كتاب المكان ودلالته الجمالية في شعر شيركو بيكس

 

المكان حاضن النص  المفتوح

(كتاب القلادة)

أنموذجاً 

 

إن حضور المرأة هي كحضور اللغة والرؤيا الشعرية عند

 كتابتها أي إنه لا يمكنني أن أكتب دون حب امرأة أو حضورها المستمر

 في خيالي وتخيلاتي المضيئة أو عطر جسدها أو صوتها العذب، إذا كنت أتخيل

 قارئاً قبل كتابة أية قصيدة أتخيله كامرأة لا كرجل وإنما أعطي القصيدة وأهتم بإيقاعها (الأنثوي) إن جاز التعبير. الأنثى هي الشجرة التي تظللنا ولولاها سنكون مثل صحراء جرداء دون ماء ودون هواء.

شيركو

 

   على الرغم من أن(كتاب القلادة) قادر على إخبار القراء، والنقاد عن نفسه بنفسه، وعن اجتراحه جنساً تتداخل فيه الأجناس، وتشتغل على ابتكار جنس غير مسبوق (النص المفتوح) إلا أن الشاعر استبق نصه المفتوح في التصريح والتنويه عن كونه جنساً هجيناً "لا يندرج ضمن الجنس الشعري الخالص".

  عنونة (كتاب القلادة) أسسها شيركو على مفردتين، الأولى أراد منها أن تكون ناطقة بنوع القصائد التي صارت نهجاً واضحاً في شعره، متخذة لها أسماء وإن اختلفت في طرق رسمها إلا أنها تتفق، بشكل أو بآخر، على معنى لها، فالأناشيد،(أنشودتان جبليتان)، والقصيدة الروائية (الصليب والثعبان ويوميات شاعر)،والكتاب (كتاب القلادة)، والقصيدة الطويلة (مضيق الفراشات) والسفر(سفر الروائح)..الخ مسميات تشي بشكل الكتابة الشعرية المحدثة التي صار شيركو يعرف بها أكثر من غيره من الشعراء المحدثين الذين كتبوا القصيدة الطويلة.

   أما مفردة(القلادة) فقد أشار شيركو إلى أنها تجمع عدة أجناس أدبية، وفنية في كتاب واحد كما تجمع القلادة عدة أحجار كريمة مختلفة بخيط واحد. وهي فضلاً عن هذا منحت النص قدرة على الانتقال، والتنوع مكانياً، وهذا هو بالضبط ما يهمنا في اشتغالنا عليها. إن الاختلافات الاجناسية هي نتاج التطويع الفني لها ضمن النص المفتوح عليها، والتي انصهرت فيه، وتوحدت على وفق الرؤيا المنتجة لمخيال شيركو بيكس. فضلا عن أنها حددت الخطوط المسارية لنص(القلادة) وهو نص بلا فواصل أو تبويبات. يقول مازن معروف في مقالته الموسومة (مانفيستو ضد الذكورية): "إن الكتاب لا يحمل في داخله تبويبات"(25) ولهذا، وبسببه ارتأينا تقسيم النص إلى أمكنة رئيسة تحتضن الأحداث، والشخوص، والأفعال السردية، والدرامية.

   إذا استثنينا مادة الاستهلال فاننا سنجد أنفسنا بإزاء المكان الأول والذي أطلق عليه شيركو بيكس (متجر الزهرة الجبلية)،وقبل الدخول إلى تفاصيل هذا المكان سنلقي نظرة فاحصة على مقدمة النص الاستهلالية، التي انقلبت فيها البداية إلى نهايةٍ ارتبطت ببدايتها بسلسلة من الأحداث، والشخوص، والصور الشعرية، والسردية ليكون حدثها الرئيس مستمرا واقعيا في حياة اختيرت له خارج نطاق السيرة الذاتية لشخصية القلادة. بمعنى آخر أن الأحداث اتصل بعضها ببعض لتلتقي في النهاية عند بدايتها.

"حين تغدو الخاتمة استهلالاً" 

يقدم لنا شيركو بيكس وصفا للشخصية الرئيسة حين تقوم الشخصية بوصف ما يدور لها بعد أن أزف وقت رحيلها إلى النهاية بصوتها الأنثوي، وأدائها المتقن وظيفياً.

قبل أن يخفت الصوت

ويتناهى كأمواج رمال السواحل

قبل أن تحتضر ملامحي، وتتناثر

في الأصيل شعاعاً بين صخرتي جبل

هي محاولة في استباق الحدث ووضع موجهات الفعل ضمن مسارات النص وزمانيته، وهي صور بلقطات بعيدة(سينمية) لخلفية ما سيحدث إن أدركتها النهاية:

 

قبل أن يصرعني الضياع ويغمرني بالسراب

ها هو دفتري يتراءى داخل دوامة اللغة

هكذا ابتدأ صوت القلادة وهو يشي بدفترها الجامع للحكايات، والناطق بالمغامرات، والانتهاكات التي لا حدود لها في حياتها. إنها إذن كائن شيركوي ملحمي درامي فاعل عبر مساراته السردية، وهو صوت غير منفرد في أداءاته الوظيفية، والشعرية. إنه مصحوب بصوت الشاعر الذي يقطع الاسترسال عليه ليضفي تنويعا تكاملياً من خلال قطع المشهد الشعري قطعا بريشتيا.

