الحياة الثقافية في بعقوبة : الكاتب والمكان
إن المكان في حالات كثيرة، ليس حيزا جغرافيا فقط، فهو أيضا البشر، والبشر في زمن
معين. وهكذا نكتشف علاقة جدلية بين عناصر متعددة، متشابكة ومتفاعلة. فالمكان يكتسب
ملامحه من خلال البشر، الذين عاشوا فيه والبشر هم تلخيص للزمن الذي كان، وفي مكان
محدد بالذات، وبالتالي فقد اكتسب الناس ملامح وصفات ما كانوا ليكتسبوها لولا هذه
الشروط. وحين أصبحت لهم هذه الصفات أثروا في المكان والزمان، كما تأثروا بهما، مما
ينعكس، في النتيجة، في إعطاء الأماكن والأزمنة ملامحها، كما أن تلك الأمكنة، وتلك
الأزمان، ستؤثر بدورها في أن يكون ناسها بهذا الشكل. وحين يكون الناس هكذا، فإنهم
يؤثرون فيما حولهم ويتأثرون.
وحديث الإنسان عن المدينة التي تعني له شيئا خاصا، بمقدار ما يبدو ممكنا فإنه شديد
الوعورة، وبعض الأحيان عصي، لأن السؤال الذي يطرح نفسه: أي شيء يمكن أن يقال، وأي
شيء يترك؟ وهذا الذي قيل، وذاك الذي تم تجاوزه، أهو ما يجب أن يدون ويبقى، أم أن ما
ترك كان الأجدر بالتدوين، ومن ثم بالبقاء؟.
ليس ذلك فقط، إن الكتابة عن مدينة الماضي التي يحميها الإنسان تحول هذه المدينة إلى
كلمات، والكلمات ذاتها، مهما كانت بارعة، زلقة، خطرة، ماكرة، وغالبا لا تتعدى أن
تكون ظلالا باهتة لحياة، أو في أحسن الحالات ملامسة لها من الخارج، أو مجرد اقتراب،
علما بأن الحياة ذاتها كانت أغنى، أكثر كثافة، ومليئة بالتفاصيل التي يصعب
استعادتها مرة أخرى.
ثم ما هو المقياس الذي يجب أن يعتمد في الاختيار؟ ما هي أهمية الأشياء التي تقال
وتلك التي تم تجاوزها ؟ ولمن؟.
والمدينة أية مدينة، هل لها صورة واحدة يراها الجميع بنفس الطريقة؟
ثم.. هل إن المدينة مجرد أماكن وأشياء وأسماء، وحتى بشر؟ وكل هذه ، هل هي في حالة
ثبات أم تتغير في كل لحظة، كما يعاد تشكيلها في الذاكرة مرة بعد مرة، خاصة والزمن
يمضي، وتتدخل أسباب وعوامل كثيرة ومؤثرة؟.
وهل من حق الكاتب أن يجبر الآخرين على رؤية الأماكن والبشر كما رآهم هو، أو كما أحب
أن يراهم؟ وهل كان هؤلاء هكذا فعلا، أم أن العواطف والمسافات غيّرت في الأشكال
والأحجام، وغيّرت في المواقع أيضا، تبعا لما يعتمل في العقل والقلب؟.
والكتابة خاصة من هذا النوع، عن الأماكن والبشر، ألا تعتبر بشكل ما، بنسبة ما،
انحيازا يبعدها عن الموضوعية؟ وألا يعتبر الكاتب صاحب هوى أو غرض، وربما حالما أو
واهما، وهو ينتقي، وهو يعطي الصفات؟.
وإذا كان من الممكن التسامح مع الأماكن، باعتبارها محايدة – هل هي كذلك فعلا؟ وقد
تشي بها أمور كثيرة، وربما يستطاع إعادة تصويرها أو تركيبها بأقل قدر من التحريف،
فماذا عن البشر الذين لا يتوقفون لحظة واحدة عن التغيّر؟.
( من كتاب سيرة مدينة لعبدالرحمن منيف )
بدايات الكتابة والتواصل مع المبدعين
- في تاريخ أية أمة نقاط علام. حروب وانتصارات. وفي تاريخنا الحديث نقاط علام..
خسائر ونكسات وحروب أهلية تشيب لها الرؤوس ويحمر لها الوجه خجلا وعارا. والأفراد
مثل الحضارات. لهم تاريخ حضاري خاص. وهذا شرحه فرويد في كتابه الهام ( عسر الحضارة
) وفي ترجمة أخرى ( قلق في الحضارة). لا يهم. الترجمة أحيانا لا تعكس ذهن الكاتب
الأصلي ولكنها تميز بين المؤلفات. ومع أن هذا ليس موضوعنا الأساسي ولكن للمسألة
علاقة. فإحدى أهم روايات أمين معلوف حملت عدة عناوين باختلاف المترجم. وكالتالي:
شواطئ الشرق، سلالم المشرق، موانئ شرقية، إلخ...
إذاً نقطة علام واحدة حملت وجهات نظر مختلفة بحسب القارئ. وهو ليس قارئا اعتباطيا،
ولكنه من النخبة. قارئ مرجعي وخاص.
أريد أن أصل من هذه المقدمة للحظة البداية.. أول لحظة واجهت فيها الورقة البيضاء
والقلم. كيف تنظر برأيك لتلك اللحظة. هل هي علامة فارقة في تاريخ حياتك. متى بدأت.
أين. ماذا كان في ذهنك. وما هو الدافع. وهل فعلت ذلك سرا ثم نشرته. أم اشتركت في
أفكارك مع الآخرين خلال الكتابة.
