أناشيد علي فرحان الإنجيلية

 

في مجموعته الشعرية الجديدة (إنجيل موكا) يتجه الشاعر على فرحان وجهة أخرى أو هكذا بدا لنا من خلال عنونته لهذه المجموعة الشعرية الصادرة عن الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق2021. وفيها يحاول السير على اتجاه جديد في كتاباته الشعرية تحت مؤثر القداسة كجو عام والموكا كطقس خاص. فما سر هذا التوجه الجديد؟ وما علاقته بالموكّا؟ وماذا أراد علي فرحان أن يخبرنا من خلال إنجيله وموكاه؟

بدءًا العنونة تشكّلت من مفردتين: (إنجيل) وهي مفردة أحالتنا فوراً الى كتاب المسيحية الذي جاء به النبي عيسى بن مريم وما تضمنه من آيات منزّلة وتعاليم مقدّسة، ربم ا أراد فرحان محاكاتها أو التناص معها أو الاقتباس منها، وربما فقط أراد خلق أجواء لقصائده لا تخلو من نكهة القداسة والمقدس وهذا كله حثّنا على الغور في عالم قصائده للتعرّف على التأويل الأدق.

والمفردة الثانية اختصت بنوع من القهوة محبذ احتساءه عند الصباح (Mocha) والكلمة على ما يبدو مأخوذة عن الإنكليزية أو الإيطالية والتي أخذت بدورها عن العربية اليمانية وأصلها (موخا) وموطنها الأم في اليمن وهي من أشهر أنواع القهوة في العالم. فهل أراد فرحان المواءمة بين طقوسه الصباحية (احتساء الموكّا) وبين بدء ترتيل ما تيسر له من آيات الشعر والقداسة؟

أسئلة استباقية تقدمت على دخولنا الى عالم فرحان الشعري وقرأنا بسملتها بحسب رؤيتنا وتأويلنا لمفرداتها ولم يبق لنا إلا الغور في النصوص والبحث عن الإجابات الدقيقة لهذه الأسئلة الافتراضية. وقبل هذا لنا أن نسأل لماذا استخدم الشاعر مفردة (إنجيل) ولم يستخدم مفردة (قرآن) في العنونة على الرغم من انه استخدمها في متن واحدة من قصائده (تحت جبل) وهي الأقرب لثقافته؟ كما فعل الشاعر العربي محمود درويش حين أطلق على واحدة من مجاميعه الشعرية عنوانا مميزاً هو (قرآن الموت والياسمين).

في الإهداء أو ما يشبه الإهداء اجترح فرحان قول الشاعر درويش (إذا كنت حقا حبيبي فألّف نشيد إنشاد لي) ونشيد الإنشاد من متضمنات الكتاب المقدس. ترى هل أراد الشاعر فرحان الإيحاء لنا كقراء أن ما سنقرأه من النصوص إن هو إلا أناشيد فرحانية خاصة؟ ناهيك عن التشابه الكبير بين إنجيلين (إنجيل موكا) لفرحان و(إنجيل لوقا) لأحد رسل السيد المسيح.

في مفتتح أولى القصائد يقول فرحان: (أسيرُ إلى جهة لست فيها) وهذا هو عين ما ألمحنا إليه في سطرنا الأول من هذا المقال، وهو سيرٌ افتراضي لجهة افتراضية أيضاً غير موجودة إلا في ذهنية الشاعر المتقدة. وهو يلمح (خطوتها تتضاءل في الروح) فالرؤية هنا رؤية شعرية ذهنية روحية وجدانية غير مادية وغير واقعية. والاتجاه غير واضح لذلك يناديها كي تتجه نحوه والا ستموت جهته من الانتظار والجدب والريح والخطوة المسرعة فهي سارحة عنه ومنفردة بغنائها الذي يروم جهة هو ليس فيها. هما إذن في جهتين مختلفتين واتجاهين مختلفين ومسارين قد لا يلتقيان على الرغم من أنها ارتدت الشعر نحوه، وفي نهاية المطاف فان كل شيء له وجود معتم لم ير الشاعر من خلاله:

غير هذي الأرض والسجان

والبحرَ السعيد يجهّزُ الأنخاب للغرقى

فالعالم عند الشاعر يسير بالاتجاه المؤدي الى النهاية السوداء المعتمة، أو الى جهة لم يكن هو فيها أو لا يريد أن يكون فيها لأنه يروم بل ويجترح جهة أخرى تتنفس من رئة نقيض مضاد.