يعطينا الشاعر ما يرى أننا بحاجة إليه موجها كلامه(صوته) إلينا بشكل مباشر حين يروي (سردياً) عن القلادة:

 "إن ما سمعتموه كان صوتا أبيض لقلادة عاشقة زيتونية أبت أن تستحيل قوس أصيل،أو تغدو تابوتا، أو سرابا،لكنها عجزت عن المقاومة حتى النهاية..فذات مساء خريفي متكور، بعد صرخات متقطعة خنقوها كغزالة في منزلها بخيوطها التي حملت من قبل حباتها."

إن شيركو بيكس، وهو يجمع بين شخصية الشاعر والراوي ـ لما حدث أو ما سيحدث ـ فانه بهذا يعطي الشخصية وظيفة أدائية تقربها من الدراما، أو تجعلها تتصف بصفة درامية، أو انه يطوع فيها ما هو درامي لخدمة ما هو سردي، وسنلمس هذا لاحقا حين نتناول الأجناس الداخلة(لا الدخيلة) بطواعية إلى نصه المفتوح. ولم يكتف شيركو بهذا حسب، بل انه ذهب إلى أكثر منه حين أخبرنا اعتراضياً عن نفسه قائلاً:

أنا ـ كاتب هذه السطورـ أعرفها عن كثب

وفي هذا تداخل واضح بين صوتين: صوت الشاعر داخل النص، وصوت شيركو خارج النص، وهو في الحالتين يمثل دور الراوي العارف بكل شئ.

لنتأمل الآن الاستهلال ثانية لنرى بأي شئ تلتقي البداية بالنهاية، أو النهاية بالبداية ولنقرأ أولاً هذا المقطع الشعري على لسان (القلادة):

أزف الوقت،زادت صرخاتي إصراراً، وأنا في عجالة

ينبغي لجسدي أن يبقى مُلْكاً لي وحدي

فأنا مصدر التدفق، أنا نهر الجريان معاً،

آن لروحي أن تغدو نشيداً على لسان قصيدة مجنحة،

ملامح حرية ناصعة في لوحة أو ستائر مسرح مفتوحة

 أبداً

 

بدءًا لفت انتباهي تصريح (الأنا) الأنثى عن نفسها بوصف دقيق جدا لماهيتها" أنا مصدر التدفق، أنا نهر الجريان معاً" فالتدفق لغة يعني "الماء :انصبَّ ـ النهر:امتلأ حتى يفيض الماء من جوانبه"(حسب المنجد في اللغة) وفي هذا إشارة إيروتيكية((erotic لخصب المرأة، وتدفقه، وجريانه إغتلامياً نحو الشهوة المنتجة. وبغيره يستحيل على نهر الحياة إنجاب ما يجعله مستمر الجريان إلى مصباته القصية. المرأة ـ وبسبب تاريخ كامل من الانتهاكات والاغتصابات ـ ميالة إلى الانفراد بجسدها حفظا للطهر الذي دنسه الذكور على مر الزمن، وهي لهذا وذاك استحقت من شيركو تحويلها إلى نشيد جديد في قصيدة طويلة تشي بكل معاناتها، وهمومها عبر الزمن.

لنعد الآن إلى بداية النهاية متأملين المقطع الأخير من (كتاب القلادة):

عندما تغدو البداية نهاية

أزف الوقت، وينبغي أن يكون جسدي ملكا لي حسب،

أنا المنبع، والنهر أنا أيضا..

ينبغي لروحي أن تكون دوما

أغنية على لسان قصيدة مجنحة

أو لون الحرية الناصع في لوحة

أو ستارة مسرح مفتوحة أبداً

أزف الوقت ..وأزف..وأزف.

 

وإذ تلتقي البدايتان، أو النهايتان ،لا فرق، ينعدم الزمن بينهما ويحسب على انه مجرد استرجاع لما حدث في ماضي القلادة استغرق بضع لحظات وامضة حسب. وهو من وجهة نظر د.فاضل عبود التميمي" دوران النص حول نفسه".لانطلاقه من نقطة محددة يرجع النص إليها عبر حركة بانورامية كاملة.

  الاستهلال إذن، ومن الناحية الوظيفية، والأدائية قدم لنا الشخصية(القلادة) من خلال صوتها الذي نهض بمهمة الوصف، وصوت الشاعر الداخلي، ممثلا بشخصية الشاعر الناطق باسم النص، والصوت الخارجي ممثلا بشخصية شيركو كاتب النص،وأصواته المهيمنة، والمتماهية في الأصوات الأخر ضمن المقدمة الاستهلالية في آن واحد. وهذا يعني أن شيركو جمع بين تقنية الشعر وتقنية الدراما فضلا عن استخدامه الوصف غير التقليدي الذي جمع بين اللون وبين الصوت:"وهذا الصوت النارنجي هو صوت قلادة زرقاء الجسد، خضراء العينين" يقول الناقد د.فاضل عبود التميمي في معرض تناوله الوصف عند شيركو بيكس في دراسته الموسومة(شيركو بيكس وكتاب القلادة) أن اللون: النارنجي لون يميل إلي الصفرة الفاتحة، وهو ما توصف به الملموسات، والمرئيات لا المصوتات، لكن الشاعر يستعمله في إطار لعبته الذكية المفارقة للأصول".(26)

