الشاعر وعد الله هندي

دعوة الماضي لإزاحة الحاضر في قصيدة وعد الله إيليا

تعال يا كلكامش

بدا لماذا يلجأ الشاعر الى مناداة الماضي البعيد وشخوصه باعتباره إرثاً حضارياً؟ هل بسبب عجز الحاضر عن تحقيق الحلم؟ أم بسبب قوة الماضي السحرية وقدرته على التغيير؟ وهل الماضي أكثر قدرة على التحوّل من حال الى حال؟ أم أن الشاعر يدرك أن للماضي من التأثير ما يفوق الحاضر وتأثيره في مسار حياتنا المعاصرة؟ الشاعر وعد الله إيليا يستجير بالماضي وارثه الملحمي بلا تردد إذ ينادي:

(تعال يا (كلكامش)، لا تتأخَّر) ...!!!

ثلاث كلمات تمثلت فيها دعوة المنادى (تعال) واسم المنادى (كلكامش) والطلب العاجل (لا تتأخر) ثلاث كلمات وثلاث علامات تعجب وثلاث نقاط لبقية ما يراد من النداء الذي سكت الشاعر عنه، وباحت به القصيدة.

هنا تنجلي فكرة اجتراح القوة المراد حضورها أو استقدامها لهذا الزمان لأن لها من الفاعلية ما تعجز عنه القوى المعاصرة بعد أن بلغت الظروف حدّاً من القسوة ما لم يعد بالمستطاع تحمل تأجيلها لوقت آخر وهذا هو ما أوجب أن تكون العودة سريعة من دون تأخير. ولماذا يتأخر كلكامش في تلبية دعوة وعد الله؟ لأنه وبحسب الملحمة فقد صديقه، وظلّ في نواح دائم عليه كما ظلّ إيليا مثله (مثلنا) وحيداً، وما من مؤنس لوحدته في عصر ثكله بأقرب الناس إليه مغيّباً الأحباب والأصحاب ولفيفاً من الأحبة والمقربين. لقد ظلّ كلكامش يندب حظه ويبكي صديقة الحميم حتى اعتكف الناسَ، والسلطةَ، واهلَ أوروك، وصار شاغله الوحيد هو الموت، الذي أخذ منه أعز ناسه (أنكيدو)، وظن أن عليه اكتشاف سرّه الذي يفضي الى ضدّه، ويكحّل عيون البشر بما تحتاج إليه من النوم على جفون الحقيقة. لقد بدا لي هذا النداء جزءًا حيوياً من القصيدة مع كونه عنوانها غير المنفصل عنها والمتصل معها في آن واحد، كما هو حال قصيدة العمود فبيتها الأول عنوانها ولم يعد الشعر الحديث يحفل بهذه الحال، فالعنونة عنده جزء مستقل بذاته، فهو مفتاح القصيدة، ونافذتها، وعتبة بوابتها، وبسملتها، وطريق النفود إليها. وعد الله أراد من هذا العنوان أن يكون إطلالة متفردة على الماضي البعيد وأمجاده الغابرة. بعد أن بلغ به اليأس من الحاضر حدّ اجتراح الماضي. أراد من القارئ أن يدخل مباشرة الى عالم القصيدة بلا تسويف، وبلا تردد أو توقف على عتبتها.

العنونة إذن انطوت على دعوة الحاضر للماضي (تعال) وتحديد هوية المنادى (كلكامش) وأمنية بالاستجابة المبكرة (لا تتأخر) وكل هذه مبنية على أمر أصدره الشاعر لتنفذه سلطة كلكامش التي لا حدود لها، ولا قيود عليها فهو ديكتاتور أوروك الوحيد الذي لم يتقاسم السلطة إلا مع من يشابهه في القوة والبأس، والذي تحول معه بفعل الصراع الشديد الى أخ حميم. فرقه أنه خلّد نفسه بمنجزات ظلّت الشاهد المادي الكبير على ملحمية أمجاده العظيمة. وهنا يطرح السؤال نفسه: ترى لماذا استنجد الشاعر بكلكامش وهو العارف بشخصيته التي استباحت المحرمات، وانتهكت النواميس، وأهانت الآلهة؟ الشاعر حاول استخلاص روحية المنقذ المنتظر من شخصية كلكامش ليقيم العدل ويرجع لأوروك الحديثة مجدها وجمالها الذي أفل، بعد أن داهمتها الحرائق وبكى عليها الفرات، هكذا أوّلنا القضية مع أن للشاعر تأويله الذي يقول فيه:

هبني روحكَ وثماركَ وقوّتكَ يا كلكامش

كي أنحتَ اسمكَ في أعماق قلبي

وأبحث عن الحياة التي لم تجدها

وإذن سعى الشاعر للحصول على هذه الهبة من الشخصية القوية المتجبرة، الخارقة كي يواصل البحث نيابة عنها عن السر الذي أرّقها ولم يستطع الوصول إليه أو الى روحه إلا عبر المنجز المادي الذي خلفه لأوروك.

وعد الله إيليا لم يكتف بدعوة كلكامش وهو العارف أن محنته الكبرى أكبر من أن تحلّها قوة بطله الملحمي لذا وجه دعوته الخاصة الى الملك الآشوري سنحاريب ليشهده على الخراب الذي حلّ بنينوى وعلى جرافات الظلام التي اغتالت تاريخ نينوى وحاضرها، وما فعله الإرهاب فيها من المظالم والدمار والقتل واستباحة المحارم وفرض تابو القهر والظلام.

