مسرحية الجـراد
أربعة محاور لدراسة مسرحية الجراد
1- الجـــــراد(1) بين القصة القصية والمسرحية :
لم تكن فكرة (الجراد) مذ راودت زنكنه ، أول مرة ، محض فكرة عابرة ولا حدسا قدر لذهنيته الإمساك به في لحظة من لحظات مطاردات تلك الذهنية لحدوسها الشاردة بل إنها تولدت عبر رموز استكملت أولى ارجحياتها في قصة (الجراد)(2) ثم خضعت ، بمرور الأيام ، لعمليات تحكم الوعي فيها لتحرير الرمز من الأطر التي تحتبسه والتي تحد من حركيته ضمن مساحة محددة زمانيا ومكانيا ، بغية الوصول الى طريقة اكثر تلاؤما مع فكرة الكاتب خصوصا وقد زادته الأيام يقينية من أن عالم فكرته أوسع من أن يضغط في شكل أدبي يعتمد أول ما يعتمد ، أساسا ثابتا له ، الاختزال والتركيز . وان صراعها أحوج ما يكون الى الشكل الدرامي ، لاتصافه بالعنف ، منه الى الشكل القصصي الذي قيدها فيه .
ولم تكن فكرة كتابة (الجراد ) كمسرحية ، على وفق هذا التصور ، فكرة عابرة ، هي الأخرى ، ذلك لان زنكنه قد سبقها بمحاولتين جادتين في العام نفسه الذي كتب فيه المسرحية: الأولى تتلخص في اقترابه المتناسب من الأشكال الطليعية كما في قصة (الرجل الذي امتهن دراسة الكائنات البشرية ) (3) والثانية في استخدامه الفني للفنتازيا كما في قصته (حيث الناس يعيشون كالهواء )(4) . ومع أن من الأهمية بمكان دراسة القصة التي تمخضت عنها المسرحية ، إلا أنني اكتفي هنا ببيان بعض الملامح التي اكتسبتها بعد تحولها من الشكل القصصي الى الشكل المسرحي دلالات رمزية جديدة جعلتها اكثر عمقا واعمق بعدا واشمل حركة وادق مفهوما ليلتمس القارئ كيفيات تطور الفكرة من القصة القصيرة الى المسرحية الطويلة .
فالقصة تبدأ ، وكما عودنا زنكنه ، بالدخول المباشر من أدنى النقاط الى وسطها حين يقول على لسان (ئاسوس) وهو شخصية القصة الرئيسة : (والان سينتهي به الأمر – يقصد الجراد- الى اقتحام المنازل ) ثم ينتابه ألم بالغ لان القرية قد اختفت منها مظاهر إنسانيتها ، ولان خضرة المزارع قد اختفت هي الأخرى كما اختفت الكلاب والقطط ولم يبق أمامه غير أسراب الجراد . إن هذا الدخول المباشر غير المقترن بالثرثرة التمهيدية هو صفة قصصية ولا ريب . وسنرى كيف انه يختفي من الدراما ليحل محله الدخول التدريجي (المتنامي ) الذي يمهد لعقدتها تمهيدا متناميا متصاعدا نحو الذروة . أما المكان وهو في القصة قرية كردية على وجه التجديد ، فانه يأخذ في المسرحية شكل مدينة كبيرة لا تضم الفلاحين والمعلمين وحدهم بل وتضم أيضا طبقات وفئات اجتماعية مختلفة ومتباينة . وقد عمل الكاتب على أن لا يسمي الأماكن بأسمائها ، كما فعل في القصة ، بل أن يتركها عامة غير محددة ليضمن حرية الحركة واستمراريتها في رحاب اكثر شمولية وخارج أطر التحديدات الزمنية وتقييداتها وهذا ما بينه لنا الأستاذ الجليل يوسف عبد المسيح ثروة خير بيان في معرض دراسته لمسرحية (الجراد) حين قال : (5)
(إن الحركة قد لا تؤطر في أطر زمنية ومكانية معينة تحدد فعالياتها تقسرها على التشبث بانفعالات آنية . ذلك انه يمكن للفنان التحرك بحرية ، ما دام ملتزما بقضايا المجتمع الجوهرية . من ثم ليست الآنية ضرورة من ضرورات الفن بل قد تكون الآنية حجر عثرة معرقلة لمولية الفن واستمراريته في ظروف اجتماعية أو سياسية معلومة .. ومن هنا يمكن تجاوز هذه الآنية ، الى الرحاب الإنسانية الشاملة لكل الفعاليات الجزئية زمانا ومكانا . وهذا ما فعله الأخ محيي الدين زنكنه في مسرحية "الجراد" .)
أما الصراع في القصة فهو صراع بسيط محكوم بطبيعتها مكانيا وبشريا حيث يشكل الفلاحون فيها أغلبية ساحقة يقتصر الصراع عليهم من جهة ، وعلى الجراد الذي يرمز في القصة الى الهيمنة الإقطاعية والى قضم حقوق المجتمع الزراعي – من الجهة الأخرى . بينما يأخذ هذا الصراع في المسرحية طابعا طبقيا اشمل حيث نرى عناصره عبر اصطفافين طبقيين يقف أولهما مع الثورة ، ويقف الآخر ضدها . ويتحول الجراد الى رمز مفتوح لكل قوى الشر والظلام في العالم .
في القصة هناك عائلة نلمح ظلالها في أولى عائلتي المسرحية وقد أضاف عليها الكاتب تحويرات هي من مقتضيات العملية الدرامية .
ففي القصة هناك (ئاسوس) وهو معلم في مدرسة القرية المجاورة وهناك (روناك) شقيقته ووالدتهما العجوز . وهم يشكلون عائلة القصة الوحيدة . أما في المسرحية فهناك (الشاب) وهو عامل في مصنع (بعد أن كان معلما في القصة ) . وهناك شقيقته وأمهما العجوز بالإضافة الى شخصية أخرى لا نلمس لها وجودا في القصة هي شخصية (الأب) وهم جميعا يشكلون عائلة المسرحية الأولى لا الوحيدة لان في المسرحية عائلتان متناظرتان ايضا من حيث عدد الافراد ذكورا واناثا بغض النظر عن الفوارق التشاخصية بينهما .