إن هذه (اللعبة) المفارقة للأصول حسب تعبير د.فاضل عبود ليست بالجديدة على شيركو بيكس، وغير مقتصرة على (كتاب القلادة) حسب بل انها أخذت مداها كاملا في مطولة(إناء الألوان) وقد تناولناها ـ خارج كتابنا هذا ـ في مقالة مستقلة موسومة بـ(فلسفة اللون في ملحمة شيركو بيكس إناء الألوان). وكذا الحال في مطولته(سفر الروائح) إذ وصف بالرائحة ما لا يمكن وصفه بها.

مهمة الوصف وان كانت سردية، في أغلب حالاتها، إلا انها أعطت القارئ انطباعاً وافياً عما أراده الشاعر من توصيف مهم لشخصيات كتابه وأهمها شخصية القلادة التي قدمت سيرتها الذاتية بهذا التوصيف:

أنا قلادة من سلالة الإناث

زرقاء الجسد خضراء العينين

أنا من أهل البحار يعود جذرنا من جهة الأم إلى أحلام "المرجان"

ومن جهة الأب إلى قبائل "اللؤلؤ"

ولدت أنا في مدينة الأسماك

وقابلتي كانت سلطعونة

يروون أن جدتي كانت تقص الحكايات على حوريات البحر  

أمواجا هادرة لا تغفو أبداً

 

قد يبدو لقارئ هذا المقطع انقطاع علاقته الشعرية تماماً، وابتعاده عن روح الشعر، وهيمنة السرد المطلقة عليه، وفي حقيقة الأمر أننا لا يمكن أن نعاين مقطعاً انفرادياً من قصيدة عدد صفحاتها 123 صفحة معاينة خاصة تماماً فضلا عن إن هذا المقطع، وارتباطا ببقية مقاطع القصيدة يقدم وصفا مطلوبا لشخصية الكتاب الرئيسة، وهنا على القارئ أن يتذكر أن شيركو في هذا الكتاب لم يقدم لنا شعرا خالصاً(باعترافه طبعاً) من الناحية الاجناسية بل مجموعة أجناس تضافرت على ابتكار جنس هذا الكتاب على الرغم من هيمنة النفس الشعري لشيركو على مفاصله كلها.

القلادة، إذن، وحسب توصيفها لنفسها أنثى من أهل البحار ولدت في مدينة الأسماك. ولم يأت،هذا التوصيف، اعتباطاً لارتباطه بأحلام المكان البديل(قاع المحيط) بعد أن قيّدت في المكان الأول(المتجر) خارج المحيط؛ وهذا هو بالضبط محور بحثنا الآن.

المكان الأول:

   بعد أن كانت الأنثى حجراً ثميناً كريماً، كما يقول شيركو، في أعماق المحيط، وبعد مغادرتها عالم الصفاء والنقاء،عالم الأضواء المنعكسة برومانسية من خلال موجات البحر،عالم الهدوء الشامل بما يكفي، والجميل كما ينبغي. عالم يتساوى فيه الذكور، والإناث خرجت لتلفحها شمس الأرض، ولتعيش بقية عمرها تحت هيمنة الذكور، وسلطتهم التي لا يحدها حد. هذه الأنثى هي بطلة كتاب شيركو بيكس (القلادة):

لو تطلب الأمر، فان هذه القلادة ستكون بطلة نصي هذا

 

 المكان ما قبل المكان الأول في حقيقته تمهيد مطلوب للدخول إلى عالم القلادة الجديد، والمضطرب. فهو يقدم مقارنة، ومفارقة بين عالمين(مكانين) مختلفين، ومتناقضين عملا على التأثير المباشر في حياة الأنثى. وفي الوقت الذي تحول الأول إلى حلم يقظة ظل الثاني يمارس ضغوطه، وكابوسيته عليها. إن استقرارها الجنيني، ومن ثم اكتمال أنوثتها، وجمالها الأخاذ، هو ما جر انتباه الذكور إلى الاستحواذ عليها وزجها في خضم حياتهم الذكورية خارج بيئتها، وظرفها الذي منحها ما ينبغي أن يكون لها كأنثى. إن التحول، والانعطاف من البراءة إلى فقدان البراءة عمل على تغيير حياتها برمتها. لقد تحولت إلى قلادة مرغوبة، ومطلوبة بعد أن كانت حجراً كريماً يرفل بالسكون، والركون بعيداً عن منغصات الحياة وضجيجها الأرضي. أدخلت إلى(المدينة البيضاء) قسراً لتستقر في متجر(الزهرة الجبلية) وليصبح المتجر غرفتها الأولى ومنزلها الأول. لقد حولوها إلى سلعة، إلى شئ يمكن أن يباع، وان يشترى، ولم يكن هذا إلا بداية النهاية التي أرخت لفقدان مكونها الإنساني، والجنوح إلى تشييئها ووضعها في متناول من يشاء.