في قصيدة (يومكِ وقيامتي) يدنو الشاعر أكثر وأكثر من وحي نشيد الإنشاد فيرجز شعراً عن يومها وحبها وقلبها، وقُبَلِها البيض. يعلن عن إنجيله لها هي التي أرادها طقساً شعرياً أبدياً وإنجيلاً مقدساً للمحبة:

 يا إنجيل العشق ويا فردوس الآيات

أتملاك وأنبش قلبي بأظافرَ من ولهٍ

هل تسكن قلبي يا إنجيل العشق؟

أجواء هذه القصيدة تتلبس بعذوبة روح نشيد الإنشاد، وتشع من هالته الطقوسية، وربما لهذا السبب اختار الشاعر مفردة الإنجيل لتكون لبنة تتقارب وعنوان مجموعته الشعرية (إنجيل موكا) هذا فضلاً عن اقتراب قصيدته من شعر التفعيلة وإيقاع الرجز والوافر المحببان للأذن الطربية ليمنحا قصيدته أو قصائده جرساً جمالياً، وإيقاعاً غنائياً، ورنيناً عذباً رخيماً. لكنه لم يقع في اسر النشيد وجمالياته بل عمل على خلق نشيده الخاص المميز مثلما فعل قبله الشاعر القدير يوسف الصائغ في قصيدته الموسومة (انتظريني عند تخوم البحر) التي استوحى أجواءها من حياة الشاعر العراقي الكبير بدر شاكر السياب وجعل منها نشيداً، له ذات الأجواء التي هيمنت على نشيد الإنشاد، وربما بطربية فاقته في غنائيته. حتى انه استخدم بعض لوازمه مثل:

(استحلفكن بنات البصرة) ويقابلها في نشيد الإنشاد "أستحلفكن يا بنات أورشليم" ليقارب بين أجواء النصين كثيراً، وليحافظ على أكبر سمة فيه قداسته المؤثرة عند السماع أو القراءة، وليجعل من قصيدته أو نشيده عملاً متفرداً وقد تفرد فعلاً بحسب تقييمي النقدي على أقل تقدير.

عند الشاعر علي فرحان ثمة مسافات، واتجاهات، ومديات كثيرة كلّها تؤدي الى نفس الجهة التي اختارها ووطّن نفسه عليها (ولا جهة غير حقل القصائد في ثوبك أقتفيها) وهو لا يعرف بالتأكيد الى أي مدى يأخذه ذلك الثوب المستحيل كما ورد على لسانه مع انه يروم الى (آخر الوجد) وان الجهات كلّها تفر منه منزلقة الى آخر الوجد أيضاً حتى يتحول هو وتتحول هي الى اتجاهين أو نهرين لا يصلان الى الخاتمة فهما في سَفَر دائم لا يتوقف عند حد معين فرحلة العشق أطول من أن تختصر أو تختزل مسافتها في جهة مغلقة.

كل الاتجاهات مفتوحة الى آخرها ولا مدى لمدياتها. وهذا يفسر لنا تكراراتها التي تعيد نفسها بنفسها وكأن المسيح فيها يصلب من جديد مراراً وتكراراً على صليب محبته المطلقة.

في قصيدة (تحت جبل) يكشف لنا فرحان ما خبيء من العشق الخالص الذي يتمنى فيه أن تأتي إليه بشكل دوري مثل كذبة نيسان أو مثل ليل الكرادة أو مثل رصاصة قناص أو.. أو.. إلخ. وكل لمحة في هذه القصيدة تشير الى بلاده التي أحبّها وتولّه بها ولهاً خالصاً. بلاده التي جاءت إليه أو تمنى أن تأتي إليه ناجية من عذابها وشقائها وحافية تأتي الى التيه يتبعها لاهثاً ويتبعها الكلّ وهم في ظمأ قاتل فيتساقطون واحداً إثر واحدٍ، وبمجيئها سينساها الكلّ: الخضر، ومريم، وكلكامش، وسيرتاب من حضورها رجالات السلطة والتسلّط، والتكفير والتقديس، والتبليس والتدنيس، وأولئك الذين تصالحوا مع القراصنة، والصهاينة، وظلام وظلم قريش، والنرجسيون، والأجلاف، ليسدوا بقيحهم في وجهها طرق الوصول الى سنجارها المقيد بأغلالهم الثقيلة. وسيظل رجال التقوى غير معنيين بها:

(نوحٌ) ناحَ مع النورس تلك الليلة

) يونسُ) ناسَ على الساحل

( موسى) ماسَ على الساحل أيضاً

وفي جعبته بصلٌ يكفي

(يوسفُ) صدَّق عشق زليخة

 (عيسى) يسعى نحو أريكته

وحده الشاعر أبصر عشاقها يهذون وينتحرون مثل دلافين جنحت فانتحرت فماتت على ساحلها الذهبي. أربعة أفعال من الماضي (ناحَ وناسَ وماسَ وصدَّق) آخرها جاء المضارع (يسعى) وجعله مرهونا باسم عيسى وهو صاحب الإنجيل الذي رام فرحان أن يكون امتداداً حاضرا له عبر أناشيده الشعرية.

عشْق الشاعر لها لا يماثله عشْق آخر فهو يتفجر دوماً في نفسه المضطربة، خالقا المزيد من الارتباك والذهول. حتى الأمكنة المعروفة تتحول عنده الى مصدر لتفتق وجدانه فيشكو من بعد (سدني) ومن قلبه الذي صار مثل بغداد (يأكله الأقربون) مسافته شاسعة بين المكانين وهو موزع بينها وبين مَعانيه ومُعانيه وحيرته في اقتياد الأيائل (والأغنيات الشريدة) أراد الشاعر فرحان أن يقدّم لنا أناشيد شعرية بنكهة طقوسية تعبيراً عن حبه الخالص النقي وروحه الهائمة ببلادٍ عشقها وتوله بها فانغرست في أعمق نقطة من وجدانه فتحقق له ذلك. المجموعة إذن بكليتها كتبت تحت موضوعة واحدة تفنن فيها الشاعر بالعزف منفرداً على ذات الأوتار ولكن بألحان وتنويعات مختلفة ومتعددة. ومن منظار آخر وجدتُ المجموعة كلّاً متكاملاً (gestalt) كل جزء فيها له دوره في تعزيز كلّيتها. وبهذا يكون الشاعر قد تجاوز نفسه مثبتا قدرته التي لا يستهان بها على وضع مجموعة من القصائد في نطاق موضوعة واحدة كما فعل ذلك أدونيس في بعض مطولاته الشعرية مثل (هذا هو اسمي) و(قبر من أجل نيويورك) وحتى في مجموعته (كتاب التحولات والهجرة في أقاليم النهار والليل).

معاناة الحب دامية، وعلي فرحان ذاق تلك المعاناة كثيراً وطويلاً منذ أول لقاء بينه وبينها ولم يجن غير تلك المعاناة التي أثقلت على روحه كثيراً ولم تمنحه غير الذعر والألم، وهذا (ليس جيداً) له بالطبع فقد تقدم العمر واقتربت ساعة الرحيل ولم يعد بالإمكان تصحيح ما كان. لا بد إذن من كتابة نشيد لهذه المحنة، ورثاء لهذا العبث الطويل، وهروب منهما أو من شمسهما الحارقة للتفيؤ بظلال الحروف فليس جيداً.

أن تهربَ مذعوراً

إذا وجدتَ الديناصور حياً

في حديقتكَ،

ففي الغابةِ التي هي وطنكَ

منذ قديم الزمان

كنتَ تهربُ مذعوراً

دائماً

أو تشعر بالذعر في كل لحظة من لحظات العمر حتى ينقضي الأجل. أليس هذا هو ما شعرنا به بالضبط ونحن نواصل مسيرة حياتنا منذ القدم بترقب وتوجس وخوف من كل شيء؟ أحسنت علي فرحان وأجدت فعلاً في هذه المجموعة التي لا تخلو من الحكمة والقول الجميل، ومفاتن الشعر المحدث الى جانب الأصالة والتجديد، والعطاء الشعري المتجدد.

*