أما شخصية ( مدير المدرسة ) الذي يمسخ الى جرادة في القصة فقد وضع زنكنه ما يقابله في المسرحية وهو( الدكتور ) . فان تغيرت الصفة الوظيفية لهذه الشخصية ، بعد مسرحة القصة ، فان شخصيتي (الخطيب ) و (المختار) ، بقيتا على حالهما في كلا العملين . وفيما يخص البطولة
ومفهومها الزنكني فان عملية التحول لم تؤثر عليها الا بما يخدم الفكر الذي اعتمدته المسرحية . فـ(ئاسوس) ، على سبيل المثال وان كان لا يخلو من المواصفات والشروط الأساسية التي حددها زنكنه لشخصياته وأبطاله ، على وجه التخصيص ، يستأثر بمساحة كبيرة من القصة وبإمكانية تشاخصية بدا من خلالها و كأن الجراد قصده قبل أي شخص غيره مما يعطيه أهمية فردية كتلك التي يتمتع بها أبطال القصص القصيرة . اما في المسرحية وبعد تحوله الى شخصية (الشاب) فان بطولته لم تعد كما هي في القصة متصفة بشيء من الفردية بل اكتسبت طابعا جماعيا حيث كل شخصية من الشخصيات الخيرة تنجز قسطا من البطولة لا البطولة كلها . فنحن لا نستطيع ، مثلا ، أن ننكر العمل البطولي الذي قام به (الأب) وهو يحارب الجراد أو ننكر العمل البطولة الذي قام به (الأب) وهو يحارب الجراد أو ننكر المواقف البطولية (للأعرج) أو نغض النظر عن بطولة (الزوج) العامل والد الطفل |. صحيح أن زنكنه لا يعتبر الموت شرطا من شروط البطولة ، كما في التراجيديات ، ولكن إلا يقتسم هؤلاء مهمة صنع البطولة بفاعلية وتأثير واضحين ؟ .
انهم يقتسمونها فعلا وهذه هي البطولة الجماعية التي دأبت المسرحية على تحقيقها انسجاما معي ثورية فكر الكاتب وحقيقة التزامه بقضايا الإنسان الجوهرية . إن البطولة الجماعية لا تعني إلغاء دور الفرد إلغاء تاما من عمليتها بل انها تؤكد دوره شريطة أن يتجلى من خلال المجموع لا من خلال الذاتية المغلقة . إن البطولة الجماعية ضد الفردانية لما تتصف به من أنانية وحب للذات . الا انها مع ذلك تأخذ الإبداع الفردي المتصف بنكران الذات لا بحبها الأناني بعين الاعتبار .
إن جميع هذه العناصر والرموز وان كانت تبدو لنا متشابهة في كلا العملين الا أن زنكنه قد أضاف عليها ما جعلها اكثر غنى واعمق دلالة . وكان لاستخدامه الرائع لطريقة المزاوجة الفنية بين الواقع والفنتازيا ، وهو صاحب تجربة في هذا المجال ، ما أضاف عليها شحنة إبداعية من خيال مطلوب في مثل هذه الأعمال التي تتعامل مع الوقائع التاريخية واليومية فتكسبها صفات أدبية تبعدها عن التنظيرات المملة والنظريات الجامدة والوعظ الجاف .
ولم تخل هذه العملية ، بأي حال من الأحوال ، من وعي الكاتب كضرورة وكشرط أساس لتحرره من التجربة الواقعية . ولهذا نجد فعلا ، وكما أستاذنا الجليل يوسف عبد المسيح ثروة ، وعي الكاتب مبثوثا في كل صفحة من صفحات مسرحية (الجراد ) .
1- شخصيات المسرحية :
في زمن العنف تكون لكل شخص قصة تلتقي في النهاية مع قصص الآخرين بعقدة واحدة . وهذه العقدة لا تعني أنها القصة أو المسرحية ، ذلك لانها ليست سوى ملتقى الأحداث والوقائع والأفعال . إنها شيء ذهني تماما، يصنعه الكاتب بعيد ترتيب الأحداث والوقائع والأفعال وتنظيمها تنظيما دراماتيكيا دقيقا ومعقدا . إنها وكما يقول اريك بنتلي (6) . (الكيفية التي توجد بها الاصطدامات الضرورية ) . ولكن هذه الاصطدامات لا توجد بغير الصراع وبغير الاستجابات العاطفية للصراع . إنها إذن حاوية هائلة للدوي لا الانفجار . وعندها تبلغ الأشياء درجات عالية من اتقادها الدرامي . إنها ليست الحياة كما يقول بنتلي ، أيضا وان بينها وبين الحياة الحقيقية تتوسط القصة . ولهذا فمن غير المجدي تجميع القصص بعقدة واحدة ما لم نستخدم عنصر العنف في كل منها ، ذلك لان الضرورة ، كما يقول تنسى وليامز ، تقضي أن تكون الأحداث اكثر عمقا مما هي في الحياة ، وهو نفس ما فعله زنكنه عندما جمع قصص شخوصه في مسرحية (الجراد )
وجعل كل قصصهم تلتقي بنقطة واحدة هي عقدة المسرحية . وحين أقول تلتقي فلا اعني الالتقاء المنظم الذي يسمح بمرورها من دون أن تحدث عملية (الاصطدامات الضرورية ) بل اعني
اصطدامها اصطداما سبق وان خططت له ، في ذهن الكاتب ، المسالك التي لا تؤدي الى تجاوز الاصطدامات بل الى حدوثها فعلا .
ولكي تكون دراستنا اكثر دقة لشخوص هذه المسرحية وقصصهم فأننا نجدول شخصياتها على الشكل الآتي :
المجموعة الأولى / العائلة الأولى
( الأب )
وهو قائد طليعي لا يعرف له عمر محدد
ـــــــــــــــــــــــــ
(الشاب) (الفتاة) (الام)
( الأعرج )
وهو رب العائلة الثانية سحقت رجله الحرب
ـــــــــــــــــــــــــــ
( الزوج ) الزوجة ) ( الام)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الطبيب/الرجل ذو البدلة البيضاء/البائع/الفلاح صاحب المعمل
عامل الخبز/سائق سيارة المعمل/وكيل شركة الايمان المختار
آخرون
من الجدول يتضح أن (الجراد) تتناول ثلاثة مجاميع بشرية تمثل بمجموعها مجتمع المسرحية بكل تناقضاته وتفاوتاته الطبقية والدرامية .