 لنسأل أنفسنا بداية:

ما الذي يقدمه النص للمكان الأول؟

انه يقدم وصفا أولياً، ومسحاً طوبوشعرياً، وانثروبوشعرياً شاملاً عن طريق صوت الأنثى أولاً، وصوت الشاعر الذي يروي ما حدث لها في نصه المفتوح ثانياً. في هذا المكان ثمة إكسسوارات ذكورية، أو ذكور إكسسواريين يشاكسون القلادة. تقول في معرض وصفها للمكان:

"صار هذا المخزن الأزرق مأواي، وأصبحت الأشياء الذكورية وأصحابها من المغرورين ذوي الشوارب والأصوات الخشنة تبعث فينا نحن الأربعة الضجر والملل ليلا ونهارا من على تلك الرفوف المحاذية."

 

إن (الأربعة) الوارد ذكرهم في توصيفها هم: أنا ضمير المتكلم زائداً ثلاث قلادات اقل منها شأنا، وجمالا. أما الأشياء الذكورية فهي رباط عنق، وملقط رجالي ذو رأس كبير، وسلسلة ساعة رجالية، ونظارة رجالية، وكل هذه الإكسسوارات تنطق بذكورتها، وفحولتها، ومحاولتها اقتناص نظرة، أو كلمة، أو إشارة تفضي بهم إلى نيل مأربهم من مجموعة الإناث جسدياً. إن لكل أنثى حكاية مختلفة لكنها تلتقي مع الحكايات الأخر في ذات المصير، وذات النهاية، ولم يتبق لهن غير الأماني اليائسة، ولذا وجدنا إحداهن تتمنى لو أن قسمتها قادتها إلى ايطاليا شرط أن تعيش في فلورنسا بينما تتمنى الأخرى أن تعلق في رقبة امرأة حسناء لتتخلص من جور الذكور، والحلقة الأضعف بينهن تلك التي تمنت التخلص من الذكور الأشقياء الشرسين، والأنانيين الذين يحيطونها بأدواة فحولتهم من كل صوب. إنهن يعشن اغتراباً روحياً كاسحاً، ووحدة ووحشة محفزتين للدموع، إنهن غريبات عن الوطن، وغريبات عن فتيانه أيضاً، ولا غرابة إن عاملوهن بأنانية ووحشية وشذوذ، وفحولة تواقة لفرض هيمنتها عليهن جميعا، وما (كتاب القلادة) إلا بيان احتجاج أنثوي ضد الذكورية المهيمنة كما جاء ذلك في مقالة الأستاذ مازن معروف(القلادة للشاعر الكردي شيركو بيكس:مانفيستو ضد الذكورية).(27)

ماذا قدم المكان الأول للنص؟  

المكان قدم للنص هويته المؤسسة على الاستلاب والإلغاء ،والترهيب، والتخريب، والتهميش، ومصادرة الحريات الشخصية، والفكرية، وما إلى ذلك من أشكال الانتهاك، والاغتصاب. من هنا يبدأ اقتراب النص من مساره السياسي والدخول إلى المنطقة الحساسة حين تنقل لنا القلادة ما حدث لصاحب المتجر حين داهمه رجلان اقتحما متجره وألقيا عليه الأسئلة:  

"أأنت صاحب متجر(الزهرة الجبلية)؟! فأجاب بارتباك وتلعثم:أجل أنا،وهل أن اسمك الكامل هو (بيستون كاكه ويس)؟!فأجاب ثانية وبارتباك:أجل.

ثم قال الثاني :"هيا تفضل أغلق متجرك واتبعنا لدقيقتين فقط"

اقتادوه ولم يعد..فوقع المتجر في حديقة سوداء."

 

في هذا المقطع ثمة إشارة إلى أن الظلم ـ في هذا المكان ـ طال الإناث، والذكور في آن وان اختلفت أساليبه ووحشيته. تقول القلادة مشيرة إلى هول ما حدث أنها المرة الأولى التي تصادف فيها تجربة عسيرة مثل هذه التجربة السوداء. ولكننا بتقدم فصول، وأحداث النص، وتفاصيل حياة القلادة سنجد أن شيركو بيكس يروم من خلال نصه المفتوح فضح تلك الأساليب، وشجبها شعريا بأسلوب يبعد النص عن الشعاراتية، والتقريرية لأنه لا يسعى إلى توافقات، ومراضاة تدر عليه فائضا من قيمة الشهرة، والجاه، ولأنها لا تهمه من قريب أو بعيد قدر ما يهمه الأبرياء من الناس، ضحايا ارتدادات الواقع وأوتوقراطياته. ليس للقلادة من يواسيها في وحدتها، وغربتها، ووحشة لياليها. ليس لها من تناجيه أو تسمعه، أو تراه. كل الأشياء صارت رجالاً: العاصفة والموجة، والميناء، والسفن. وكلما استجارت بإلهٍ ما صار ذلك الإله رجلاً أيضاً. ترى أين إله أنوثتها الذي كان لها من قبل؟

 لم يعد لها سوى البكاء، وسوى أن تغوص في دوامته الأبدية. لقد تغير حال المكان(متجر الزهرة الجبلية) مثلما تغير حالها:

"(الزهرة الجبلية) غدت ذابلة مثلي، ومثل قارورة العطر، ولون غرفتي البرتقالي الشاحب، وسائر النساء في البيوت..مضت شهور طويلة دون أن ينطق الباب أو نرى خصلة من شعر الشمس، فجأة وفي ظهيرة يوم ما ابتسم الباب، ودخل (بيستون كاكه ويس) برفقة حزمة من ضياء الشمس."