- لقد أنشأت لي دائرة علاقات صغيرة مع المبدعين في بعقوبة. وكنت في علاقة حميمة مع
الشاعر البعقوبي المبدع هادي الربيعي، الذي احتفى بعلاقتنا وصار يفاخر بها، حتى أنه
اصطحبني يوما ما إلى مقهى الحاج عبود صفاوي على ضفة خريسان. هناك التقينا بكاتب
قصصي هو الراحل المبدع خالد الخشالي. وكان ثالث الثلاثة الراحل الكبير محي الدين
زنكنة الذي تعرفت عليه في مرحلة الدراسة الإعدادية كأستاذ للغة العربية. ثم تعرفت
على الشاعر البعقوبي سفيان الخزرجي وعلى غيره من الشعراء.. كانوا جميعا أكبر مني
عمرا، وأعمق تجربة، وأوسع فهما، و.. و.. إلخ.
وأمسكت بالقلم لأول مرة لأكتب عن آراء ومواقف جالت في خاطري حول شعر مرحلة الستينات
في العراق. ولمّا اطلع على الأوراق صديقي الشاعر هادي الربيعي طلب أن أضيف بضعة
أسطر عن الشاعر حسين مردان حتى يكتمل مشهد الشعر في الستينات ففعلت.
- من هو عبود صفّاوي.
- الحاج عبود صفّاوي هو واحد من عائلة معروفة في بعقوبة بولائها للقومية العربية
ومن ثم لفكرة البعث. وبعيدا عن السياسة والتحزب كان المرحوم رجلا ودودا ومحبوبا من
الجميع وكان لا يعرف التعب أبدا فهو يقوم على خدمة زبائنه بنفسه وللشاي الذي يعده
بنكهة مميزة وطعم خاص يساعده عامل في إعداد الأركيلة لرواد المقهى. رواد مقهى الحاج
صفّاوي هم نخبة مميزة من أهل بعقوبة الأصلاء. وهو رجل قبضاي لا يخاف في الحق لومة
لائم.. وأتذكر أنه في إحدى المرات شتم دورية مخابرات لأنها مرت بالسيارة من أمام
المقهى مع عاصفة غبار. تخيل هذا الموقف. توقعنا أن يطلق رجل الأمن النار عليه.
ولكنه التزم الصمت وابتعد.
- ومن هو حسين مردان. وهل أضاف للفرسان الثلاثة ( السياب والبياتي والملائكة )
شيئا.
- حسين مردان شاعر متمرد من بعقوبة انتقل للعيش في بغداد واكتسب شهرة أدبية واسعة
وله ديوان شعر (قصائد عارية) أثار حفيظة القاصي والداني بجرأته وأفكاره التي حطمت
جدار الممنوعات والمحرمات وقادته إلى المحكمة والسجن. وفي المقالة التي كتبتها عنه
تحت عنوان (حسين مردان شاعر الدهشة ورجل المفاجآت) ذكرت أنه كان يريد للمرأة أن
تتحرر من (أقمطة التقاليد والعادات القبلية) لا أن تتظاهر تظاهرا فارغا بالجرأة
والشجاعة والتحرر. وإذا كان مردان قد أضاف للسياب والبياتي شيئا مهما فإن ديوانه
هذا كان أفضل إضافة ستينية للشعر العراقي.
- هل نشرت أولى مقالاتك إذا؟..
- حملها الربيعي إلى مجلة ( الثقافة ) في بغداد. وكان يرأس تحريرها الراحل الكبير
د. صلاح خالص. وسلمها لسكرتيرة التحرير د. سعاد محمد خضر. وبعد بضعة أسابيع نشرت مع
تزكية لأواصل الدرب. وأخبرني بذلك أحد العاملين في المجلة وهو عبدالرحمن البكري.
ولا زلت أحتفظ بالعدد رقم ( 5 ) من المجلة لعام 1970 حتى هذه الساعة.
- من هو عبدالرحمن البكري. هل لديك مواقف معه غير هذه اللحظات النادرة والثمينة.
وماذا كان خط المجلة في تلك الأيام. ماذا نشرت المجلة في نفس العدد غير مقالتك من
تأليف وترجمة.
- عبد الرحمن البكري رجل دمث ذو كياسة وشخصية هادئة. كان يعمل محررا في المجلة
ويبدو أنه كان على علاقة طيبة مع د. سعاد محمد خضر وهو شقيق الأستاذ الناقد سليمان
البكري. خط المجلة ثقافي في توجهه العام وهي تعنى بكل صنوف الأدب. من شعر ونقد
وقصة، وفكر.
- كيف تطور الأمر للتفكير بعملك
الثاني. وما هو.
- بعد مقالي الأول (أبعاد جديدة في شعر الستينات) ومض في ذهني شعاع فكرة
مسرحية
تسجيلية عن شخصية المناضل الشيوعي يوسف
سلمان يوسف المعروف باسم (فهد) والذي حكم عليه بالموت شنقا بتهمة تأسيس حزب محظور.
أنجزت المسرحية بعد أن جمعت عددا كبيرا من الوثائق الخاصة بالمرافعات والمداولات
التي تمت في قاعة المحكمة فضلا عن قراءة سيرة الرجل وتاريخ حياته ونضاله قبل وبعد
عام 1934، وهو العام الذي أعلن فيه عن تأسيس الحزب الشيوعي العراقي، ووضعت لها
عنوانا استوحيته من أغنية كتبها الشاعر حسب الشيخ جعفر (غدا ستنطلق الفهود). ولم
أعرف ماذا أفعل بها ولا كيف سيتم تقييمها، فأخذتها إلى بغداد وسلمتها للأستاذ
الشاعر ألفريد سمعان مدير تحرير مجلة (الثقافة الجديدة). وقد حدثتك عن لقائي به في
تلك الفترة الحرجة.
- ماذا تعني بمسرحية تسجيلية. هل وهل نشرت تلك المسرحية فيما بعد..
- المسرحية التسجيلية أو الوثائقية واحدة من ابتكارات المسرح الألماني. اشتغل فيها
بيتر فايس وبعض الكتاب الألمان واستخدموا الوثيقة التاريخية كبنية أساسية في
هيكلتها. وكانت مسرحية (مارا صاد) لبيتر فايس هي الأشهر من بين كل ما كتب في هذا
الجنس الدرامي الفريد. ويعتبر استخدامها لعنصري الأفلام والوثائق ــ بطريقة تبدوان
فيها وقد امتزجا بنسيج العمل المسرحي ــ هي ميزتها المركزية.
