فرات اسبر

في الحديقة الهندية بكيت الغربة والاغتراب

من نزهةِ ارتقائِها بينَ السماءِ والأرض (المجموعة الشعرية السابقة) رأت فرات إسبر بعد ارتحال طويل، وامتداد شعري شاسع أن تتفيأ، تحت شجرة بوذا، متأملة ومجترحة عالماً آخر من الصفاء والنقاء واللحظات الصوفية المنهمرةِ من شلالات الشعر، وتوهجه الذي يبهرُ الروحَ ويرتقي بها الى ملكوتِهِ السحري العجيب.

(تحتَ شجرةِ بوذا) عنوان المجموعة الجديدة التي طلعت بها الشاعرة علينا مؤخراً بطباعة فاخرة وغلاف أنيق ارتبط بعنوان واحدة من قصائد المجموعة لتتفيأ بها المجموعة كلّها (تحت شجرة بوذا) (*) وتحت ظلالها الوارفة. ولأنها العنوان الأول، وعتبة الدخول الى عالم القصائد لذا سأقف عند هذه العتبة قليلاً متأملاً فيما رأته وسبرت أغوارَه وغارت فيه الى الأعماق القصية. إنها شجرة التين اليانعة شجرة التأمل واستبطان المجهول، والحافلة بفروعها وأطايبها متمثلة بصورة امرأة هي نفسها التي ترى مديات الحب وعذوبة الأشياء وسموها وجلالة ما ستكون عليه في قادم اللحظات. هي ليست لبوذا مع أنها تنصهر فيه ذروة من ذرى نقائه الأبدي محاولة الوصول الى عالمها المميز، ومدينتها الشعرية الساحرة.

"تحت شجرة التين اليافعة

رأيت بوذا

وكنت قد صرت امرأة"

امرأة لها توقها، وتذوقها، وعذوبتها، وبراعمها ونداؤها الصامت الذي تفهمه العصافير فتلحق بها الى حيث تضع رحلها في المكان المقصود، وفي زمن مستجد محكوم بالتوق والانتظار عبر تحول مستمر ورغبة تمنح للنهر والخريف والفصول. وهي الموقنة تماماً أن ثمة نجمة في البعيد تسمعها وتراها.

شجرة بوذا إذن هي منحة السفر، وجواز الترحال والتجوال في عوالم المجموعة كلّها، وهي مجموعة كبيرة لا يمكن الخوض في غمارها بمقال واحد، ولهذا اخترت قصيدتين واحدة كنت قد تناولتها بمقال خاص نشر في صحيفة طريق الشعب الغراء تحت اسم القصيدة نفسها (رأس الأيام الحافية) والثانية التي بدأت الآن اشتغالي عليها (في الحديقة الهندية بكيت) لأسباب تتعلق بمساحتها السردية وبموضوعها الذي تمحور حول الغربة، والاغتراب، والغياب الطويل.

تبدأ القصيدة سعيها الدائب، وبحثها المستمر عن المدينة التي تكاد صورتها تضيع، وملامحها تختفي من شدة البعد والاغتراب والغياب. أذ يختلط الزمان والمكان فتزاح المدينة الأولى لتحل محلها بديلتها محاولة زعزعة ما يرتبط بها من ذكريات عصية على الإزاحة. الشاعرة فرات إسبر تسير على شارع الغربة (كوين ستريت) ترى الى البحر الممتد الى آخره فتجترح وجه مدينتها الأولى.

المكان الجديد تحول الى حافز ذاكراتي بعد أن بدأت الشاعرة تفقد ملامح حارتها الأولى وهي تواجه قسوة الغربة، ومرارة الفراق والاشتياق ليس بمحض إرادتها ولكن بفعل المكان وقدرته على الإزاحة لفسح المجال أمام الصور الجديدة التي تجاهد كي تحتل ذاكرتها كلما غذت السير قرب البحر على امتداد شارع الـ(كوين ستريت) فهي تعترف بمحض إرادتها قائلة:

"هكذا أتذكر حارتي القديمة، بيتنا، في جبلة"

المكان الثاني يؤدي الى المكان الأول وهذا يعني انقلاب المعادلة على نفسها ذلك لأن المكان الأول (البيت والحارة في جبلة) هو الذي أدى بها الى المكان الثاني (الغربة في شارع كوين ستريت) وقد تذوب ملامحه في قادم الأيام على الرغم من إصرار الذاكرة وتمسكها بأيام لا تنسى من أيام الطفولة والشباب والحرب التي ثبت، بما لا يقبل الشك، أنها الخزين الذاكراتي الأكثر معصية على الإزاحة لما يكتنزه من المعاناة والألم. ترى لماذا يحدث كلَّ هذا مع ما تتوفر من ظروف مثالية للعيش الرغيد في ظلال المكان الجديد. هنا تواجهنا الشاعرة بمقارنات لا يمكن التنازل عنها أذ تقول:

"هنا في كوين ستريت لا يوجد جيران نشرب معهم القهوة صباحاً،

هنا لا رجال ينظرون إليك ويسألون، أأنت الشاعرة؟"