 

في هذا المقطع تتجلى فكرة المكان، والتأثير التراجيدي المتبادل بينه وبين شخوص النص. فهو يؤثر على الشخوص تأثيرا مباشراً حين ينقلب بهم إلى مكان ليس  بأفضل حال من (مملكة الظلام) الذابلة مثل لون برتقالي شاحب، وهم يؤثّرون عليه بشكل مباشر أيضاً حين يقلبون ظلامه نورا يتدفق إليه تزامنا مع إطلاق سراح كاكه ويس من المعتقل المجهول، وعودته إلى المتجر، وبث روح الحياة في عروق (الزهرة الجبلية) ثانية بعد ان أصابها ما أصابها من الذبول والأفول.  المكان ـ في القلادة أو في شعر شيركو عموماً ـ كائن دينامي تجاوز جموده وسكونيته إلى حركية علاقته بمضمناته الزمانية والشخصانية. انه يشتغل على وفق نظام دقيق ديالكتيكي شعري يتأثر ويؤثر في تأثيثات واقع القصيدة، على الرغم من ضخامته كحاضن لها. إنه يقفو أثر التناقضات ـ كبنية أساسية من بنى الصراع ـ التي تؤدي إلى تأزم موقف الشخصيات لأسباب مختلفة وزجها ـ شاءت ذلك أم أبت ـ في أتون معترك يتسلق سفح القصيدة بعنف نحو ذروتها. ولا مناص من الإشارة إلى طبيعة المؤثر الخارجي، في هذا المقطع أو في غيره، والذي فرض هيمنته بهيئة قوة متحكمة بالمصائر، والأواصر، والآجال. لقد عادت الأشياء إلى حال ما قبل الاعتقال (زوال الأثر) إلا أن المؤثر استمر في زعزعة بنية القلادة التي أعلنت في خاتمة المكان الأول، أن فؤادها الحزين:

ما برح كعصفورة ترتجف في كف رجل

وكحمل غزال مطارد منهمك في عرض سهل قاحل

 

فالعصفورة برقتها ورهافتها، وبما عرفت به من جموح إلى الانطلاق نحو الآفاق الرحبة تقيد حركتَها كفٌ ذكورية صارمة كدلالة على سلطوية عالم الذكورة وأثره الممتد إلى أبعد ما يمكن في عالم الأنوثة. ولهذا لم يكن إطلاق سراح(بيستون كاكه ويس) ليدل على رفع التأثير أو الضغط العالي عن (الزهرة الجبلية) كمكان أو حاضن للإناث كليا بل يعني مجرد إلغاءٍ بسيط يترتب عليه تأثير اكبر في قادم الأيام، أو في مقاطع القصيدة اللاحقة.

 

المكان الثاني:

   تنتقل القلادة من مستقرها الأول(المتجر) بعد اقتنائها من قبل امرأة جميلة إلى مكانها الجديد. والانتقال هنا يعني حركة محسوبة ومدروسة ومنسقة ـ مع هدفها النهائي ـ تقوم به القلادة بوساطة ما للوصول إلى غاية ما تتماهى بين كائنين. الأول متحكم والآخر متحكم به. إن هذه الحركة الانتقالية وضحت لنا نوعية العلاقة بين الداخل والخارج مثلما وضحت لنا حركة(بيستون كاكه ويس) علاقة الخارج بالداخل حين اقتيد من المتجر(المكان الداخلي) إلى دائرة الأمن(المكان الخارجي) ليلاقي ما يلاقي من صنوف الإذلال والتعذيب. الخارج إذن مكان عدواني، ومحايد في آن وان عدوانيته تأخذ أشكالاً مختلفة حسب ما تفرضه على الواقع، والشخوص من ضغوط كابوسية، أو لنقل بسبب الهيمنة الذكورية المنفلتة من عقال البناء الاجتماعي/السياسي، والديني أيضا، وتجييرها المؤسساتي للمفاهيم والقيم الروحية، والمادية بما يعزز تلك الهيمنة بسلطة ذكورية مطلقة.  

      إذا كان المكان الأول(المتجر) منفتحاً على الخارج (خارج المتجر) فان المكان الثاني(البيت) منغلقا عليه. تتحكم بانفتاح الأول سايسولوجية علاقاته التجارية كمركز لتبضع مختلف إكسسوارات التجميل، وتتحكم بانغلاق الثاني أَمنية معاييره السايسولوجية كملاذ، ومأوى حصين للإناث من تجاوزات، وتطاولات الذكور.

هل البيت مكان منغلق على نفسه في(كتاب القلادة)؟

هو كذلك فعلا فلا أمان له بانفتاحه الدائم على الخارج العدواني، ولكنه يكسر هذه العزلة حين يتوجه إلى أي مكان دون عقبات أو معوقات، ولكي يفعل هذا فانه يركب موجة التخييل لمد أواصر خفية بينه وبين الوجود الخارجي لتحدث المواجهة المطلوبة بين الوجودين والتي ستشعل فتيل الصراع حتما لوجود التناقض أصلا في كلا الجانبين. ولما كانت قوى الصراع غير متساوقة ولا متكافأة لذا ركنت الأولى حميميتها داخل البيت بينما استشرت عدائية الثانية خارجه. وقبل المضي قدما في تحليل البيت كمكان ثان للقلادة نتوقف قليلا لنجر الانتباه إلى أن القلادة لم تتخذ من البيت بكليته ملاذا لها، بل ضيِّق الخناق عليها في(غرفة بيضاء) داخل البيت.

"حزينة هي آنسة الغرفة البيضاء كجدول مياه مهموم عند الأصيل، تحاول أن تتناسى..ولكن لا بريق كريستال القصر ولا امتزاج الأطياف الملونة ولا الشرفة الذهبية المحاذية للجبل..تقدر أن توصل خيطا من السعادة إلى الروح التي غدت هزيلة كما الأصداف في حافات السواقي صيفاً."

ومع أن شيركو بيكس البس الغرفة رداء  البراءة والنقاء إلا أنه أشار إلى جنوحها نحو القسوة بفعل مؤثر خارجي/داخلي جعل آنسة الغرفة البيضاء حزينة تتآكلها الهموم. إنها مهمشة ومنقادة إلى مركز الذكورة الذي هو محور، وعمود ارتكاز الحياة الداخلية للبيت. وبفعل الذكورة أيضا صار البيت متضمنا على كلا الجانبين: الداخل، والخارج بعد أن عزلت(الغرفة البيضاء) لتكون عالم الداخل، ولتكون أجزاء البيت الأخرى وبضمنها(المركز) عالم الخارج. ربَّ سائل يسأل ما الجدوى من هذا التحليل والتفلسف؟

إننا نؤكد على الدوام أن الجدوى تكمن في أن فرصتنا لفهم الحياة، وتجلياتها الروحية، وتساميها لن تتأتى إلا من خلال الشعر، ولن نتعلمها إلا من الشعراء الكبار. وهذا هو ما فعلناه بالضبط منذ عرفنا الشعر ومنذ ابتدأنا الرحلة إلى أقاصي الحياة.

لنعد إلى افرازات الداخل والخارج ثانية، ونبحث عن المتناقض فيهما، ولنبدأ من آنسة الغرفة البيضاء. إنها امرأة كردية جميلة بلا حدود، رقتها الكرستالية تضفي عليها أنوثة تشبه مجالا ممغنطا تنجذب إليه العيون، والأفئدة، والعقول. ثرية تقع بحب رجل من بيوت الطين تشعر انه الوحيد الذي يستحق امتلاك جمالها الأخاذ فماذا يحدث بعد هذا؟ إذا أخذنا هذه القصة ببساطة، وبشكل تقليدي، وتتبعنا آثارها على سطح الواقع المعيش فإننا لن نكون بحاجة إلى معونة شاعر، أو حنكة قاص، أو فذلكة روائي، أو فنية مسرحي ليقول لنا ماذا سيحدث بعدئذ لأننا نعرف ما سيحدث مسبقاً فقد خبرنا مثل هذه التناقضات من قبل، ولكن هل ثمة أحد خبر رجفان قلب الأنثى وهي تدخل مجالاً ممغنطا بالحب يشدها نحو الاقتراب أكثر فأكثر ممن تحب؟ هذا الرجفان لا تدركه حتى الأنثى لحظة حدوثه، ولا يدركه إلا الشعراء الكبار، وهذا هو ما نتعلمه منهم بالضبط.

هذه القصة أيضا تمنح شيركو حرية الحركة داخل القصيدة وفروعها كما تمنحه الأشكال الأخرى قدرة استخدام شتى الوسائل لبيان المعنى العام لكتاب القلادة أو حياة القلادة فهو ضمن المكان الثاني يستخدم شكل الرسائل في الكشف عن جانب أو أكثر من جوانب الشخصية وكذلك شكل القصة القصيرة أو الحكاية أو شكل المذكرات أو اليوميات أو شكل المقارنات والمقاربات أو شكل الحواريات. قلت شكلاً ولم اقل مبنى لأن شيركو لم يكتب رسالة تقليدية بالضبط، ولم يكتب قصة قصيرة أو مسرحية أو..أو..الخ..بالضبط، ولكنه كتب ذلك بأسلوب جعل تلك الأشكال تذوب في إناء أسلوبه الشعري المتفرد. لنأخذ هذا المقطع من المذكرات أنموذجا:

"بخصوص المذكرات التي كتبتها. بداية تحدثت القلادة قليلاً وأعربت عن شكرها وامتنانها لقلم(الحواجب) قائلة: لولاها لما أبصرت مذكراتي هذه النور. حينذاك أصغى الجميع باهتمام، فبدأت قلم الحواجب بتلاوة المذكرات:

اليوم الطقس بارد

ليس في الخارج حسب

بل في أرواحنا تتساقط الثلوج

الآنسة منهمكة في الكتابة

والكلمات مبتلة تحت حدقتيها

شعرها منساب على دفترها

العشق قصيدة

والقصيدة هي الآنسة ذاتها

لذا تبدو الأولى كالشموع

والثانية غدت شمعدانا..