لم أحصل على المخطوطة بعد من الأستاذ
سمعان الذي وعدني بالبحث عنها في زوايا مكتبته الخاصة.
-
كيف تصف لنا ألفريد سمعان.
- كان ألفريد سمعان محاميا معروفا وشاعرا أصدر عددا من المجاميع الشعرية ذات النفس
الثوري المتلائم وطبيعة المرحلة التي تمر بها القوى الوطنية والتقدمية وخاصة الحزب
الشيوعي. لكنه كشاعر ظل محافظا على نهجه وأسلوبه في الكتابة ولم يتخط مرحلته تلك.
لم أقرأ له منذ مدة طويلة جدا لكني أتابع أخباره كأمين عام لاتحاد أدباء العراق.
- من هم أصدقاء البدايات. وهل استمروا جميعا في الكتابة أم توقف بعضهم وسقط على
الدرب.
- قلت إنني أبكرت في بناء علاقات أدبية مع أبرز المبدعين
في بعقوبة.. العلاقة الوحيدة التي استمرت حتى النهاية كانت مع الراحل العزيز
محي الدين زنكنة الذي جعل منزلتي عنده منزلة ابنه الوحيد..
لقد خصني بقراءة نتاجه حال انتهائه منه. وتلك ميزة لم يحصل عليها إلا عرابه الوحيد
صباح الأنباري.. لقد ترك رحيله أثرا عميقا في نفسي لا يمكن للسنين محوه على
الإطلاق.. إنه جرح غائر في أعماق الروح.. لا أريد الحديث عنه الآن خوفا من تقليب
المواجع..
لم يكن زنكنة أول الراحلين من الأصدقاء، فقد سبقه صديقي الحميم القاص خالد الخشالي
الذي كان يحلم بمشروع قصصي كبير. لكن ظرفه أخره كثيرا ثم جاء الموت المبكر لينهي
ذلك الحلم.. مثله مثل الشاعر المبدع خليل المعاضيدي الذي قتل غدرا على أيدي رجال
الأمن قبل طبع مجموعته الأولى.. أما صديقي الربيعي فقد فرض عليه
أمر
النقل الوظيفي من بعقوبة إلى كربلاء إقامة لم نكن نصدق أنها ستطول كثيرا لكنها طالت
فعلا.. الظروف الجديدة التي عاشها الربيعي هناك لم تغير في طبعه الجميل، ولا بمحبته
لبعقوبة التي عشق كل شيء فيها، ولا بنتاجه الشعري، وهو ما يزال يطلع علينا بين فينة
وأخرى بجديده من القصائد والكتابات الأدبية.. أما الشاعر الجميل سفيان الخزرجي الذي
أتحفنا بقصائده الغزلية المقفاة فقد غادرنا مهاجرا إلى السويد، ولم نشهد له أي نشاط
شعري بعد. فقد تحوَّل إلى فن الفوتوغراف حتى بات من أبرز مصوري السويد بعد نيله
عددا من الجوائز العالمية.
- هل من الممكن أن تتحدث بقليل من التفصيل عن نشاط هؤلاء المنسيين ؟..
- نعم يمكن هذا. ولكن خوفا من الإطالة سأكتفي بالحديث عن الشاعر المعاضيدي الذي بدأ
حياته متأثرا بالشاعر الكبير عبد الوهاب البياتي. كان لا يأتي إلى المقهى إلا وبيده
واحد من دواوين البياتي. ثم قرأ
لسعدي يوسف وأودن ودي إتش لورنس وترجم بعض قصائدهم إلى العربية. كان خجولا، مهذبا،
متواضعا لا تفارق وجهه ابتسامة خفيفة كلما التقيته. وقد استطعت بعد عدة جلسات أن
أطلق سراحه من قيود البياتي وغيره. كنا في ذلك الوقت منهمكين بقراءة ما يصلنا من
أشعار أدونيس وخاصة مطولاته الشعرية مثل (هذا هو اسمي) و(قبر من أجل نيويورك) التي
كنا نحصل عليها من الشاعر سفيان الخزرجي. وعندما كتب المعاضيدي أولى قصائده وقرأها
لي بخجل يليق به انبهرت بها وطلبت منه قراءتها لصديقنا الشاعر سفيان الخزرجي. ثم
استمر بكتابة الشعر وراح ينشر قصائده في جريدة (طريق الشعب)، وفي الجلسات المسائية
التي لم أكن أهتم بحضورها كان يحتسي الشراب فينطلق لسانه على غير العادة بالتندر
على سياسة البعث ورواية النكات. فما كان من البعثيين إلا أن يضعوا نهاية لتندره
عليهم بقتله غيلة وغدرا.
- من هو سفيان الخزرجي؟
شاعر رومانسي جميل يكتب القصيدة العمودية بإيقاع ذي نكهة غزلية غنائية تطريبية لم
اجد وقتها اعذب منها.. وقد تضمن كتاب (شعراء ديالى) الذي اصدره الاستاذ خضر الگيلاني
على واحدة من سفيانياته المتألقة والتي يقول مطلعها:
فتانة الطرف ان القلب يحتضر
أضناه حبك والتحنان والسهر
- وكيف تصف لنا محي الدين زنكنة. ماذا ترك لديك من انطباعات كإنسان في المقام الأول
قبل أن يكون كاتبا. وهل ترى أنه مسرف في نشاطه الذهني لأن معظم أعماله تلح على مبدأ
اليوتوبيا؟..