ثمة فرق كبير بين حالتين إنسانيتين: في الأولى تتجسد ألفة مطبَّعة اجتماعياً عبر الزمن، مقابل نظير لها في الاستقلالية، والتفكك الطوعي، وفي الثانية إصرار على تأكيد الذات وفرزها مقابل محو الذات وانصهارها وعزلتها. وحتى عندما يتحقق للذات وجود رمزي فلا أحد يحفل بهذه الذات الغريبة المغتربة. لقد شيّدوا في الغربة نصباً لشهداء الحرب العالمية ومنهم شهداء عرب ليحتفوا بهم هناك ولكن لا أحد يعرف من أي البلدان العربية هم على الأقل، أهم أفارقة عرب أم آسياويّون عرب، مغاربة أم مشارقة اوسطيّون! انهم فقط غرباء في تلك الأمكنة النائية، ولم تستطع حتى الشهادة منحهم التعريف بذواتهم في المهجر. وحتى هذه النصب أو التماثيل تحولت في الغربة الى محفز ذاكراتي بواسطته تسترجع الذات صورا لها من أيام الحروب الوطنية التي تركت آثارها وأثرها على جسد بلادها الممزقة، وحتى الورود بجمالها الأخاذ وألوانها الزاهية التي تتوسد أرواح الشهداء في ذلك النصب يجعل الشاعرة تشم من خلالها عطر المواجع والفواجع:

"أشهق وأشهق على بلاد مفجوعة بكل ما فيها"

فتزداد الهوة بين مكانين استوطنا ذاتها قلباً وقالباً واشتغلا على قوة الانفصام وسلبية الإحساس النافر القاهر الذي أرغم الشاعرة على التصريح به والاعتراف بقوته التي حالت بين مكانين داخل ذاتها المضطربة إذ تقول:

"أنا في مكان وروحي في مكان"

لقد تخلص الشهداء من أماكنهم واحتفظوا بأسمائهم العربية في بلاد "تجهل قراءة اللغة العربية" في هذه البلاد حتى الأسماء ممعنة في غربتها فليست الحرب حربها فقد خاضتها نيابة تحت إمرة قوى الاحتلال فهي منتزعة من أماكنها كي تموت دفاعاً عن أماكن اختارها المحتلون وخلّدوها تحت اعتبارات كثيرة. والسؤال الآن: ما دامت الروح قد ظلت هناك بعيداً عن جسدها فهل فازت بما كانت تتمناه ويأتي الجواب ضمناً أن الروح هي الأخرى لا تزال تعاني من الهجرات، وضياع الهوية وسيشهد مكانها:

"على الذين عبروا بدون أسماء إذ لا جثث ولا هويات وإنما الذبح والحرق والتهجير وكأننا في زمن استعادة دولة الهمجية"

وفي الغربة ثمة مصادر أو محفزات استرجاعية أخرى تثير في نفس الشاعرة الحنين الى مكانها الأول (سورية) التي صار الأسى علامتها المميزة وعلى الرغم من جمال الحوافز وبهائها إلا أنها تقود الشاعرةَ الى الأسى، أو البلاد المشتعلة بالنيران الصديقة والمعادية:

"كلما رأيت وردة وغصنا تذكرت بلادي"

وكلما عبرت شارع فكتوريا في نيوزيلندا تذكرت عبورها على جسر فكتوريا في سورية الأماكن تستدعي مثيلاتها ولكنها في النهاية هي الخاسر الأكبر الذي يتقاسم خسارته مع قلب الشاعرة المغتربة ويدمي كلماتها الجميلة وورود حروفها الساحرة محيلاً كلّ ما فيه الى خراب في خراب.

"انتهت الزهور، ماتت الحقول وجف بردى تجددت أحزان احمد شوقي وهو يبكي دمشق:

وبي مما رمتك به الليالي جراحات لها في القلب عمقُ"

تلك الجراح وذلك الحزن استوطنا مشاعر فرات بعد خراب ملاذها الأول وأنينه تحت سنابك العذاب المرير حتى اختلطت في مخيلتها الأمكنة ولم تعد تدري أهي تسير هنا أم هناك وتحت هذه المرارة تطلق أنينها بصرخة عالية:

"لماذا بلادي لا تشبه غيرها من البلدان؟"

إنها تستشعر هذه الصرخة وكأنها سيف عربي شطرها الى نصفين: نصف آثر البقاء هناك ونصف تائه في غربة لا آخر لها وهي تستقطب كلّ يوم أعدادا من البشر الخاسرين في معركة البقاء على قيد الحياة.

إنها تتجول في الأماكن الغريبة باحثة عن حدائقها الشرقية، وجنائنها المعلقة، وحدائق قصر العظم، والياسمين الدمشقي، وحدائق الأندلس ولم تجد غير حديقة هندية جلست فيها تبكي مع طاغور ولسان حالها يقول:

"أنا غريب في أرض عجيبة"

وهنا ينتهي الدرس ولا ينتهي فما للحنين من نهاية مؤكدة، وما للبكاء من خاتمة نغلق بها معابر الغربة وأحزانها.

.........................................................................................

تحت شجرة بوذا المجموعة الشعرية الصادرة عن دار العراب في دمشق 2020.