأصل الأصل وبين ضلوع الحبيب والمحبوب الذي غزل من تلك الضلوع. وتستمر الاحتمالات بنَفَسِها الصوفي، وتهدّجها الحنون، ورقتها، وعذوبتها الباذخة. ومع هذا كله لم يفصح الشاعر عن الآخر بشيء لذلك ترك بعد مناداته عدداً من النقاط هي جوهر ما سكت عنه وباحت به النقاط بطريقة صامتة:

 (يا حَبِيبي ....... أَيُّها الحَجَرُ)

بهذه النقاط التي لم تأتي اعتباطاً ولا سهواً ثمة معنى دال ومدلوله قائم على افتراض ما للحبيب من صفات وسمات يتفرد بها ويعرف من خلالها وحتى وصفه بالحجر كدلالة عن القسوة وعدم المبالاة لا يمنحنا الكشف المطلوب عن ماهية المحبوب. ويذكرنا الحجر هنا بحجر الشاعر محمود درويش الذي علق في ذهننا دون غيره من أبيات القصيدة: (ليت الفتى حجر.. يا ليتني حجر)

وتزداد الاحتمالات التصاقاً بمفردات الطقس وشعائريته فيبدأ الشاعر بشدو أناشيده التي تمس شغاف القلب وتغريد تراتيله السحرية وهو بينها مثل عصفور:

‏(يَتنقَّلُ ما بينَ القمّةِ والسَّفحِ)

مسافة حصر بينها ويود النفاد منها بيأس مقدر عليه وهو في هذا كله مثل:

بَعْضُ فَراشاتِ مَدِينتِنا الجَميلةِ

‏والجَميلةِ بكلِّ ما يَتَمَنّاهُ الطائِرُ

‏الذي لا يَتَنَفّسُ غيرَ الصُعَداء

في الاحتمال السابع تتكثف الصور الشعرية ويتعمق المغزى والدلالة وسطوع الحب بشدة مصحوبة بوميض دافق مثل: (عَينايَ ‏زُجاجتان) ِو (وَقلبِي حَطَبُ اللحَظَاتِ العاريةِ المُتَوهِّجة بالعِشْقِ) و(وجَسَدي زَوْرقٌ من الدُّخَانِ الأبيضْ) و(وَشُطْآني ‏عناقيدُ ‏اللذَّةِ ودُفُوفُ الرِّيحِ) والأهم من هذا وصفه لنفسه الذي يعرّفنا فيه على أنه (طفل الشعر الكئيب) الذي ينتظر من يهيئ له زورق الرحيل ليأخذه إلى الضفّةِ الأُخرى ولكنه لا يدري من منهما على وجه التحديد:

‏أَنا.. أمْ.. أَنتَ ...؟

وفي هذا عودة مقصودة لمسألة التوحيد والتماهي التي سبق وأشرنا إليها، فكلاهما واحد غير قابل للتجزئة. النقاط هنا لعبت دورا خفياً فالاثنتان عبارة عن وقفتين للتفكير والتأمل وبعدهما يأتي القرار والأخريان كذلك أما الثلاث فهن ما سكت عنه سابقاً ليظلّ المحبوب على ما هو عليه غير قابل للوصف، والتحديد، والتشخيص لأنه روح العشق المتوهجة. وفي احتمال آخر يتوضح فيه موقفه من العمر الذي يتدحرج بطيئاً جداً على سلّم الحياة. وموقفه من الانتظار واليأس من الانتظار واصفاً إياه بنخلة عرقوب والتي كثرت حولها الوعود والحنث بها. لينتقل منه الى التوحيدي وزهد المعري مستعيرا الحكمة القائلة: ((إذا تَمَّنتْ ‏نَفْسُكَ بقاءَ الأَبدِ؛ فَلا تَسكنْ إلى أَحدْ) ويأتي أخيراً الاحتمال النهائي الذي يقيد فيه فرسه بغبار اللعنة وعند هذا الفعل تتوقف القصيدة عن بوحها وقلقها وارتباك مشاعرها وفيض نورها المضطرب من شدة الحب والتوحد.   