تتناظر المجموعة الأولى مع الثانية تناظرا نسبيا من حيث عدد أفرادها ، وتوجههم الفكري وعلاقاتهم بوسائل الإنتاج . فإذا كان (الأب) في العائلة الأولى قائدا خبر الحياة والنضال وذاق مرارة الخيبة ، فأن (الأعرج ) هو الآخر قد خبر الحياة ومر بتجربة الحرب المدمرة وذاق مرارة الخيبة إذ خرج من الحرب بساق واحدة . ومثلما لم يستطع الأول تحقيق أهدافه عن طريق النضال السياسي ، لم يستطع الثاني تحقيق أهدافه عن طريق العمل العسكري . غير أن هذا التناظر لا يلغي عملية التمايز بين الشخصيتين . بل أن الكاتب ، نفسه ، قد عمق هذا التمايز عندما أضفى على الشخصية الأولى عمقا رمزيا ومعنى دلاليا إذ جعلها خارج تحديداته الزمنية لاعمار شخوص المسرحية اولا وعندما ميزها بموقعها المهم ثانيا . الا أن هذا التمييز لم يقم الا على حساب اختفاء وحجب المعلومات المهمة التي تخص الشخصية الثانية . فنحن لا نعرف مثلا لم خاض (الأعرج) حربا ؟ ومع من خاضها ؟ وضد من ؟ .
اما الشخصيتان التاليتان في كلتا العائلتين فهما شخصيتا (الشاب ) و (الزوج ) . الأول لم يتجاوزالثلاثين بعد مسكون بحماس الشبيبة ونزقها . غير حاسم في المواقف التي تتطلب حسما . فهو يقف عاجزا مكتوف اليدين إزاء الضغوطات العاطفية التي تمارسها (الام ) عليه وتمنعه من مواصلة دوره في معركة الإنسان المصيرية ، مع ان ضميره مشدود الى مبادئ أبيه ومرتبط بقضيته التي هي قضية مجتمع استهدفته (القوة الجرادية ) الغشوم . غير واقعي أحيانا في تجاوبه مع مجريات الأحداث . وفي فهمه للوقائع .
اما الثاني الذي ت جاوز الثلاثين بخمس سنين فعلى الضد تماما من حيث وعيه وحسمه وحزمه وارادته في المواقف التي تتطلب حسما وحزما وارادة ومن حيث كونه مدافعا امينا عن طبقته . مقاتلا لا يكل في سبيل حقوقها . وقد رأينا كيف انه اختار طريق الشهادة وهي أعلى مراحل الفداء والتضحية ، في وقت كانت امرأته على أعتاب وضع (الطفل) الذي طالما تحدث عنه الاخرون وانتظروه . وهكذا بدلا من أن يذهب الى بيته كي يشارك وجدانيا في استقبال طفله ، سار في طريق المقاومة حتى اللحظة الأخيرة .
لقد أعطى هذا الرجل الحياة اكثر مما أعطى الآخرون جميعا وان محيي الدين لم يخطئ ابدا عندما جعل (الطفل/الفكرة . والطفل/الثورة والحياة الجديدة ) يولد من صلبه لانه بهذه الولادة يكون قد أضاف ميزة له مكنته ، في النهاية ، من إحلال التوازن الشخوصي بين كلتا العائلتين .
وهناك في العائلة الأولى (الفتاة ) وتقابلها في العائلة الثانية (الزوجة ) وهما متشابهتان من حيث استجابتهما وتقبلهما وحماسهما لاصول الحياة الجديدة . (الفتاة) من خلال رومانسيتها و (الزوجة ) من خلال واقعيتها . وكما ظل (الشاب ) رهين (المنفى ) ظلت (الفتاة) رهينته أيضا فهي اقل مواجهة لوالدتها (الام) واقل صداما معها . انها توفيقية أحيانا ولكنها حين تأزمت حالة الصراع نتيجة للاصطدامات العنيفة فيما بينهم وبين القوى الجرادية وعملائها ، نحّت عواطفها لتختار طريقها بتصميم وعناد ، ردا على الام ، التي اتهمتها بالحمق:
" أنا حرة .. لي الحق أن اختار الطريق الذي أريده " (7)
ان اختيارها هذا لم يكن بأي حال من الأحوال وليد عواطفها كفتاة ولكنه ناجم عن وعيها كامرأة أنضجتها الظروف والبيئة والمجريات فقاومت (الجراد ) ورفضت (الخطيب) لانه خانهم فأمسخ الى (جرادة آدمية) كما انها لم تأسف لأن شقيقها ضرب (الام) ضربة مميتة قبل ان توافق على ان تمسخ هي ايضا الى ، (جرادة ) بل انها أثنت عليه لانه حفظ سمعة أبيهما من الخزي . ولانه لابد لها ان تختار بين امرين :
عواطفها التي تدفعها لاتخاذ موقف توفيقي . وفكرها الذي يدفعها لاتخاذ موقف ثوري . وليس موقف (الزوجة ) بأقل أهمية من موقف (الفتاة) ولا بأقل تضحية منها . فلقد عانت الجوع ، وتحملت الألم ، وقاومت الجراح كي تحفظ ثمرة زوجها . وقد امتزجت في شخصيتها عاطفة الام والزوجة والحبيبة ناهيك عما اكتسبته من وعي وصلابة لا تلين وشجاعة نادرة بين النساء . فهي تؤمن ايمانا مطلقا بمقاتلة (الجراد) ولم تتوان في الخروج عندما كانت الأزمة في ذروتها للبحث عن زوجها لتقف الى جانبه ولتقاتل (الجراد) حتى اللحظة الأخيرة دون ان تأبه للموت ما دام الموت يوفر فرصة لنجاة (الطفل ) الذي هو كل ما تبقى لهم وللناس الذين يقاتلون الجراد .