ويضيف الشاعر دعوة أخرى وهذه المرة يخص بها الثور المجنح (لاماسو) حارس المدن وبواباتها كي يرتل على الناس حروف الشاعر، ويسمعهم الحان غربته داخل الوطن، ويتعرف على سعادته المفقودة التي طفت على أمواج دجلة كما طفت عليها كتب العراق بعد احتلال المغول. وهذا ما فعله بالضبط المغوليون الجدد الذين استباحوا كل شيء تحت مظلة الدين والمقدس. الشاعر هنا يستجير بكل ما من شأنه أن يحدث تغييراً في بنى المدينة أي مدينة طالها الخراب والدمار على أيدي القوى الظلامية الغاشمة، والثور المجنح في رأيه ليس حجراً أصماً لا يحرك ساكناً بل روحاً حيوية فعالة من أرواح الجن، وهذا ما اعتقد به الآشوريون ميثولوجياً. ويظل السؤال هنا عالقاً: ماذا بمستطاع لاماسو فعله للشاعر ومدنه التي تركت بلا حرس أو حراسة فانتهكت حرماتها، ودمرت بناها التحتية، وبدت عاجزة أمام الغزو المغولي الجديد؟

وتتجدد الدعوة وتتسع لتشمل (انكيدو) صديق كلكامش ورفيقه في المغامرات والطيش البطولي ليفعل مع الشاعر ما عجز عن فعله السابقون واللاحقون ولينهضا معاً في بناء الجنائن المعلقة الجديدة التي تتيح لهما ملامسة السماء فيتمكنا من هدم ناطحات الزيف والكذب بعد أن شاعا في زمانه وتكدست مزابلهما حتى ناطحت السحب وقارعت سمت السماء، وأبدى الإنسان عجزه عن تنظيف مخلفاتهما الطائلة. فهل يستطيعان (الشاعر وأنكيدو) أن يخلصا حاضرنا من هذه المخلفات المتراكمة؟

الشاعر يشك في قدرتهما على بلوغ هذا الهدف النبيل ولهذا يقوم بدعوة مردوخ كبير الآلهة البابلية وحكيمها وناصر المظلومين الذين بحكمته انتصروا على قوى الظلم والظلام.

في هذه الدعوة ثمة فرق واضح فالشاعر لن يستجير بهذا الإله كي يحارب به من أفسدوا في بلاده بل ليكفكف دموع عذارى الرافدين ويعيد لهن الفرحة والضحكة وما سلبوه منهن في هجمة بربرية خاطفة، ولينقذ الشاعر من خوفه على قلعة (باشطابيا) الموصلية وليحدثه بما يعرف عن مصير (كهرمانة والأربعين حرامي) بعد أن تناسل السراق وتفوقوا على كل حرامية التاريخ. أولئك الذين سرقوا وسادة الشاعر بعد أن سرقوا قميصه الأبيض، وليحدثه أيضاً عمن سرق كنوز المتحف الوطني أولئك

(الذين سرقوا قوافل الضوء من عيون الورد،

 وقتلوا أبناء الشمس وفقأوا بؤبؤ الأُفُقْ)

ولم يبق من رجاء أمام الشاعر إلا أن يدعو الإله السومري المكتمل القوة والنفوذ والجبروت (أنليل) لتكتمل دعواته الميمونة لكل مَنْ مِنْ شأنه تغيير الحال وإنارة الدرب أمام الأجيال الجديدة لتحقق حلمها وأملها في بناء عالم جديد يستحق أن يعاش. في هذه الدعوة رغبة عالية بالانتقام من الفاسدين والطغاة الذين قتلوا النهار وحاولوا التعتيم على شمس سومر وأكد والذين يصفهم الشاعر بالحمقى وفي الوقت نفسه يطلب منه أن يترجى شقيقته إنانا كي ترأف وتشع بجمالها وعدلها، وان تأخذ بيد تموز (ديموزي) الحبيب المحتجز في ظلمات العالم السفلي ليعيد الهيبة لبلاد الرافدين.

عند هذه الدعوة تبلغ القصيدة نهايتها وغايتها الكبرى التي سعى إليها الشاعر وهو يأمل من الماضي أن يكون له عوناً في قضيته المشروعة فما نفع الماضي إن لم يكن القاعدة التي يستند عليها الحاضر في زحزحة قوى الظلام ونظامهم المتهالك.

ختاما جاءت القصيدة بخمسة مقاطع تشابهت من حيث الدعوات التي انصبت على الماضي والإرث التاريخي والحضاري لبلاد ما بين النهرين موجهة نداءها الى كلكامش ولاماسو وانكيدو ومردوخ وأخيرا أنليل، وهم جميعا من الآلهة أو أنصاف الآلهة أو الشخصيات الخارقة في دلالة واضحة على القوة والجبروت والقدرة على التغيير بعد إن انعدمت وسائل التغيير ولم يبق أمام الشاعر إلا أن يستجير بهم كمخلصين ومنقذين باعتبارهم جذور وطنه، ونسغه العريق.

 

*