ثانياً – (صحيفة المتلمس)

قلنا إن المتلمس هنا (في هذه المجموعة) هو الشاعر نفسه الذي يميل هواه مع حفنة من شعراء العمود وفلاسفة الماضي البعيد. فهو لا يخفي إعجابه بهم والانحياز لمآثرهم وهو يحسب نفسه في آخر حلقاتهم التاريخية وهو القائل:

{وَتاريخَ الأشخاصِ (مُلُوكاً، صَعَاليكَ، غُلاةً،

‏شُعراء)  

‌‏مِنْ كلكامشَ إلى ‏عَبْدِ الأَمير.... و .... و .... و

لقد مرّ على مخطوطات كثيرة موزعة بين الحب والموت تذكرنا بما جاء في رواية أريك ماريا ريماك (للحب وقت وللموت وقت) يقف على شفا حفرة مستحضراً روح المتنبي وهي تذوي واقفة (وما في الموت شك لواقف) وينهل من طرفة بن العبد بعض شدائده، ومن عشتروت والعالم السفلي بعضا من أدواتهما، ومن النفري بعض حِكَمه، ويطيب له استنطاق مفردات عتيقة مثل (الحَوْأب) وفي النهاية فهو يتقصد الانطلاق من القديم الموروث الى الحديث القائم، وإن (صحيفة المتلمس) لديه بنيت على مفاضلة الماضي بشكل واضح من خلال التضمين المستمر لما قاله المتنبي والنفري وغيرهما فضلاً عن الاقتباس من القرآن الكريم وتحديداً من غيابة يوسف في الجب، ومما قاله ابن نوح لحظة هروبه من أبيه الى الجبل، ومن سورة (البقرة) الآية 155 وما نسب للإمام عليّ وغير هذا كثير. والشاعر هنا لا يكتفي بأخذ المعنى أو جوهره وإنما تضمين القصيدة بضعة أسطر من حكمة النفري مثلاً التي جعل منها مقطعا ثالثاً مستقلاً من مقاطع القصيدة:

(3)

‏(يا عبدُ إذا قمتَ إلى الصَلاةِ

‏فاجْعَلْ كلَّ شَيءٍ تَحْتَ قَدَميك

‏يا عبدُ لا ‏تُنْفِقْني ‏عَلَى شَيْءٍ فما الشَيءُ بِعوَضٍ مِنّي)

وعلى العموم في المقاطع الثلاثة الأولى كثرت الأقواس التضمينية وكثر التعكز على خيزران الماضي وصولا الى الحاضر ليندمجا معا في قصيدة الشاعر مراد عبد الأمير ضمن خميرة أعدها لتنتج هويته الشعرية المميزة. والشيء نفسه ينطبق على بقية المقاطع التي لم نجد خلو مقطع منها ففي المقطع الرابع ثمة اقتباس من القرآن الكريم: ( ‏بِشيء مِنْ الخَوْفِ والجُوْعِ ونَقْصٍ من الأموالِ وَالأَنفسِ وَالثَمَراتِ) وفي المقطع الخامس ثمة تضمين مما نسب للإمام عليّ: (النَّاسُ نِيَامٌ ، فَإذَا مَاتُوا انْتَبَهُوا) وفي المقطع السادس اقتباس من القرآن أيضا: (سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي) وفي المقطع السابع اقتباس آخر من القرآن: (أَبَقَ الى الفُلكِ المَشْحُون) وفي المقطع الثامن ثمة تعالق مع حياة الحلاج ورماد جثته وفي المقطع التاسع يأخذ عن النفري قوله: (الحرفُ حِجابٌ والحِجابُ حَرْفٌ) العملية إذن لم تأت عفوية أو لا إرادية وإنما جاءت بقصدية ثابتة لتكون لبنة من لبنات المقطع الشعري وتحميلاته المقصودة أملاً في تقوية البناء ورصه بما يكفل تفوّق القصيدة على نفسها أو على بقية القصائد خاصة وأن لها مركزية مهيمنة على الأقل من حيث كونها العنوان المركزي الذي اشتغل فيه الشاعر على مجموعته كلّها.

في المقطع الخامس من القصيدة يبارك الشاعر بالحسنى لمن ليس فيه من الحسن شيئاً مستخدماً مفردة (طوبى) المكررة على مدار المقطع:

طُوبى للأزمنةِ المَجْنونةِ بالزَّعيقِ

‏وَرسائلِ الموتِ المؤجَلَّة

وسواء أكان المعنى الذي أراده الشاعر من (طوبى) هو الجنة أو الحسنى أو الشرف العظيم فان هذه المعاني تتنافى مع من أراد لهم الحسنى فلا الأزمنة المجنونة بالزعيق ولا الطمي الأحمر ولا المدن الغافية ولا هو والآخر والموتى يستحقون أن يكرموا بالطيّب الحسن، ذنبهم انهم ورثوا

(صَناديقَ الفُوضى

‏وَعِظامَ الفِرْدَوسِ الأَخضرِ)