- باختصار شديد: إنه إنسان الصدق،
والصداقة، والأمانة، والمحبة، والوفاء، والكبرياء، والتواضع.. كان بيته مفتوحا
للأدباء والفنانين، وكان يجمعنا في جلسات فريدة مع أقرب أصدقائه سواء أكانوا من
بعقوبة أو من محافظات العراق الأخرى.. في ذلك البيت تعرفت على الناقد الكبير ياسين
النصير، وعلى المخرج الكبير الراحل د. عوني كرومي، وعلى الفنان جابر السعيد،
والأديب الراحل حسين الجليلي، والشاعر الكردي جلال زگبادي الذي عرفني بدوره على
القاص الراحل محمد موكري، وغيرهم من المبدعين الكبار... كان زنكنة قد عيّن أول
الأمر في قضاء خانقين ثم نقل إلى مركز المحافظة ليستمر بتدريس اللغة العربية حتى
احالته على التقاعد لأسباب صحية.. وكان كلما جاءني في زيارة إلى بيتي أو مشغلي فإنه
يأتي بكامل أناقته.. ولما كانت علاقتي به ــ كمقرب إليه وإلى عائلته ــ متينة جدا
فقد ترك في نفسي أعمق الأثر بإنسانيته، ومحبته، وخلقه الرفيع.. كان متواضعا من
الطراز النادر.. بسيطا في كل شيء، وعظيما بإبداعه المتفرد مسرحياً وروائياً، وغير
مسرف في نشاطه الذهني.
- سمعنا بحلقة كتاب البصرة. ولم نسمع شيئا عن حلقات في بعقوبة. هل كانت في بعقوبة
نوادي أدبية خاصة.. وما هي الصحف التي صدرت فيها. وماذا عن المقاهي العامة التي
يجتمع فيها الكتاب ويتداولون شؤون الكتابة. مثل مقهى القصر في حلب الذي تحول
لمستودع أحذية. هل هناك مقاهي ثقافية في بعقوبة لقراءة الصحف وتداول أمور الكتابة.
- البصرة حالة خاصة. بسبب مهرجان المربد للشعر فقد خلق فرصة ثمينة للتجمع والتداول
بمسائل الأدب. والمربد كما تعرف كان يقام في البصرة منذ العصر الجاهلي وكان الشعراء
يقرأون قصائدهم على الملأ واستمرارا لهذا التقليد أقيم في نفس المكان
بدعم رسمي
من السلطات. ولكن في بعقوبة لا يوجد أي ناد ثقافي إذا استثنينا نادي نقابة
المعلمين.. وهو بناية تضم بالإضافة إلى غرفها قاعة متوسطة الحجم كنا نستغلها لاقامة
أماسينا شتاءً، وفي فصل الصيف كنا نجلس في حديقة البناية الخلفية وهي حديقة كبيرة
بفضاء مفتوح وزهور مختلفة، وأشجار برتقال ونارنج وتوت تتوسطها نافورة ماء دائرية.
كان هذا النادي هو المكان الوحيد الذي يجتمع فيه مبدعو ديالى ومثقفوها.. يتداولون
في شؤون الأدب والفن والإصدارات الجديدة محليا وعربيا وعالميا.. ثم صارت لهم أماس
أسبوعية لها جمهورها الذي بدأ يتزايد يوما بعد يوم.. كنت شابا مأخوذا بحماس كبير،
ومتطلعا إلى وضع ثقافي لا أكون خارجه. فكتبت أول دراسة لي تناولت فيها قضية الشكل
والمضمون.. حصلت على موافقة إدارة الأماسي، وجلست للمرة الأولى أمام جمهور من
المثقفين والمبدعين.. وعلى رأسهم أستاذي الذي درسني علم الاقتصاد الأديب ثامر مطر.
لم يستمر هذا النشاط الخاص بنادي المعلمين
وقتا طويلا بعد أن بدأت السلطة تدخلها في خصوصياته.. توقفت الأماسي ولكننا لم نتوقف
عن ارتياد مقهى الحاج عبود صفّاوي فرادى للاطلاع على الجديد من الإبداع. وكنا كلما
ضاق بنا مقهى الحاج صفّاوي نذهب إلى بغداد لنجتمع بأدباء العراق في مقهى البرلمان
بشارع الرشيد.. كان هذا المقهى ملاذ الأدباء والفنانين والمثقفين من شمال البلد
وجنوبه، ومن شرقه وغربه.
- ماذا كتب ثامر مطر. وما هي أهم وجوه مقهى البرلمان.
- كتب مسرحية (فندق الغرباء) وقدمت من على خشبة المسرح في بعقوبة، ثم كتب مسرحية
تحت عنوان (رؤى) وثالثة تحت عنوان
(هدير الصمت) وله مقالات نقدية نشرت في مجلة السينما والمسرح العراقية عن بريخت
والبريختية. وهو الآن عاكف على كتابة مقاطع أو مقطوعات شعرية تمتاز بالحكمة
والصوفية وتعتمد على الومضة الآسرة يمكنك متابعتها على صفحات الفيس بوك. أما وجوه
مقهى البرلمان فلا مجال لتحديدها هنا لأنها تتشكل من أغلب إن لم أقل كل كتاب وأدباء
وفناني العراق.
- إلى أية ساعة يمكن السهر في مقاهي بعقوبة.
-
بعض المقاهي يستمر سهرها إلى ما بعد منتصف الليل.. وهي عموما مقاه بسيطة أغلب
مقاعدها مصنوع من سعف النخيل (الجريد) كما يطلق عليه محليا ذلك لأن بعقوبة من المدن
العراقية التي يكثر فيها النخيل والذي تفضل زراعته ليلقي بظلاله الوارفة على أشجار
البرتقال والليمون.. المشروب الرئيس فيها هو الشاي السيلاني، وفي بعض الأحيان يقدم
فيها الشاي الحامض.. كما تقدم فيها الأركيلة للمدخنين.. ومن أبرز الألعاب التي
يمارسها الرجال في المقاهي هي لعبة الدومينو والنرد.. ولم نشاهد يوما امرأة في مقهى
إذا استثنينا السائحة الألمانية التي أثارت دهشة رواد المقاهي في الستينات فمقاهيهم
لم تشهد حالة اختلاط مسبقة.
- من هي تلك السائحة؟..
- للأسف لم تحفظ ذاكرتي اسمها بالضبط. ربما كان اسمها (مليكا) ولم أعرف حينها لماذا
قدمت إلى بعقوبة تحديدا ولكن أغلب الظن أنها جاءت للعمل في مشروع كان يشرف عليه بعض
الأجانب.