اما الشخصيتان الأخريان فهما شخصية (الام) في العائلة الأولى وشخصية (العجوز ) في العائلة الثانية وبينهما تشابه غير قليل . فالأولى ترتبط بأبنائها بحب أناني تقوقعهم جراءه داخل المنزل لتضمن ابتعادهم عن مداخلات الصراع وتفجراته الجديدة لأنها لاتريد ان تخسرهم كما خسرت أباهم من قبل . ولم يبد عليها انها تأثرت بأفكار زوجها ، ولو بالقدر الذي يحول دون جعلها عرضة للتراجعات والتنازلات أمام أي ضغط يهدد حياتها الشخصية كما حدث لها فعلا في المشهد الأخير من المسرحية إذ كادت ان تقول (اني جرادة ) لو لا ان ابنها قد اتخذ قراره في اللحظة المناسبة ، وهو قرار مؤجل بعض الشيء فيما لو أخذنا الدور المهم الذي لعبه في بداية المسرحية بعين الاعتبار .
والثانية هي (العجوز ) وتمثل الاستعداد الكلي لتقبل القيم العتيقة والبالية بل انها تحمل هذه القيم أصلا ، وتحاول فرضها على ابنها (الزوج ) ليجعل من علاقته بزوجته كعلاقتها بأبيه (الأعرج) وهي علاقة تصدعت في الآونة الاخيرة حتى وصلت الى التهديد بالطلاق . لقد جعل المؤلف علاقة هذه العجوز بأخيها (المختار) علاقة القديم بالقديم . فإذا كانت قيمها رجعية فذلك ليس بغريب عليها باعتبار الأساس الأسرى الذي يمثله شقيقها(المختار) لا بالمعنى الوراثي ولكن بالتأثير والتأثر السلوكي والبيئي حسب . إنها باختصار رمز للقديم البالي والماضي المهترىء . إنها دودة بائدة ما تزال تنخر في كبد الحاضر وتفرز سموم عقمها في رحم ( الحياة / الحب ) وهي من حيث تدري أو لا تدري تناصر القوة الرجعية المتمثلة بأخيها حين تهبه ما للأسرة من (مبيد) . لقد استطاع المؤلف من خلالها ان يلقي ضوءا على طبيعة الصراع بين قيم الماضي المستهلكة وقيم الحاضر المتجددة .هنا يمكن القول ان زنكنه يتعامل مع المرأة كما يتعامل مع الرجل . فهو لا يريد ولا يفكر أصلا في أن يمنحها دورا بطوليا من دون تأهيلها للبطولة . فإذا كانت (الممرضة ) قد خرجت من بيتها إبان اشتداد الهجمة الجرادية لتساعد (الزوجة ) على إنجاب ( الطفل) . وإذا كانت (الزوجة ) قد خرجت بالرغم من الجراد للبحث عن زوجها كي تقف الى جانبه ثم لتموت دفاعا عن (الطفل) . فلا يعني أن صورة البطولة قد اكتملت لديهما على وفق منهج زنكنه الخاص بالتأهيل البطولي.(8)
وتجدر الاشارة هنا ، ونحن نستعرض شخصيات المسرحية ، الى ان زنكنه وحرصا منه على الموازنة بين العائلتين من جهة وبين العائلة الواحدة من جهة أخرى فقد جعل عدد أفراد الأسرة الأولى مساويا لعدد أفراد الأسرة الأخرى ذكورا وإناثا .
كما انه جعل عدد الذكور في العائلة الواحدة مساويا لعدد الإناث فيها ولهذا دلالته أيضا اما بقية الشخصيات فتتمثل أهميتهم في استكمال المسرحية كل شرائحها الاجتماعية التي يتكون منها مجتمع (الجراد) . وفي استيفاء عملية الصراع لشروطها وتضمنها لعناصر القوى المتصارعة سواء منها التي تظهر على خشبة المسرح ام التي لا تظهر . فالطبيب والخطيب كلاهما قاتلا الجراد . ولكنهما تخليا عن ذلك عندما اشتد الصراع واصبحت مصالحهما تبعا لذلك مهددة .فالطبيب لم يستجب لنداء (الزوج ) ولا الآخرين في مساعدة (الزوجة ) على الإنجاب المرتقب .
ولم يستجب لمناشدتهم إياه كي يساعد (الطفلة ) التي نهشها الجراد حتى وهم يناشدون روح الانسانية التي في مهنته . والخطيب تبلغ به الأنانية حدا يطالب معه والدة خطيبته ان تمسّخ هي الأخرى . كما انه يحاول بمعية (العجوز) ، التي انقلبت الى مسخ شائه ، الاعتداء على (الزوجة ) وقضم (الطفل ) بمساندة من الجراد . اما الفئات الأخرى فهم على التوالي :
المستخدمين (الرجل ذو البدلة البيضاء) ، الكسبة (البائع) ، الفلاحين(الفلاح) وهم جميعا ضد الجراد .
البرجوازية الكمبرادورية (وكيل شركة الايمان للاستيراد والتوزيع )، الرأسمالية (صاحب المعمل) ، الرجعية المحلية (المختار) وهم جميعا مع الجراد .
2- الإنسان والمبيد والعلاقات الجرادية
تبدأ مسرحية (الجراد ) مشهدها الأول بدخول (الشاب ) ليلقي (ثيمة) المشهد الاولى بانزعاج وتصميم وحدّة . نفهم انه بازاء مشكلة تتكرر . وان لا أحد غيره مؤهل لحل عقدتها . وإنها تكمن في الادعاء المتكرر (لصاحب المعمل) ان سيارة نقل الشغيلة الى معمله عاطلة ليوفر لنفسه ثمن الوقود . أي انه لا يكتفي بقضم فائض القيمة واستحواذه عليه بل ويتعدى ذلك الى ابعد حدود الابتزاز . ومن هذا تبدو العلاقة متناقضة بين الاثنين منذ البداية . بين الرأسمالي المستغِل و(الشاب) المستغَل . وان عقدة هذه العلاقة وان بدت لنا عقدة أساسية في المشهد الأول الا ان المؤلف لم يعمل على تغذيتها وتنميتها باتجاه تصعيد حالة الصراع الطبقي والدرامي بشكل تقليدي وواقعي كما هو متوقع لانه وضع الى جانبها عقدة اخرى هي عقدة (المبيد) التي نوّه عنها وسيعمل على تنميتها من خلال شخصيات هي في الأساس شرائح اجتماعية مختلفة من مجتمع المسرحية . فالرجل والأعرج والخطيب والطبيب جميعهم شخصيات رمزية ألقت بحوارها سريعا لتقول في النهاية : ان (المبيد ) قد اختفى .