الهموم البيض تنهمر

ونحن من خلف النافذة نحسب ندف الهموم بأسف

هذا اليوم وعند المساء

انتحرت صديقتي القلادة الجميلة حرقا

وتفحمت وسط هذه الثلوج

لأنها أبت الزواج بسكين عجوز."

 

في هذا المقطع ثمة ثلاثة رواة تظافرت جهودهم لإيصال المذكرات إلينا: أنا الشاعر، والراوي العارف بكل ما حدث وهو الذي نقل لنا الحال، والقلادة المنقول عنها وهي ضمير غائب آنياً وحاضر فاعل ستراتيجياً، وقلم الحواجب التي قامت نيابة بتلاوة المذكرات شعريا، وبتقطيع فني نقل لنا حال الطقس خارجيا وداخليا أولاً، ثم نقل حال المرأة التي تبدو مثل شمعةٍ شمعدانها القصيدة ثانيا. ثم نقل لنا بعد ذلك خبر انتحار القلادة الجميلة لأنها لم ترد الزواج من سكين عجوز ثالثاً، لتحضر شخصية القلادة الغائبة، ولتكمل المذكرات، وتنقل أخبار القادم من الأيام. وكل هذا جاء بأسلوب شعري خالص، وبنكهة مذكرات سردية حسب خدمت الفكرة العامة للبيان الموجه أنثويا ضد استبدادية الذكور، وهيمنتهم الجائرة.  الحالات الثلاث التي نقلت إلينا عبر أصوات الرواة فنيا أعطت انطباعا كاملا عن حياة القلادة أو القلادات(الإناث) بتوصيفات دقيقة استعارت ما هو خارجي لوصف ما هو داخلي فضلا عن المحددات المكانية للفعل القائم في النص، فالطقس الجليدي (كردستان) ببرودته الثلجية يتشابه وحياة المرأة (الكردية) الداخلية المعطلة بفعلٍ ذكوريٍ عنيف، ولكنها على الرغم من ذلك تشتعل مثل القصيدة، وتذوب مثلها أيضا، بل وتحترق متفحمة وسط الثلوج لتبلغ ذروة فعلها الاحتجاجي رافضة استسلام أنوثتها لمهيمنات الجليد الذكورية. وضمن المكان العام(خارج البيت) ثمة مؤثرات أخرى خارج مكانية ساهمت بدعم الفكرة الرئيسة لكتاب القلادة أيضاً عن طريق القصص، أو الحكايات المروية. تقول إحدى تلك القصص أن قلادة شجاعة فقدت عشر حبات من أقاربها، وذويها في حملات الأنفال استطاعت دس السم للقبعة (الضابط الانفالي) ثم اختفت لتعود بعد سقوط مبنى (دائرة الأمن الحمراء). وتروي قصة أخرى كيف أن قلادة عاهرة وقفت في وسط الشارع رافعة طرف ثوبها صارخة بوجه الذكور أنها تبيع جسدها حسب. تبيعه في الوقت الذي يبيعون   فيه أجساد الجبال، والسهول، والحدائق، والشموس، والأمطار، وما برحوا متربعين على كرسي شرف هذا الوطن دون اكتراث. في القصتين إدانة واضحة لسكونية الفعل الذكوري وعجزه عن فعل ما يليق بذكوريته المفرطة. وتبجيل لفعل الأنثى واقتصاصها من الرجال المؤنفلين بوجه خاص. القصتان أشارتا أيضا إلى الثقل الكابوسي الذي تنوء به الأنثى تحت ضغوطات الداخل(داخل البيت) والخارج(خارج البيت) وضغوطات الخارج مكانية( الضغوطات المؤنفلة) والتي على الرغم منها استطاعت كسر الحاجز القائم بينها وبين ما يحدث لمثيلاتها خارج البيت. هنا يستخدم شيركو صيغة اليوميات ليسجل بوساطتها الانتهاكات، والاغتصابات، والترديات، والتداعيات في واقع الحياة اليومية للقلادة فكل يوم من أيامها داخل البيت تخرج واحدة لترى ما ترى من أحداث مريعة ثم تنقل ما رأته إلى زميلاتها بشكل يومي إلا أن الخروج اليومي هذا لم يكفل لهن ابسط مقومات الحياة البسيطة المتواضعة داخل البيت الذي يختلف عن التوصيفات التقليدية التي جعلت منه مكانا للشعور بالأمان، والاطمئنان، والألفة، والمحبة، والسلام. لنتأمل، ونعاين هذا المقطع الصغير:

البيت...البيت...البيت

مكوثنا في البيت لا يضاهيه

مكوث الدجاج في الأعشاش

ولا الضباع في الجحور

بل ربما الأقباچ في الأقفاص

كلا...كلا...كلا

البيت...البيت...البيت                

 

أكد الشاعر على مفردة البيت ثلاثا ليضاعف شعور ساكنيه بالعزلة، وبالشبه الكبير بينه وبين الأمكنة التي تتحكم باغلاقها قوى بشرية ذكورية في أغلب الأحوال. ففي السجن تتوقف فاعلية الحركة، وفي القفص تتحجم فاعلية التحليق، وفي الجحور تتعطل فاعلية القوة، وفي قن الدجاج تخمد فاعلية البحث.ولكي يضاعف الشاعر التوكيدَ توكيداً فانه يرفض بالثلاث أن يكون القن، والجحر، والقفص من المشبهات بالبيت لان البيت الذي تقطنه الاناث هو اشد قسوة، وظلمة، وضيقا، وعزلة من الامكنة التي وردت كمشبه بها، ولهذا صار إلى توكيد مفردة البيت ثلاثا ثانية أغلقت حركتها الدائرية على نفسها في خاتمة المقطع الذي بدأ بها وفي اشارة مقصودة إلى تكرار ما يدور في حياة الأنثى داخل البيت.

وتستمر القلادة بكتابة، أو تلاوة مذكراتها التي تضمنت الكثير من الالتماعات الشعرية، والفكرية، والاجتماعية، والجمالية. تقول على سبيل المثال لا الحصر:

"كنت شخصياً أعرف جدولي مياه ،أحدهما جميل القوام، والآخر جميل الفكر، وعندما امتزجت مياههما، أصبحا أجمل نهر في العالم"

 

صورة شعرية معبرة عن نظرة القلادة الفلسفية، والقيمية للجمال المتكامل جاءت بشكل انتقائي، واستنتاجي بعد استعراض جمالي لأشكال القلادات وأنواعها. وفي خاتمة المذكرات لا تتوانى القلادة عن إبداء رأيها الانتقادي بمذكراتها:

"لقد شارف هذا القسم من مذكراتي على الانتهاء، لكن المذكرات التي تخلو من أنفاس قلادات الأنفال، وخصوصا قلادات مناطق (كرمسير) لن تصبح مذكرات..فأنصاف الهموم لن تروي ظمأي، عليه قررت استكمال هذه الهموم. أنا أشعر الآن وكأن جميع قلادات الأنفال تحيط بي، فأريد الكتابة بمداد آلامهن، قلادات الأنفال مصلوبات بخيط أسود طويل وحباتهن تتوسد أماسي بعضهن بعضاً"

ولأن الأفعال الأنفالية وأهوالها أكبر من أن تستوعبه الأنساق السردية أو الشعرية وحدها يجنح نص القلادة إلى الشكل، أو إلى الحوار الدرامي لاستيعاب شبكة هموم الأنفال والأهوال. الجميل في شيركو أنه يخفف عن قارئه سطوة الآلام، والهموم، والأحزان، والشعور بعظمة المأساة، وكارثيتها باشتغاله على لغة شعرية، طيعة، رشيقة فيها من الرومانسية ما يجعل حمل المأساة خفيفاً على متلقي تلك المأساة. المشهد الحواري الذي كتبته القلادة إذن هو جزء من مذكراتها، وبه يتم التداخل بين السرد (سرد المذكرات)، وبين الفعل (الفعل الدرامي). دار الحوار فيه بين القمر الذي يرى من علياءه ما لا تراه القلادات من على الأرض، وبين القلادات الثلاث اللائي حفرت الأيام في ذاكراتهن أبشع وأوجع الصور الأنفالية. وباكتماله تعود القلادات لإبداء آرائهن الانتقادية والتقييمية في المذكرات ككل. قالت إحداهن:

 "لم تكن هذه مذكرات حسب، بل كانت قصة، ونثراً، وعبرا،ً وكل شيء، وجعبة احتوت كل ذلك لكن الشعر كان فيها نادراً"

 

   إن هذا التقييم الختامي، بحد ذاته، يعد توكيداً لما كتبه شيركو"تنويه من المؤلف" في مفتتح (كتاب القلادة) حين قال مقيّما تجربة الكتاب:

 "ليس هذا الكتاب شعراً مجرداً ولا نثراً محضا، لا نظماً ولا سرداً، ليس كلاما منمقا ولا كلاما عاديا..انه ليس شعرا طويلا ولا قصة واحدة ذات فصول متعاقبة، بل بمثابة وعاء جامع يحوي جميع هذه العناصر في كيانه المنزاح. على هذا استوجبت بعض السياقات أن تنطلق الكلمات بوضوح تضعف معه سلطة الشعر، لكن الشعر يأخذ بناصية النص في سياقات أخرى فتنطق الكلمات شعراً."

 

ولم يكتف شيركو بالمشهد الدرامي السابق حسب بل تبع ذلك مشاهد أخرى راحت تتجسد على ارض الواقع منطلقة من الخشبة إلى الحياة، ومن الأقوال إلى الأفعال بعد أن تظاهرت القلادات/الإناث معلنة تمردها على السلطة الذكورية المهيمنة. لقد فتحت ستارة المسرح، وبدأت المرأة ملحمة حريتها ولن تغلق إلا على حريتها. ولهذا ومن اجله ختم شيركو نص القلادة ببدايته كي يظل فعل التحرر قائما على مدار النص والواقع.