- هل توجد خشبة مسرح في بعقوبة.
- في بعقوبة ثمة مسرح يتيم تابع للإدارة المحلية. وفي ظل الهيمنة الأمنية للنظام
السابق فقد تحول إلى قاعة اجتماعات أكثر منه قاعة نشاطات مسرحية.. ثم سرقت أغلب
مصابيحه.. وجهاز الإضاءة اليدوي الوحيد لم يعد صالحا للاستعمال.. وحتى ستائره تعرضت
للسرقة والإهمال.. بمعنى أدق لم يبق في بعقوبة مسرح بالمعنى الصحيح للكلمة.. هذا
المسرح احتضن في أيام دراستي الجامعية أربعا من اشتغالاتي التي أخرجتها بالاعتماد
على خامات شابة في التمثيل، وتحملت ما تحملت من المساءلات الأمنية أنا ورئيس الفرقة
الأستاذ جابر السعيد، الذي هجِّر الى إيران بحجة التبعية
.
- هل يوجد كاتبات في بعقوبة.
- خرجت من بين بساتين (بهرز) وهي ناحية قريبة جدا من بعقوبة أفضل قاصة عراقية
وروائية وربما عربية أيضا هي المبدعة لطفية الدليمي.. التي شكلت علامة ثقافية بارزة
ومهمة في تاريخ العراق الثقافي، وهي ترتدي الملابس العصرية الأنيقة، وتبدو لك وأنت
تنظر إليها سيدة بهية الطلعة، وشخصية لا يمكن للناظر إليها إلا أن يراها بعين
الاحترام والتبجيل. ثمة أسماء نسوية
أخرى لم تحقق ما حققته الدليمي.. ولم يكن لهن ما يميزهن في الحركة الثقافية
العامة.. الحق أقول لك: تحولت مدينتي إلى جثة هامدة تماما بعد الاحتلال لولا بعض
مبدعيها الذين أصروا على إعادة الحياة الثقافية فيها إلى ما كانت عليه.
- ما مدى أصالة إنجازات لطفية الدليمي بالقياس لكتاب تلك الأيام.
- كانت كتاباتها على درجة بينة من الإبداع. ولا أخفي عليك أننا كنا نقيّم كتابات
النساء من خلال المقارنة بين كتاباتهن وكتابات الرجال. كانت قصص لطفية الدليمي لا
تقل في مستواها عن مستوى قصص الرجال هذا إذا لم نقل إنها فاقت الرجال إبداعا
وأصالة.
- ما هو أهم عمل لها أثر بك. وما هي أهم الميزات التي وضعتها في صف الذكور بمفهومك
الشرقي الذي لا أستطيع أن أفهمه. جانيت ونترسون الإنكليزية مثلا سحاقية. وكولم
تويبين الإيرلندي يعاشر رجلا. لا أعتقد أن الفن يحتمل التصنيف البيولوجي. فالجنس هو
غير الجنوسة كما أعتقد.. ما رأيك؟..
- لطفية الدليمي نشرت أكثر من عشر مجاميع قصصية وعدد من الدراسات والروايات والنصوص
المسرحية ومن أهم أعمالها القصصية في رأيي
مجموعتها الموسومة بـ(مالم يقله الرواة).
لم أتأثر بأي عمل لها أو لغيرها لأنني
قرأتها في مرحلة متقدمة من مراحل تطوري الأدبي. وفي مفهومنا الشرقي البحت والمتشدد
فإن الأدب الرفيع هو ميزة الرجل على المرأة. وقد يكون هذا من حقنا أيضا فلم نقرأ
لأكثر من خنساء في الشعر ولا لأكثر من بنت الشاطئ في النثر ولا لأكثر من لطفية في
القصة العراقية. لقد ظل الرجل على مدى قرون متسيّدا على الحياة الثقافية. وقدم
مستويات رفيعة في الأجناس الأدبية حتى صار معيارا محليا على الأقل لمعرفة مستوى
الكاتبات من النساء وهو معيار محلي قاصر لا شك
ولا يمكن أن يؤخذ به عالميا.
- هنا لا بد من مداخلة. متى صدر أول عمل للدليمي. ومتى صدر كتابها الأهم برأيك. لو
هذا في الخمسينات وما قبل لا بد أن الأدب النسائي كان قد وجد له أرضا يلعب عليها.
ففي هذه الفترة كانت فلك طرزي وألفة الإدلبي ووداد سكاكيني تنافس الرجال على عرش
أدب السيرة والمسرح والقصة والرواية في سوريا ومصر. ولو أنها بدأت في الستينات وما
بعد فهذا يعني أن صوت الأدب النسائي كان يصل حتى غرفة ( مدير عام ) أدب الرجال..
وأشير لغادة السمان وليلى البعلبكي . هذا الثنائي الذي تخلص من الأصول الأدبية
البالية وفتح الباب لنوع من السرد المونولوجي الذي انطلق كالسهم لينافس نزار قباني
شعريا وزكريا تامر قصصيا. لقد تحولت الكتابة النسوية في الستينات إلى ظاهرة. وكانت
قبل ذلك تسير بالتوازي مع كل الأصول المعروفة لتبليغ رسالة إنسانية لها أصول .
فالموضوعات كانت تقتبس من التاريخ سيرة نساء مجاهدات كأم المؤمنين وخولة بنت الأزور
وما شابه. ولا ننسى هنا مي زيادة عشيقة جبران. ولا أريد هنا أن أتحدث عن مسز بيل.
ودورها في فتح باب الحرملك العثماني في العراق بفترة مبكرة. إذا أين مقاييس الرجل.
هذا شيء وهمي ناجم عن مجتمع ذكوري أعرج..