لقد استخدم الشاعر المفردة القديمة استخداماً حديثاً غرضه السخرية المرة من العجز الذي ألم بالناس والزمن فأقعدهم عن القيام بأفعال الحسنى ويتضح الحال في المقطع اللاحق والذي يعاني فيه الشاعر من برد الليالي القارصة ومن الضياع وترقب الطوفان الذي ستطفو عليه عروق الشاعر كما لو أنها جبلت من قش تصفعه موجة إثر موجة وتنقله الى حيث تريد بلا قرار. وتنجلي أمامنا صورة طوفان نوح ومعصية ابنه القائل: (سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي) وإصراره على النجاة بالجبل على الرغم من تذكيره أن لا عاصم من غضب الله لكن الشاعر هنا يريد ارتقاء الجبل ليأويه من:

(مِنْ عَرَقِ المُعَلَّقاتِ

‏ ‏وَالبُكَاءِ على وَشْمِ الأَطلال)ِ

ليلوذ بمعلقات محدثة هادمة لقوة العمود وصلابته بعد أن فرضت الحداثة نفسها على الجميع. وهي المنقذ الأسلم من بكائيات الماضي ودموع الخنساء، وجفاف الكوز، وعبور الصحراء العطشى.

في المقطع السابع تتجلى آلام الفقر، وقسوة العجز، والحرمان، والفاقة. فالراتب لا يسد لقم الأطفال في أسبوعهم الثاني وفي الثالث لا يبقى لهم غير أن يحلموا بالرغيف وحال الشاعر/ الإنسان كحال الطير الذي:

(أَبَقَ الى الفُلكِ المَشْحُون) عله يفوز بعطايا المتلمس لكنه لم يجد ما يلوك غير الكرب. وفي المقطع الثامن يتجلى الوصف الدقيق لما يرى من المشاعر بعينين:

تَطُلاّنِ من السَقْفِ

‏كَغَريقٍ يَشْهقُ من حَدائقِ الوَحْشة

والأمرّ والأنكى أن يرى كفه تقطع كفه الأخرى ورماده – كرماد الحلاج – يذرى على أمواه دجلة ليضيع كل أثر لوجوده ذات حياة عاشها في هذا الكوكب الشقي. وفي المقطع التاسع (الأخير) والذي هو خلاصة كل المقاطع السابقة يجد الشاعر نفسه ليس بأكثر من طائر في ارض الله يتدبر:

‏ قبلَ الإقامةِ على حَصيرةِ المَعرّي 

‏قِصّةَ مُوسى وَالخِضْر

وقد سبق هذا باقتباس قرآني جاء على لسان فرعون حين أمر هامان أن يبني له صرحا يعلن من عليه ألوهيّته التي ليس لها نظير. وكما قلنا سابقاً فإن رؤية الشاعر المحدثة بنيت على أسس الماضي التليد المدعوم باقتباسات كثيرة وتضمين أكثر وكأني به أراد استنطاق غير الناطق، وتأصيل مادته حتى ولو على حساب شاعريته وتفرد صوته، وما كان يهمنا هو الأخذ بجوهر الماضي وتجاربه ومعانيه العميقة بدلا من استعراضه أو وضعه في المتناول على الرغم من معرفتنا به، وحفضنا له، والتأثر بمواده الغنية وان جاء ذلك ببناء شعري رصين في الشكل والمبنى. ويظل السؤال ماثلاً بعنادٍ هل متلمس الماضي هو ذاته متلمس الحاضر، وهل تماهى الشاعر المحدث عبد الأمير خليل مراد مع الشاعر القديم جرير الضبعي؟ قد أشرنا الى بعض مواضع الشبه فيما مر بنا ولكننا لم نجد ما يجعلنا نؤكد بالإطلاق على ذلك، وإذن ثمة أمور أخرى لم يدل بها الشاعر هي التي تقف وراء أسباب اختياره لهذه الشخصية. أسباب تتعلق بسيرته لسنا الآن بصدد تناولها والبحث عن أوجه الشبه بين طرفيها تاركين هذا لمن سيعكف على دراسة الشاعر وحياته أو سيرته الذاتية.

وأخيراً وليس آخراً لا بد من الإشارة والإشادة بلغة الشاعر السلسة المرنة الرشيقة والمبنية على أسس السهل الممتنع حيث تتجلى فيها بلاغة المعنى والتراكيب الصورية المبهرة. وقدرتها على استنطاق المشاعر والأحاسيس الإنسانية المسكوت عنها في أغلب الأحيان.

.................................................................................................

(1) سلمان داود الشويلي/ توظيف المقولات في الشعر المجموعة الشعرية (صحيفة المتلمس) أنموذجا

 

*