الكاتب إذن لم يشأ الوصول الى هدفه المشهدي ، أخبارنا باختفاء المبيد ، وصولا مباشرا . وهو محق إذ يمهد له عبر أفعال حركية وأخرى انفعالية داخلية ليضع أمامنا التساؤلات وليضعنا امام التساؤلات المهمة لماذا اختفى المبيد ؟ ولماذا رأت تلك الشرائح الاجتماعية المذكورة الجراد قبل ان يراه (الشاب)؟ واخيرا لماذا نرى هذه الشرائح الاجتماعية نفسها ملزمة ، على اختلاف مستوياتها واعمالها وأعمارها ، بأخباره عن اختفاء المبيد ؟
هذه أسئلة وأخرى غيرها لا نجد لها إجابات دقيقة وعميقة الا في الكشف الدقيق عما يمكن ان تعنيه رموز المسرحية المهمة كالمبيد والجراد .
فالمبيد هو المقاومة الفعلية والفعالة للإنسان . والقدرة الكامنة للوقوف بوجه التيارات المعادية له .
واختفاء المبيد يعني بدء حركة أخرى تستهدف الإنسان وحركته الثورية الدائبة لبناء عالم اجمل وابهى . وان اختفاء (المبيد) غير مرهون بزمن محدد ولا بمكان محدد ولكن من دون إخفائه بطريقة أو بأخرى لا يتسنى للتيارات الجرادية ان تغزو العالم والجراد هو الشر . هو الرأسمالية بما تنطوي عليه من استلاب وجشع واستغلال . هو الظلم بكل قوته القاضمة لحقوق البشرية . هو الاستعمار بطمعه ونهبه واحتكاره . وما (صاحب المعمل ) في هذا المشهد الا شكل من أشكال الوجود الجرادي الكثيرة .
ان زنكنه واعتبارا من هذا المشهد يمهد لانتشار الجراد تدريجيا تماما كما فعل كامو في (الطاعون ) (9) إذ ابتدأ روايته بمشاهدة عدد قليل من الفئران هنا وهناك ولكنه سرعان ما جعلها تزداد وتنتشر في كل حي من احياء المدينة الساحلية .
ولكن من مصلحة من اختفاء المبيد ؟ ... أو لأقل من هم أولاء الذين استحوذوا عليه وبأساليب مختلفة . ثم أبعدوه عن متناول الناس ؟
يخبرنا المؤلف في مشهد (الجراد) الثاني ان أشخاصا مرتبطون بالقوى الجرادية ، بشكل أو بآخر ، هم الذين يقفون وراء اختفائه . فالمختار يقوم بسحب المبيد ، عن طريق أخته العجوز ، من بيت زوجها الرجل الذي آخذت منه الحرب ساقا ولقنته لقاءها درسا عظيما في الاعتماد على النفس . العجوز ، بسبب جهلها بضرورة المبيد وعدم حاجتها له ، تسلمه لأخيها المختار دون ان يخطر ببالها انهم " مهددون بالحشرات كل حين " والمختار بفعلته هذه يعقلن مساهمته مع أترابه ومع وكيل شركة الايمان كرتل خامس في تهيئة الأجواء المناسبة للهجمة الجرادية القادمة لان مصالحهم تلتقي من قريب أو من بعيد بالجراد / الإنسان . ولأن من مصلحة هؤلاء جميعا ان تتزعزع الإنسانية لتسود بدلا عنها علاقات جرادية مشينة .
تلك حقيقة خبرتها الحياة واكدها المؤلف الى جانب حقيقة الدور الفاعل الذي تلعبه التناقضات الأساسية القائمة بين قوتين متناقضتين . إحداهما جديدة وفتية ومتطلعة الى غد افضل . متطورة وواعية تدرك ضرورة (المبيد ) وترنو بقوة الى حياة ستدب عما قريب وستباركها .
والأخرى عتيقة بقيمها البالية وبجهلها وخوائها وتحفظها من كل جديد ومتطور . وبقدر ما تربط الأولى طموحها (بالحياة / الحب ) تربط الأخرى طموحها بمصالحها الانانية والخسيسة . ولعل المؤلف هنا يفعل كما فعل في المشهد الأول إذ يوجه المشهد نحو هدفه بطريق غير مباشرة ليشعرنا اكثر من أي وقت مضى ان شيئا ما يجب ان نحسه، ونحن نحسه فعلا ، قد بدأ يتحرك بشكل يدعونا الى الارتياب . ولكنه يفاجئنا ، بعض الشيء ، في المشهد الثالث الذي هو في الحقيقة تابع ومكمل للمشهد الأول ، بدخول سائق سيارة المعمل وهو يصرخ مستغيثا ومحذرا : ( ايها العالم .. ايها الناس ) (الجراد ....(10) الجراد ) وكأن صرخته هذه هي ساعة الصفر لبدء الصراع الحقيقي بين الإنسان والقوة الجرادية القادمة من الغرب .
ولكن قبل ان يفعل الناس شيئا تتكاثر موجات الجراد ثم تنزل أسرابه قضما ، على الجميع فيعود (الرجل ذو البدلة البيضاء) ليخبرنا ان الجراد قد هجم على المستشفى وقضم المرضى ولم يبق منهم غير العظام . ويعود الدكتور وقد اصيب بلوثة جراء ما تركه الجراد فيه من آثار عميقة . وكذلك الرجل الأعرج يعود وقد حاصره الجراد ولا يستطيع منه فكاكا لكنه مع ذلك يستصرخ الناس ان يصعدوا . وان يعلنوها حربا لا هوادة فيها لا على الجراد حسب بل وعلى كل الحشرات القذرة . وفي خضم هذا الصراع يتذكر(البائع) انه خبأ في عربته علبة مبيد آن له ان يستخدمها لكنه سرعان ما يكتشف هو الآخر إنها اختفت وان وكيل (شركة الايمان للاستيراد والتوزيع ) لابد أن يكون وراء اختفائها كما كان المختار من قبله . ثم يتقدم الجراد بأعداد هائلة أخرى . يقتل (الطفلة ) في حضن الأعرج الذي حاول حمايتها وفشل فأعلن عن موتها صارخا بجنون : انها ماتت وان الجراد قد امتص دمها ثم اخذ يضرب الارض بضراوة وشدة لكنه سرعان ما توقف ليصغي وليتأكد ان ما سمعه هو صوت الوليد الجديد . الجراد يقتل البراءة .. يمتص دمها .. يجفف دم الطفولة ولكن على رغمه تولد حياة جديدة مباركة .. فجر مشرق آخر يزحف بثقة على الأرض (أتسمع الى صوت الحياة في حفيدك ) يقول (الشاب) للأعرج مستبشرا .
(أيها الجد ..أيها الجد ) ها قد بزغ الفجر الذي تحدث عنه ابنك .. ها قد جاء الوليد إذن فالجراد لن يخنق الحياة .. قد يعطلها لكنه عاجز عن خنقها ) . ويتمنى (الأعرج ) لو انه يترك قبلة على وجه الفجر . على الحياة الجديدة التي لم يقدر له ان يستمر ليحياها ، ثم ينهض متحاملا على ساقه بالرغم من الجراد . يتكئ على (الشاب ) الذي الذي هم بأخذه الى حفيده بشجاعة بينما يصرخ الوكيل الذي ظل يرقب من محله سقوط البشر تحت هجمة الجراد الكاسحة :
(لا .. لا تدعوهما ينجون .. آه انه انه (يشير الى الشاب) بيته مستودع للمبيد .. انه ابن اخطر رجل .. اخطر رجل ) (11) .
هكذا يكشف (الوكيل ) وفي الظرف المناسب عن حقيقته كرتل خامس جلّ طموحه ان يرقب ويترصد ويطلق الشائعات المغرضة ويهيئ الأجواء الملائمة لانتصار الجراد .
وهنا يترك المؤلف كلا من (الشاب ) و(الأعرج ) ، دون ان يعلمنا ما إذا كانا قد استطاعا الوصول الى الحفيد ورؤيته وما حل بهما . ويأتي المشهد الرابع فنفاجأ بوجود (الشاب ) داخل منزله دون ان نعرف كيف وصل المنزل ولا كيف ترك (الأعرج ) وبأية حال ولا تخبرنا حتى الشخصيات الاخرى كالزوجة مثلا عن مصير عمها الاعرج .. لقد ترك المؤلف (الأعرج ) دون ان يحدد مصيره أو ان يعطي تفاصيل أخرى عن بقية حياته . وفي رأينا ان هذا العيب وان كان بسيطا الا انه يحسب حتى على هذه المسرحية .
ان صورة (الشاب) التي رسمها لنا زنكنه في المشهدين الأول والثالث والتي بدت فيها شخصية قوية بتصميمها وصرامتها وحسمها نراها في هذا المشهد على جانب من الضعف إذ تتخلى ، ولو مؤقتا عن أداء دورها التاريخي تحت ضغط العلاقات العاطفية الأنانية التي تبديها (الام) وتحوّلها الى أوامر تمنعه من الخروج والمشاركة في الحرب ضد الشر . وعلى الرغم من ان المنزل يضم بين ظهرانيه جيلين مختلفين وعيا وثقافة الا ان الجيل القديم (الام ) بقيمه الأنانية يبدو اكثر ثقلا من الجيل الجديد (الشاب) وشقيقته (الفتاة ) إذ تستخدم \(الام) نفوذها وسلطانها الامومي لتحو ل بين الباب وبين ابنها الذي اكتفى بإطلاق صرخات الغضب والتأفف والمعاناة وهذا موقف لم نكن ننتظره من شخصية بدت ، من سياق المسرحية ، اكثر قربا من مواصفات البطولة ، غير ان هوة الخلاف تتسع بينهم خصوصا بعدما رفضت وبلا إنسانية ان تفتح الباب لزوجة العامل التي جاء تطلب المساعدة لصغيرها بظروف يصعب فيها الخروج فيتأجج اثر هذا الخلاف صراع درامي
يرتكز على فعلين : أحدهما خارجي معبر عنه بأفعال حركية وأخرى إيمائية . والآخر داخلي
متمثل بالمعاناة الداخلية والعنيفة جراء الشعور بالعجز وضعف الإرادة التي تحول دون قطع العلاقة العاطفية الأسرية بين (الشاب) وأمه مع ان هناك ضرورة لقطعها ضرورة تقتضيها مصلحة عالم يقف على شفا الهاوية بسبب الجراد . وإذا كان (الشاب) لا يني يتهم أمه بان حبها مبني على أساس تضحية تافهة . فانه شخصيا لم يجرب التضحية بأمه من اجل الجموع التي يهددها الجراد . وفي سبيل ان لا يموت منفردا بعيدا عن رفاقه خصوصا بعدما عرف ان سائق عجلة معملهم قد استشهد وكذلك جاره العامل وعامل الخبز ، الذي كان يأتيه بالأوراق السرية بين طيات الخبز .
ان احتباسه في المنزل انما حوّل المنزل الى (منفى ) .. قلعة أرادت \(الام( ان تتحصن داخلها معه من المخاطر والجراد . لكن الجراد يهاجم الجميع حتى (المنفى ) مادام في المنفى اناس يرى ان من مصلحته القضاء عليهم . انه يهدد الجميع حتى (الام) نفسها . و من تهديده هذا تتجدد الحاجة القصوى للمبيد . تلك الحاجة المستحيلة التي ما انفكت تتحول الى اداة تعذيب للشاب .. اداة تدخل في نفسه الارتياب حتى من سلوك ابيه الخطيرة . لان أباه كان قادرا على جعل الامور تسير سيرا حسنا باعتبار مكانته ومركزه القيادي والخطورة التي يشكلها امام الجراد . لقد فرض المؤلف على شخوص هذا المشهد اعنف انواع النفي اذ نفاهم حتى داخل جلودهم في منزل ليس اهون من سجن وقد ضاعف من عذابات (الشاب) اذ قطع المشهد ليكشف لنا عبر مشهد اعتراضي جديد معاناته جراء ملايين الاسئلة التي تحاصره ولا يستطيع ضميره خلاصا منها الا بتوجيهها الى ابيه . ونراه فعلا في مشهد (المحاكمة ) كمن يقاضي أباه ويلقي عليه التهمة اثر التهمة فيقول :
الشاب : الدنيا تغرق يا أبي .. كسفينة بملايين الثقوب (12) .
الأب : (بهدوء وبإحساس بالذنب ) ، ادري
الشاب : وقد كنت تدري إذ كنت أحد قادتها .. إنها قد غدت كالغربال وهي تمخر عباب بحر هائج يتربص بها القراصنة من كل مكان ، ولم تعمل شيئا .. لماذا . لماذا ؟ .
الأب : حين كنت في قيادتها كانت سليمة ، قوية تتحدى الموج وكلاب البحر .. وقد نخرها الدود بعدما أبعدت عنها .. وابدل ملاحوها بمجموعة من الآلات .. آلات صماء بكماء عمياء
وعبر هذا اللوم المستمر يحاول (الشاب) ان يعقلن حالة عذاباته الداخلية التي أوقدت فيه جذوة تأنيب الضمير احتباسه في (المنفى ) وتحجيم مشاركته الفعلية في معركة الإنسان واستبعاده من دوره القيادي فيها . وما (الأب) في هذا المشهد الا رمز لاهتراء القيادة وسلبيتها . ولهذا فهو لا يوجد الا في ضمير _الشاب) الذي أحس بذلك الاهتراء وبتلك السلبية إحساسا جعله يستنطقه في بقعة ضوء هي كوة ضميره التي يطل منها على الحقائق المرة . يقول لأبيه لائما :
[ " أتذكر حين (13) استأذنتك في الاحتفاظ بكمية من المبيد .. نهرتني بقسوة
" لا تدع أفكارا مجنونة تراودك " يا أبي المزرعة مهددة بالجراد .. سيبتلعها الظلام ولن تقتصر
الظلمة على المزرعة وحدها .. ستزحف حتى تشمل كل حياتنا تغتال النور .. تقتل الشمس .. تدنس الهواء .. قلت بغلظة " ليس هذا من شأنك " ، من شأن من اذن يا أبي . لماذا يكون الموت والاختناق والبؤس من شأني ولا يكون الدفاع عن نفسي من شأني " ] .
ثم يعود بنا المؤلف من ضمير(الشاب) بعد ان اختفى (الأب) من المشهد تدريجيا الى الواقع مرة أخرى وقد بدا ( الشاب ) مرهقا متعبا وهو يسلم رأسه الى حضن أمه ، التي ظلت منذهلة في محلها بوداعة .
في المشهد الأخير وبعد ثلاثة ايام يكرر المؤلف نفس المنظر السابق داخل المنزل / المنفى . ولقد كان حريا به ان يرينا الأحداث المهمة والمصيرية مباشرة ولكنه اكتفى بتوصيلها من خلال المشاهدة عبر النافذة العلوية ، المطلة على النهر ، عن طريق (الفتاة ) . ومن بعض الشخصيات التي دخلت المنزل اما لجوءا اليه كالزوجة أو لمصلحة أنانية وقذرة كالخطيب . أو بالمشاهدة المباشرة من قبلنا عبر النافذة الضيقة لصالة المنزل .
فالفتاة تخبرنا بأن رفاق شقيقها قد اختاروا مصيرهم بإرادة لا تلين كصديقه في المعمل وسائق سيارة المعمل وعامل الخبز ثم العامل والد الطفل .
والزوجة تخبرنا ان عمتها العجوز قد استحالت الى مسخ . والخطيب يخبرنا ان والد (الشاب ) كان يقاتل الجراد بضراوة وقوة وبطولة حتى انه كوم منه جبالا كثيرة . وان الجراد كان يستهدفه بشكل غريب حتى تمكن من افتراس كل جسمه باستثناء عينيه . ومع ذلك ظل يستصرخ الناس ليصمدوا وليقاتلوا :
" انها الثورة ايها الرفاق فقد قامت الضحايا تنتقم " (14) .
" الى المزيد من المبيد لا تدعوا الجراد يخنق الثورة لا تدعوا الجراد يلطخ رايات المحبة"
ويخبرنا الخطيب أيضا ان الأب لم يستطع بلوغ المزرعة بسبب ثخن جراحه لكن ابنه (الشاب) يقول بتصميم :
" ان لم يبلغها فسأبلغها .. انا .. سأواصل طريقه حتى أحقق هدفه "
ولكن الجراد ، و على الرغم من كل هذا التصميم وهذه المقاومة يتمكن من الثورة فيعطلها لقد اقتحم حتى (المنفى ) هاجم الجميع بدأ بقضمهم . وبدأت العجوز – المسخ تطارد مع الجراد (الزوجة ) لتنقض على الطفل فتقضمه لكن (الشاب) يبعدها بركلة منه وبركلة أخرى يبعد الخطيب الممسوخ لانه يحاول إسقاط (الام ) في حبائل الجراد إذ يقول ناصحا قولي اني جرادة لتستطيعين فكاكا من الجراد . وبسبب ضعفها وقسوة الجراد عليها تفقد قوة احتمالها فتقول اني ... لكن الشاب يعالجها بضربة مميتة تحفظ شرف أبيه الذي ما قال ، بالرغم من جراحه ، اني جرادة .
وينتهز الجراد الفرصة فيهجم على (الزوجة ) هجمة عنيفة تسقطها فتهيب بالشاب ان ينقذ الطفل فينتشله منها ويبحث عن منفذ يهرب منه وقد أحاطه الجراد من كل جانب وهم الخطيب والعجوز بقضمه . غير انه يضم الطفل الى صدره بقوة ويقذف بنفسه من خلال النافذة وهو يصرخ:
لن أكون جرادا فيتحول صوته المنفرد الى صرخة جماهيرية صاخبة لن نكون جرادا .
3- الأسلوب المشهدي في المسرحية :
تقع أحداث المسرحية في ستة مشاهد لم يحدد المؤلف ايها يشكل الفصل الاول وايها الثاني ربما للحفاظ على اسلوبه المشهدي في المسرحية . ولكننا نستطيع ان نقول واثقين ان المشاهد الثلاثة الأولى التي جرت أحداثها تباعا في الشارع وفي منزل العالم ( والد الطفل ) وفي الشارع مرة ثانية تشكل بمجموعها الفصل الاول ، اما المشاهد الثلاثة الاخرى التي جرت احداثها جميعا في المنزل فتشكل فصلا ثانيا للمسرحية .