- صدرت مجموعتها الأولى (ممر إلى أحزان الرجال) عام 1970 أما مجموعتها (مالم يقله
الرواة) فقد صدرت عام 1999. وقبل عام 1970 نشرت قصصها في أغلب المجلات والصحف
العربية، ولها أكثر من عشر مجاميع قصصية وعدد من الرويات والمسرحيات فضلا عن
دراساتها في المجالات المختلفة. ولا تنسى أنك سألتني عن الأدب النسوي في بعقوبة وهي
ليست بالمدينة الواسعة، ولا هي بالحاضرة الثقافية الكبيرة وليس فيها أو لها ما
للمدن السورية أو المصرية أو اللبنانية من انفتاح على الآفاق أو فسحة لا بأس بها من
الحرية. لهذا لا يمكن مقارنة أدبها النسوي
بأي حاضرة من الحواضر الثقافة العربية. وحتى لطفية الدليمي لا تعد في
التصنيفات المحلية كاتبة بعقوبية بهرزية صرف بل بغدادية لعملها في مدينة بغداد
ولنشاطاتها الثقافية المختلفة فيها.
- ما هي أهم الصحف التي كانت تصدر قبل أن تبدأ أنت الكتابة في بعقوبة.
- ليس هناك أي صحيفة قديمة في بعقوبة
ولم تعرف الصحافة فيها إلا في التسعينات..
- ما نوع صحافة التسعينات. وما هي أهم الأسماء المشاركة. هل هم من المبدعين أم من
الذين يكيلون المديح للنظام ويبررون أخطاءه؟.
- في التسعينات قام نفر من الصحفيين بالحصول على موافقة ديوان رئاسة الجمهورية
لإصدار صحيفة بعقوبية تحت اسم (أشنونا) وهو الاسم القديم لمدينة بعقوبة. الصحيفة
سياسية بشكل عام تضمنت على صفحة ثقافية أستطيع القول إنها والصفحة الاخيرة (صفحة
المنوعات) كانتا الأكثر مطالعة واهتماما من قبل القراء.. فالناس في بعقوبة كما هو
حالهم في كل المدن العراقية سئموا الاخبار السياسية وتكرارها في أجهزة الإعلام
العاملة. ثمة أسماء بارزة في الصحيفة مثل جليل وادي، نبيل وادي، د. عبد الحليم
المدني، أديب أبو نوار، سعد محمد رحيم، سعدون شفيق، مؤيد سامي، عمر مجبل الدليمي،
حسين التميمي، كاظم الواسطي، أحمد خالص الشعلان وأغلب هؤلاء السادة من الأدباء
والمثقفين ولم يكن بينهم اختصاص صحافة إلا الأستاذ جليل وادي وشقيقه نبيل وادي فقد
درسا الصحافة واحترفاها. لم تكن الصحيفة تهريجية ولم تطبل وتزمر للسلطة بل كانت
متوازنة إلى حد بعيد.
-
من أين كنت تقتني كتبك.
- المكتبة الوحيدة التي تبيع الكتب وقتذاك كانت عبارة عن دكان صغير له واجهة زجاجية
لعرض الكتب، وفي داخله مجموعة من الرفوف.. كان صاحبها رجلا أنيقا، وسيما، وقورا،
وذا خلق عظيم.. ثقافته تؤهله لمحاورة الزبائن في اهتماماتهم المعرفية.. ما زلت أحفظ
اسمه الأول (عبد الرحمن) بينما غابت عن ذاكرتي كنيته.. أما مصدرنا الكبير وممولنا
الدائم فهي المكتبة المركزية العامة التي تضم آلاف الكتب من المصادر والمراجع
والمجلدات الثمينة والفريدة. وهي بناية كبيرة ما أن تدخل إليها حتى تشعر أنك دخلت
إلى عالم مختلف وكأن البشر داخلها ليس كالبشر خارجها. وهي توثق لكتّاب بعقوبة
البارزين في معرض صغير يحتل إحدى أركانها.
بعقوبة مدينة الحب والبرتقال
- هل يوجد في بعقوبة شارع خاص مثل شارع المتنبي ببغداد.
- شارع المتنبي ليس له ما يشبهه في محافظات العراق.. إنه قبلة الثقافة والمثقفين،
ومنارة الأدب الرفيع، وملاذ الجائعين للزاد المعرفي.. وبائعو الكتب فيه من
المحترفين الذين يعرفون أسرار المهنة، وعلم نفس القاريء، وقد ورثوا خبرة
المهنة عن أب وجد.. لهذا صارت للشارع شهرة واسعة على نطاق عربي.
- وكيف تبدو صورة بعقوبة في الليل. وماذا عن الحركات الأدبية السرية المعارضة التي
عملت بعيدا عن عيون النظام السابق؟.
-
في الليل تنام بعقوبة بحضن خريسان آمنة هادئة مستقرة وحالمة بيوم جديد.. عندما يبدأ
الليل تفوح في أجوائها رائحة الشبّوي (ورد يفوح عطره ليلا) وزهور القداح وتترك
الخفافيش أوكارها لتنتشر في السماء التي لا يحدها حد. لم تتعود على صخب الليالي
الحمراء، وحركة المرور العابثة. الخفراء وحدهم يسيرون على شوارعها ويطلقون أصوات
صافراتهم اليدوية. بيوتها تغفوا على ترنيمة النهر. وحمامها المطوق يعود إلى أعشاشه
فوق سعف النخيل. في هذه المدينة العذراء ليس ثمة سر مكتوم فأهلها متقاربون حد عدهم
عائلة كبيرة واحدة يعرف بعضهم سر
بعضه الآخر. وربما بسبب هذا لم تنشأ فيها حركة أدبية سرية فلا حاجة لأهلها إلى مثل
هذه الحركات إذا استثنينا العاملين في السياسة.
- وهل يوجد في بعقوبة فنادق .
- ليس فيها أي فندق مهم. الفنادق التي بنيت في بعقوبة مهملة ولا تتوفر فيها ما
يتوفر عادة في الفنادق الراقية. فالقادمون إليها عادة تتم ضيافتهم من قبل أهلها.
مرة قدم موكب ضخم من إيران محملا بقطع الذهب الخالص لتزيين مرقد الإمام موسى
الكاظم. دخل الموكب عن طريق خانقين ووصل الى بعقوبة. كان عليه التوقف فيها قبل حلول
الليل لمواصلة السفر إلى بغداد. وقد نزلوا بضيافة الأهالي.
- ما هي أهم ساحة عامة في بعقوبة. وكيف تصفها لنا.
- ساحة (العنافصة) وساحة (البرتقالة): الأولى تتوسطها حديقة دائرية الشكل مزروعة
بأنواع مختلفة من الزهور. تشتهر هذه الساحة ببقاء مقاهيها ومحلاتها مفتوحة إلى ساعة
متأخرة من الليل. والأخرى تتوسطها حديقة دائرية مزروعة بالورد وفي منتصف الورد يقف
تمثال الفلاحة وهي تقدم للقادمين إلى بعقوبة سلة من البرتقال اشتهرت بزراعته فسميت
باسمه مدينة البرتقال.
- أفهم أنه لا توجد نصب تذكارية لا لقادة من التاريخ البعيد ولا المعاصر.
- نعم في بعقوبة لا يوجد غير تمثال الفلاحة. أما صورة الدكتاتور فإنك تجدها على
الطريق الداخلة إلى محافظة ديالى. التمثال الوحيد الذي كان موضوعا في مدخل قضاء
الخالص التابع لبعقوبة كان للدكتور الراحل العلامة مصطفى جواد ثم أزيح من الوجود.
ومن الجدير بالذكر أن الفنان مؤيد الناصر وبمساعدة الفنان علي الطائي شيدا تمثالي
الفلاحة ومصطفى جواد. أما تمثال الزعيم الراحل عبد الكريم قاسم وهو يحمل مشعل
الحرية بعد الرابع عشر من تموز فقد شيد بتكليف خاص من صاحب محلات سنجر في بعقوبة
على الأرجح.
- أرى أن علاقتك مع المكان والإنسان في بعقوبة علاقة انسجام وتكامل. ولكن مسرحياتك
دائما تتطور في جو من العنف المفرط الذي يقود لنتيجة واحدة وهي الموت. كأنك تعيد
إنتاج أفكار فولكنر مؤلف الصخب والعنف ومؤلف ضوء في آب. كأنك تقتبس من أنتونين أرتو
رؤيته الكالحة للعالم والوجود. ما هو السبب. هل لأنك كنت في حالة صراع مع النظام
مثلا. هل تعرضت للاضطهاد السياسي أو للاعتقال.
- يندر أن تجد في العراق عائلة من العوائل وليس فيها من لم يقتل في الحرب أو يعتقل.
العنف سمة الحياة العراقية منذ گلگامش وحتى يومنا هذا. كنت المكلف من بين أفراد
ثلاث عوائل الذهاب إلى المعتقل لأسلم خالي وجبة الغداء. مرة سألني العريف الخافر
ماذا تحمل؟ قلت له ممازحا قنابل. فلم يسمح لي بتسليم الغداء إلا في آخر دقيقة. لقد
جعلني أكره الشرطة وكل بذة لها تفصيلية عسكرية. وعندما فسخ البعث جبهته مع الحزب
الشيوعي تم اعتقالي وتعريضي لصنوف من التعذيب الوحشي. وفي الحرب قتل شقيقي الأصغر
وأصيب الآخر بظهره. وبعد الاحتلال قتل ابن أخي بتفجير انتحاري مريض وأصيب الآخر
بقدمه. وفي ظروف المفخخات والناسفات فقدت أمي وشقيقتي. لم أجد لهما بقايا. بحثت عن
ذرة عظام في سابع سماء وتحت سابع أرض ولم أصل لشيء. كنت أدور في دوائر من العبث
واللاجدوى. هل رأى فولكنر أكثر مما رأيت من الصخب والعنف؟
وهل عاش أنتونن آرتو في عالم ينام على أصوات القذائف ويصحو صباحا عليها؟ هل
شاهد وهو يخرج صباحا رأسا مقطوعة ومتروكة على الرصيف؟ لقد عشت حياتي كلها وأنا أنشد
سلاما مبينا لا هدنة تنتهي بعد وقت قصير. الفترات السلمية القصيرة التي عشتها في
بعقوبة هي التي غرزتني في المكان فكبرنا معا، ونضجنا معا، ومنحنا أكل بعضنا لبعض
بمحبة وانسجام كبيرين.
- هذه مفاجأة . لم أسمع باعتقالك. متى. في أي سجن. وهل كنت تكتب وأنت رهن الاعتقال.
- كان ذلك في منتصف السبعينات من القرن الماضي. حينها تركت بعقوبة إلى بغداد وعملت
أجيرا في محل للتصوير في منطقة الكاظمية. وفي أحد أيام اشتغالي هناك دخلت زمرة من
أزلام قوى الأمن الداخلي. وطلبوا هويتي ومرافقتهم. كنت أخطط للإفلات منهم حالما
أكون خارج مشغل التصوير لكني وجدت أنهم يحاصرون المكان. وسارت السيارة بنا إلى
مديرية الأمن العامة. هناك التقيت في غرفة صغيرة ممتلئة حتى آخرها بالمعتقلين
وبالمناضل المخضرم صفاء الحافظ عضو اللجنة المركزية، وصباح الدرة عضو لجنة بغداد.
ولا مجال للقيام بأي نشاط داخل المعتقل الذي لا تستطيع أن تنام فيه وجسمك ممتد على
طوله.
- كيف كان التحقيق معك.