في الفصل الأول :
يقطع المشهد الثاني أحداث المشهد الأول قطعا لينا لتسلط الاضواء على شخصيات اخرى .
وليكشف عن علاقات ما يزال القديم فيها يشكل ثقلا بل ورما سرطانيا في جسد العلاقات الإنسانية الجديدة . وبقدر ما أفادنا هذا المشهد في التعريف والمتابعة فانه عمل على تأجيل احداث المشهد الى المشهد الثالث . وكأن المؤلف أوقف الصورة عن الحركة في نهاية المشهد الأول ليواصل تحريكها ، فيما بعد ، في بداية المشهد الثالث والذي هو تابع ومكمل للمشهد الاول كما اسلفنا .
في الفصل الثاني :
لا يقطع المشهد الخامس المشهدين الرابع والسادس ولكنه ينعزل عنهما قليلا بواسطة حزمة الإنارة المركزة ليظل الفصل محتفظا بالمنظر نفسه في مشاهده الثلاثة .
يتألف الفصل الأول كما أسلفنا من ثلاثة مشاهد يبلغ الأول فيها ثلاث عشرة صفحة . ويبلغ المشهد الثاني إحدى عشرة صفحة بينما يبلغ الثالث ثلاثين صفحة . أي ان مجموع الفصل كاملا أربع وخمسون صفحة .
اما المشهد الرابع فعدد صفحاته ستون والخامس إحدى عشرة والسادس ثلاث وسبعون . أي ان مجموع صفحاته كاملة مائة واربع واربعون صفحة .
من هذه الأرقام نستدل على ان حركة المسرحية الديناميكية قد ادت بالنتيجة الى نموها نموا بؤريا – موجيا وصل الى أشده ليبدأ من بؤرة جديدة اخرى .
الأرقام هنا تتجمع حول بؤرة مشهدية واحدة ولكنها سرعان ما تأخذ بالزيادة المطردة . فالمشهد الأول ضم ثلاث عشر صفحة والثالث ثلاثين والرابع ستين والسادس ثلاثا وسبعين . هذا فيما لو استثنينا المشاهد الاعتراضية كالمشهد الثاني والخامس والذي ضم كل واحد منهما إحدى عشرة صفحة .
ولو اننا نظرنا الى المسألة نظرة اعم لوجدنا ان هناك فرقا موجيا كبيرا بين الفصل الأول ، اربع وخمسون ، والفصل الثاني مائة واربع واربعون . حيث يبلغ النمو الموجي أقصى اتساع له في نهاية المسرحية . وهذا يدل على مهارة الكاتب في محاولة إعطائنا الصورة الحجمية للهجمة الجرادية . أولا . ولكي لا ينهي المسرحية حيث انتهت بل ليجعل فعلها مستمرا مادامت هناك شخصية ولدت في زمن المسرحية وستحيا بعدها . وستكون بؤرة لنمو موجي هائل يحقق حلم الإنسان الذي قاتل الجراد على مدى سنين طويلة .
بقي ان نقول ان التقطيع المشهدي لم يكن تقطيعا ملحميا كما يبدو لان خيطا دراميا متصلا بين مشهد واخر لا من حيث الفكرة العامة للمسرحية كما في المسرح الملحمي حسب ، بل ومن حيث الشكل والبناء أيضا باستثناء طريقة القطع الاعتراضية في المشهد الثاني . ولو ان المؤلف تتبع حركة ( الشاب) والرجل (الأعرج ) فيما بعد الشمهد الثالث لاصبح الترابط التسلسلي متينا في المشهد الواحد والذي يليه .
على العموم تجري أحداث المسرحية في مكانين هما الشارع والمنزل .
الأول واسع ومفتوح والحركة فيه اكثر تدفقا وحيوية وحرية . والثاني مغلق وضيق والحركة فيه مقيدة ومحدودة . ومع انه كان من الأهمية بمكان ان ينقل لنا المؤلف الأحداث من الشارع الملتهب بمزيد من التفاصيل المهمة الا انه فضل ان ينقل لنا ما نحن بحاجة اليه من منزل (الشاب) ليجعلنا نشعر بثقل كابوس الجراد وبالضغط المتزايد الذي يمارسه ضدنا ونحن قابعون في قواقعنا وبالخطأ الذي نرتكبه بالانغلاق والبقاء في قواقعنا وداخل جلودنا وكأني به يقول اخرج ايها (الشاب) وأنت أيها الجمهور من صالة العرض المغلقة هذه وساهم بلا تردد وبلا خوف بقتل الجراد . فلا حياد ولا مساومة ولا تهاون لأنكم محكومون بأحد اختيارين المسخ أو الحياة الحرة الكريمة .
..................................................
هوامش
(1) نالت هذه المسرحية جائزة الكتاب العراقي المتميز في المربد عام 1970م.
(2) قصة (الجراد)نشرت في صحيفة (التآخي ) العراقية بتاريخ 16/8/1968م.
(3) مجموعة الكاتب محيي الدين زنكنه القصصية (كتابات تطمح أن تكون قصصا ) بغداد 1986م.
(4) مجموعة الكاتب محيي الدين زنكنه القصصية (كتابات تطمح أن تكون قصصا ) بغداد 1986م.
(5) (الإنسان والمسخ والجراد) يوسف عبد المسيح ثروة – مجلة الثقافة الجديدة –العدد23 لسنة 1973 م .
(6) الحياة في الدراما ـ أريك بنتلي ـ ترجمة جبرا ابراهيم جبرا ـ المكتبة العصرية ـ صيدا ـ بيروت.
(7) مسرحية الجراد – مطبعة دار الساعة – بغداد 1970م .
(8) (هذا هو محيي الدين زنكنه) صباح الانباري- صحيفة العراق- العدد 5286 لسنة 1993م.
(9) (الجراد والطاعون هل يلتقيان ) – حسين الجليلي – صحيفة التآخي الصادرة بتاريخ 1/3/1971م
(10) (مسرحية الجراد ) مطبعة دار الساعة – بغداد 1970م
(11) المصدر السابق .
(12) المصدر السابق .
(13) المصدر السابق
(14) مسرحية الجراد .