- المسألة لا تتطلب تحقيقا. عندما دخلنا بناية مديرية الأمن العام أجلسوني على كرسي
وقام الضابط المدعو طه صفوك برشقي وابلا من الصفعات القوية.. ثم طلب من تابعيه
إحضار أحد المعتقلين الذي أدلى باعترافه عن مكان تواجدي. أدخلوني إلى غرفة نصف
معتمة في مواجهة مع الرجل الذي رأيته منهارا من شدة التعذيب.. وقف طه صفوك وراءه
قائلا له هل هذا هو صباح الأنباري؟ فأجاب بانكسار نعم سيدى. باختصار بعد ذلك أخذوني
إلى زنزانة مزدحمة بشكل لا يدع مجالا للحركة. في اليوم الثاني بدأت رحلة التعذيب
الجسدي بالضرب والركل من قبل ثلاثة. كانوا يحيطون بي وبعد أن ينهكهم التعب يضعون
رجلي في الفلقة يقوم برفعها اثنان منهم بينما الثالث يضرب على قدمي ضربا مبرحا حد
تقلص جسمي وتقوسه لا إراديا. وإذ يشبعون يعيدوني إلى تلك الزنزانة ثانية لأظل طوال
الليل أتألم من صرخات المغتصبات واستغاثتهن وكان أشد ما يؤلمني سماعي صراخ الأطفال
وأحيانا يخترق هذا العويل أزيز طلقة لا أعرف قتلت من. هكذا بقيت على هذه الحال ست
عشرة يوما.
-
كيف كانت الأحول العامة يوم الغزو الأمريكي في بعقوبة.
- بدأ الغزو من الجنوب إلى الوسط
فاحتل المارينز البصرة، والناصرية، والعمارة، والنجف، وكربلاء، وواسط ثم بغداد. ولم
تدخل قطعات الاحتلال إلى بعقوبة. كنا نصعد إلى السطوح ليلا لنرى وابلا من القذائف
تهوي على بغداد الجميلة، ونشاهد قذائف المدفعية المضادة للطائرت من على بعد 60
كيلومترا وهي المسافة بين بعقوبة وبغداد. وميض الانفجارات كان واضحا ودوي العديد
منها كان يسمع بوضوح في بعقوبة كلها. نزح البغدايون بأعداد غفيرة إلى بعقوبة طلبا
للأمان حتى اكتظت بهم المدينة التي ظلت على عهدها في الضيافة والكرم. لم يخل بيت من
بيوتها من أولئك النازحين سواء من الغرباء أو الأقرباء. في الشقة الصغيرة التي كنت
أسكنها وقتذاك حطت رحالها أربعة عوائل بغدادية كان من ضمنها عائلة القاص
والروائي الكبير جهاد مجيد. كنا ننام حشرا وإذ هدأت الاوضاع وتمت سيطرة الغزاة على
بغداد بدأ النازحون بالعودة إلى بيوتهم واستمرت الحياة في بعقوبة على هدوئها. مرت
الأيام والليالي ولم نر جنديا واحدا من المارينز. ولما كان الناس بحاجة إلى إدارة
أعمالهم وشؤونهم الرسمية اضطر نفر منهم إلى دعوة الأمريكان للدخول إلى بعقوبة
فدخلوها من دون أن يطلقوا إطلاقة واحدة ذلك لأن
قوى الأمن الداخلي، والخلايا الحزبية، ومنظمات البعث المهنية والسياسية والمسؤولين
البعثيين كلهم ما إن سمعوا بمجيء الأمريكان إلى بعقوبة فروا هاربين إلى خارج
المدينة مثل الجرذان المذعورة تماماً.
كانت بعقوبة في نظر الأمريكان مجرد (دجاجة نائمة) لم تبرح نومها لشهور. لكن العجب
العجاب أن هذه الدجاجة قد صحت على أعمال عنف لم تشهدها طوال تاريخها حولت بعقوبة من
مدينة للأمان والسلام إلى مدينة قتل وذبح واغتصاب وترويع وتخريب ودمار. بدأت
المعارك بين المارينز والقاعدة وبين القاعدة والشعب وبين الشعب والمارينز وبين فلول
النظام السابق وأبناء الشعب، وصار شائعا أن تعلق تلك القوى على جدران المدينة قوائم
بأسماء الأشخاص المستهدفين منها للذبح. وتحولت المعارك بعد خروج الأمريكان إلى
معارك بين الشيعة والسنة، وبينهما وبين القاعدة التي تؤمن أن قتل الشيعي واجب، وقتل
السني مستحب، وقد استمر الحال هذا إلى ما بعد تشكيل الحكومة العراقية من الموالين
للسياسة الامريكية. واذا جاز لي وصف المدينة إذ ذاك فإنني يمكن أن أوجز وصفها
بأنها مدينة أشباح وخرائب.
- وكيف تقدم جهاد مجيد لمن لا يعرفه.
- جهاد مجيد كاتب قصصي، وروائي من الطراز الأول. مفرط الذكاء، شجاع، جريء. صحيح أنه
يلبس الرواية رداء تراثيا إلا أنه لا يشتغل على تكثيف الرموز التراثية
قدر اشتغاله على جعل ملامح الواقع المعيش منعكسة على مرايا التراث فيتعرف
القاريء على وجه الجلاد وملامحه كما لو أنه يعيش معه أو تحت رحمته بالضبط. ولو قيّض
لك ان تقرأ روايته (دومة الجندل) لرأيت إلى أي مدى بلغ بجرأته في زمن كانت الرقابة
تمارس فيه أقصى بعثيتها، وأبشع ضغوطها تجاه الكتاب والأدباء. لقد أصدر جهاد مجيد
ثلاث روايات مهمة هي: (تحت سماء داكنة) و(الهشيم) و(حكايات دومة الجندل) و(مجموعة
قصصية تحت عنوان (الشركاء) ولم أعد أتذكر عنوان مجموعته الأولى.. إن أهم ما يميز
أسلوبه الخاص هو اشتغاله على (الاستيهامية) كطريقة لإيهام القارئ بان ما يحدث في
الرواية هو واقع حقيقي معيش، لا وهم ولا تخيل وبهذا يقرب صورة الواقع ويركز عليها
ولكن من خلال غطاء تاريخي وتراثي يحصنه ضد الرقيب وسلطته الغاشمة. جهاد مجيد لم
يغادر العراق، ولم يهاجر إلى أي بقعة في الكون وهو يسكن بغداد ويمارس نشاطه في
الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق.